في غِبْطة الدولة والتاريخ

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

ما بين قدر الدولة وقدر التاريخ، لم يختر الزعيم المغربي عبد الرحمن اليوسفي، أول سياسي معارض يدخل السلطة عن الطريق السيار للإصلاح بدون دبابات، أيهما يليق بحياته. ذلك لأن الرجل كان زاهدا كبيرا في الأضواء والألقاب والمناصب والمسؤوليات، لكنه الموت اختار له مقاما فيهما معا، وفي قلوب الملايين من المغاربة الذين تحسروا على رحيله.
ولعل الذين احتاروا قليلا في فهم الأسى البليغ، الذي وحّد المغاربة، من أصغر مواطن في البلاد إلى ملكها، وهم يودعون شخصيةً آثرت الصمت لغةً في السياسة، والفعل أثرا في التاريخ، تساءلوا، من أين يأتي هذا الاحتضان، في لحظات من تاريخ المغرب، وربما العالم يعرف انهيارا شاملا في صورة السياسيين والقادة والمسؤولين عن الشأن العام؟
بالنسبة لمؤرّخي الدولة، هم يرون في الرجل الذي استجاب للنداء العميق لمصلحة المغرب، في تاريخ طويل وحافل، أنه ابن الشعب الذي استطاع أن يجاور أكبر اللحظات في تاريخ بلاده، من التأطير النقابي إلى النشاط السياسي إلى حمل السلاح إلى تنشيط الرياضي إلى الكفاح الإعلامي، من أجل التحرير والديمقراطية… بدأ حياته بتأطير الطبقة العمالية، في الوقت الذي كانت الحركات التقدّمية واليسارية العالمية ترى أن من الضروري الانتصار لحرية البروليتاريا قبل الأوطان، فآثر ربط التحرّر العمالي بالتحرّر الوطني.
وبعد بيانات النقابات والحزب السياسي الذي يؤطرها آنذاك (حزب الاستقلال)، كان عبد الرحمن اليوسفي قد اختار العمل المسلح، في خمسينيات القرن الماضي، تحت نير الاستعمار. ولما تم نفي العاهل المغربي، أبي الأمة كما يحلو للمغاربة بود عميق أن ينادوه، محمد الخامس، باعتباره اختار الحركة التحرّرية في بلاده، عكس كثيرين من القادة والملوك في تلك الفترة  الحرجة من القرن الماضي الذين سايروا قوة الاحتلال.
عبد الرحمن اليوسفي، الذي قدمه الملك الحسن الثاني لأبنائه وعائلته، عند تعيينه رئيسا لحكومة التناوب التي قادت المعارضة في نهاية تسعينيات القرن الماضي إلى سدة الحكومة، بأنه «أكبر مهربي السلاح»، هو من ثلةٍ جد محصورة من الذين أسسوا للمقاومة المسلحة وجيش التحرير، في الوقت ذاته، يسهر على نشأة فريق رياضي، اعتبره حاضنة شعبية لممارسة هوايةٍ هي، في عرف الوقت النادر ذلك، هوية نضالية وملعب لخصام رمزي مع الفرق التي كان الاستعماريون الفرنسيون يربطون بها علاقاتٍ مشبوهة مع المغاربة.
بالنسبة لمن يبحث عن نبل السياسة، الرجل من طينة نادرة، فضّل دوما السلوك الأخلاقي في علاقاته داخل حزبه الذي أسسه بمعية كبار القادة التاريخيين للوطنية والتقدمية في المغرب، المهدي بن بركة، والفقيه البصري، وعبد الله إبراهيم أول رئيس حكومة يساري في المغرب المستقل في نهاية الخمسينيات، والمحجوب بن الصديق الزعيم الدائم لأول مركزية نقابية، الاتحاد المغربي للشغل، وأقواها إلى الآن، ثم عبد الرحيم بوعبيد الزعيم التاريخي لليسار المغربي وربان سفينة المعارضة القاسية في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات. وكذا في علاقته مع الآخرين أيضا، ومع المال العام، ومع كل منافع السياسة. لهذا يرى المغاربة أن عبدالرحمن اليوسفي لا يمت بصلة للسياسيين الذين طغت أخبارهم في العقد الأخير، حتى صار الملك نفسه ينتقد تهافتهم علنا، ويعلن أنه لا يثق فيهم، سياسيين، على عكس المرحوم اليوسفي، لم تبتكر السياسة فيهم أي التزام أخلاقي.
بالنسبة لأجيال متتابعة، جسَّد اليوسفي نبل السياسة التي لا يغتني صاحبها، ويحافظ لها على  براءتها وطراوتها النضاليتين. وبالنسبة للأجيال الجديدة التي لم يطلع أبناؤها بما يكفي على قرن من حياته العامة والثرية، كان النموذج الحي لأخلاقٍ سمع بها، وقيم ومواقف لكبار رجالات الوطن المؤسسين والمحررين العظام، وسلوكه يبعثهم أحياء، ويحول طوباويتهم إلى مادة سلوكية قابلة للقياس، كما يريد الجيل الحاضر، فهو دخل السياسة وخرج منها بلا نشيد ولا ياسمين ولا حسابات بنكية ولا ثروات ولا مواطنة تفضيلية. ولأنه كان لا يحب المال، ربما وقع له ما وقع لأحد قادة التناوب الإسباني، أدولفو سواريس، الذي قال عنه الملك خوان كارلوس في مذكراته «لقد تحالف عليه أصحاب الثروة وباعة الأوهام النقابية، لأنه كان لا يحب المال ويزدريه».
