على هامش جائحة كوفيد 19: مواقف وسلوكيات بين الحداثة والتقليد

علي بلجراف

يكشف ماضي وحاضر الأوبئة والجوائح عن وجود علاقة وطيدة بين الأزمة كواقع حال والقطيعة كفرصة متاحة وكأفق منظور. إذا كانت الأزمة بهذا المعنى تحيل على وضعية صعبة التحمل،فإن القطيعة تحيل على ما تتيحه الحالة الراهنة من إمكانات الفعل والمبادرةلتدبير زمن سريان الأزمة بأقل ما يمكن من الآثار والخسائر والتداعيات كما تحيل أيضا على التأسيس لوضعيات جديدة، صحيا واجتماعيا واقتصاديا، لتفادي العودة إلى الوراء. لكن كيف يمكن تصور التجاوز والتعافي الفعلي من الأزمة بالمعنى العام ؟ بعبارة أخرى، إلى أي حد تعتبر الأزمة بصفة عامة وأزمة كورونا الحالية بصفة خاصة، فرصة للتجاوز والإبداع والابتكار وخلق وضعيات جديدة، ليس فقط لتفادي العودة من جديد إلى وضعية الأزمة بل وأيضا من أجل مزيد من تحديث الوضع البشري كدولة وكمجتمع على طريق الإبداع والتجديد على المستويات الصحية والاجتماعية والاقتصادية؟
يتبدى من زمن أزمة جائحة كورونا الحالية في التجربة المغربية أن بعض ملامح الحداثة والتحديث قد أخذت تترسخ وتتعمق، إن على مستوى آليات اشتغال ووظائف مؤسسات الدولة أو على مستوى المجتمع. لكن دون أن يعني ذلك أو يلغي استمرار سلوكيات ومواقف يمكن نعتها بالتقليدانية نظرا لما كان لها من حضور متكرر في وضعيات مشابهة وطنيا وعالميا وبصفة خاصة على مستوى تلقي الأوبئة وتمثلها ثقافيا واجتماعيا.
وبالفعل، فإذا كانت الدولة قد أبانت،من الناحية المؤسساتية،عن إعمال سلوكات وممارسات حديثة وحداثية خالصة، في مجالات حيوية كالصحة والتعليم والأمن، في حدود معقولة، منذ بداية ظهور الوباء في بلادنا، فإن المجتمع قد توزع في مواقفه واتجاهاته، الفردية والجماعية، بين ميلين أساسيين يتراوحان بين التحديث تارة والتقليد تارات أخرى. لعل من مظاهر هذه الازدواجية في المواقفالتي تدل على التأرجح بين الحداثة والتقليد، على مستوى المشهد الوطني العام، ما تم تسجيله منمبادرات العمل التضامني المنجز من طرف منظمات المجتمع المدني في تكامل مدروس ومفكر مع العمل الحكومي في نفس المجال. صحيح أن التدخل والابتكار من قبل المجتمع المدني كقوة توازن إضافية في هذا المجال ليس وليد اليوم، فقد تكرس وأعمل في مناسبات سابقة نذكر منها على الخصوص زلزال الحسيمة. وهذا ما يجعل من هذا التساند والتكاملبين إنجاز الدولة ومساهمة المجتمع المدني علامة من علامات التحديث في هذا المجال.