أعاد الراحل إلى السياسة بريقها، والناس يرونه يتجول بينهم، ويحضر معارض فنانيهم ويلتقي بسطاء مناضليهم، مستعيدا سيرته الأولى، ابن الشعب البسيط الذي دخل التاريخ حيا، لكنه لا يريد أبدا أن يجعل من حياته متحفا من شمع أو من أثريات ذهبية. وكان غريبا، في سياق التاريخ السياسي المغربي، أن يصرّ الحسن الثاني، الذي عرف اليوسفي في عهده السجن والأحكام القاسية والمنفى ست عشرة سنة، على أن يخاطب فيه صفة التعفف هاته والبعد عن المناصب، لكي يكلفه بأكبر مهمة يمكن أن تؤول لقائد سياسي في نهاية العهد السابق: حكومة سياسية لانتقال ديمقراطي وانتقال ملكي أيضا من عهد الحسن الثاني إلى عهد محمد السادس.
وعندما أنهى اليوسفي الفترة الانتقالية (1998 – 2003) بمحاضرة نقدية ألقاها في المعهد الملكي البلجيكي في بروكسل، وتشرفت بترجمتها في اليوم الذي عاد فيه إلى المغرب، لم يركن إلى الصمت، كما لو أنه لا رأي له، بل آثر أن يشهد، ككل القادة التاريخيين، على مرحلة بمسؤولية ووضوح كبيرين، وفيها قراءة لما آلت إليه تجربة التناوب، ووقوفها من دون الوصول إلى هدفها الأسمى، أي استكمال الانتقال الديمقراطي، لا سيما بعد تعيين رجل تكنوقراطي، على رأس الحكومة التي جاءت بعد حكومته. وعلى الرغم من ذلك، لم يجعل أبدا ذلك بوابة للقطيعة مع الدولة ولا مع التاريخ، واستمر، رصيدا أخلاقيا في بلاده، قبل أن يكون رصيدا حصريا لحزبه (الاتحاد الاشتراكي) الذي غادره في سنة 2003، بعد رسالة استقالة تشبهه: صامتة، بلا تفسيرات ولا صراخ في الإعلام ولا تكسير عظام الحزب والدولة.
اليوسفي هو، في محصلة التاريخ والسياسة، مغربي جعل من الوطنية مدخلا للفعل الميداني، في السلاح والكتابة والسياسة والرياضة والديبلوماسية والعلاقات الدولية، وهو يؤسس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، أو نائب الأمين العام للمحامين العرب، أو نائب رئيس الأممية الاشتراكية التي تضم الديمقراطيين في العالم. كان يعرف أن فجر الديمقراطية آت لا ريب فيه، لكنها ديمقراطية الأرض التي تحت أقدامنا، لا ديمقراطية معلقة بلا وطن، في أممية فارقة وغارقة في الهلامية. وهو أيضا تقدمي، من طينة القادة الذين دخلوا إلى الفكر الاشتراكي والعالمي من بوابة الوطنية. لهذا عندما نفي في عواصم العالم، لم يجعل من خصومته مع نظام الحسن الثاني مبرّرا لمعاداة دولته، والدخول في معادلات التنافس الدولي أو الإقليمي المتاحة وقتها لتنغيص حياة الحكم، بل دافع بشراسة فاقت شراسة الدولة في حماية الوحدة الترابية للبلاد.
اهتز المغاربة، وهم يرون أن الموت قاده، إلى جانب رفيقه ونموذج آخر للعفّة السياسية، مولاي عبد لله إبراهيم، أول رئيس حكومة يسارية في المغرب، فجاء قبراهما متجاورين، تجاور قائدين استطاعا الألفة مع التاريخ واستدراج الأبدية معا. كلاهما أسس نموذجا سياسيا وتنمويا واقتصاديا في البلاد، الأول في بداية استقلالها، وظلت تحيا به إلى حين استنفدته بعد أربعين سنة، وجاء الملك الراحل يعلن زمن السكتة القلبية، فجاء الثاني لينقذ بلاده، ويؤسس نموذجا سياسيا وتنمويا واقتصاديا جديدا، يرحل والبلاد تبحث لها عن نموذج ثالث لها.
ولعل ما شغل المغاربة كثيرا في حياة اليوسفي أن يعلن ملك المغرب عن شيء لم يسبق إليه أحد، تسمية شارع في مدينة طنجة، بحضور الملك وحضور اليوسفي، باسم هذا الأخير. لم يكرّم أحد قبله تكريما مثيلا وهو حي يرزق، ويحضر تدشين الشارع. وهو حي أيضا، تم إطلاق اسمه على فوج من خرّيجي المدرسة العسكرية المغربية. وكان مثيرا للغاية أن يعيد المغاربة في منصاتهم التواصلية نشر صورة الملك محمد السادس وهو ينحني ليقبل رأس اليوسفي الراقد في إحدى مصحات البلاد، عندما أصيب بوعكة صحية سابقة.
كل هذا الامتنان كان لابن الشعب الذي استطاع أن يجمع السياسة والأخلاق، لكي يخدم التاريخ والدولة معا، ويقيم صرحا لسلوك اشتراكي ديمقراطي مقنع ببساطته.. في غِبطة العزلة والتاريخ.
نشر بالعربي الجديد
يوم ثاني يونيو 2020

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 03/06/2020