تدبير رسمي حداثي للأزمة

أخذا بعين الاعتبار الفرق والتفاوت الكبيرين بين إمكانيات الدولة وإمكانيات المجتمع ممثلا في منظماته وجمعياته، وبعيدا عن كل تضخيم أو تبجيل زائد،لكن أيضا بدون أي تبخيس للمجهودات المبذولة في إطار الاختصاصات الدستورية الموكولة لكل قطاع من القطاعات الحكومية المعنية، يسجل لمؤسسات الدولة المغربية أنها أبانت عن تدبير عقلاني وحداثي لأزمة كورونا بدءا بالإجراءات الوقائية المعلنة في المجال الصحي مع التشخيص المتطور تدريجيا كما وكيفا والعزل والتكفل بالحالات بأنواعها ودرجات إصابتها دون إغفال توفير بنيات ومعدات الاستقبال الضرورية والمتناسبة مع الأعداد الملاحظة والمتوقعة أيضا في الأمد المنظور، مرورا بإجراءات ضرورية، بمنطق وحسابات وضعية الأزمة الصحية،في المجالات الاجتماعية والثقافية والرياضية وبصفة خاصة تلك الخاصة بالإغلاق الاقتصادي والخدماتي عدا ما كان من استثناءات ضرورية ولازمة لما هو حيوي من منتجات وخدمات لتفادي السكتة الاقتصادية التامة حيث تقررت استمرارية في هذه المنتجات والخدمات مشروطة بقواعد ومعايير احترازية محددة. كما أن المبادرة قد تجاوزت عمل التدبير الوقائي نحو الابتكار والانتاج المادي (الكمامات، أجهزة التنفس الاصطناعي، مواد وآلات التعقيم. ..)ما يدل على مظهر من مظاهر تحويل الأزمة إلى فرصة في هذا المجال خاصة إذا علمنا أن هذه الفرصة تعدت مستوى الاستعمال والاستهلاك الوطنيين نحو التوجه للخارج في تجربة قابلة لمزيد من التطوير والتجويد في المستقبل. غير أنحالة الأزمة إن كانت دفعت الحكومة إلى التواصل مع المواطنين من أجل تدبيرها والخروج منها بأخف الأضرار فإنها حملتها مثلما حملت المجتمع على التفكير أيضا في ابتكار طرق ووسائل ووضعيات جديدة غير مسبوقةلضمان عدم العودة إلى وضعية الأزمة من جديد. وهذا هو المعنى الحقيقي للقطيعة بما هي فرصة.
ربما من السابق لأوانه الآن تقويم المجهود المبذول من طرف الدولة في الميدان الاجتماعي المتمثل في الدعم المالي المباشر،رغم محدوديته،المقدم للعديد من الأسر المحتاجة سواء بسبب انعدام الشغل أصلا أو بسبب فقدانه في ظل الأزمة الوبائية،نظرا للطابع المؤقت والظرفي لهذا المجهود. لكن وعلى كل حال فإن التضامن الاجتماعي الذي يتم تصريفه من طرف الدولة كتعويض عن عدم الشغل أو عن فقدانه يعتبرعلامة أساسية من علامات الحداثة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي في كل دولة تريد نفسها ديموقراطية وحديثة في العالم المعاصر.
أما في المجال التعليمي والتربوي فإن ملامح الحداثة المترافقة مع أزمة كورونا تجلت في إعمال التعليم والتكوين عن بعد لضمان حد أدنى من الاستمرارية للحد من مخلفات توقف التعليم والتكوين الحضوريين. وتعتبر حالة أزمة وباء كورونا الحاليةفرصة لتقويم تجربة استعمال تكنولوجيات الإعلام والتواصل الجديدة، كانت قد أطلقت من قبلفي مجال التعليم، مع تعبئة قنوات الإعلام السمعي البصري الرسمية والوطنية ليس فقط لتقديم هذه الخدمة عن بعد بل وأيضا لدعوة المعنيين إلى الإقبال عليها والاستفادة منها في حدود الإمكانات المتاحة اجتماعيا ومجاليا. ومما لا شك فيه أن هذا يعتبر أيضا تمرينا حداثيا آخر ستتم رسملته وترصيده مستقبلا على طريق توسيع الاشتغال بالتعليم والتكوين غير الحضوريين كأسلوب ممنهج وممأسس.
ولعل الملمح الأبرز الذي يتوج ما يمكن أن يعتبر تدبيرا حكوميا حداثياللوضعية الناتجة عن جائحة كوفيد 19، ليس فقط في مجالات الصحة والتعليم والتكوين، بل وأيضا في مجال العمل الإداري،هو ما يؤسس له مشروع المرسوم رقم 2.20.343 المتعلق بالعمل عن بعد بإدارات الدولة. ذلك لأن المذكرة التقديمية لمشروع هذا المرسوم ترى إلى العمل عن بعد (أو ما أصبح يسمى La télé travail)بوصفه أحد العناصر المحددة لمفهوم الإدارة الحديثة إلى جانب كونه شكلا من أشكال تنظيم العمل من أجل تطويره وتنويع أساليبه لما يتيحه من إمكانيات إنجاز المهام خارج مقرات العمل الرسمية التابعة للإدارة باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال بما يضمن استمرار إنجاز المهام وتقديم الخدمات في مختلف الظروف.لكن ما هي درجة الالتقائية والانسجام والتناغم بين عمل الدولة في ظل هذه الأزمة وعمل المجتمع؟

مواقف وسلوكيات اجتماعية متأرجحة بين الحداثة والتقليد

في مقابل تدابير حكومية حداثية، يبدو أن الخطاب والسلوك الشعبيين حول كورونا وتجاهها يعكسان نوعا من الاستمرارية والتعايش، داخل الثقافة وفي الممارسة الاجتماعية بين مواقف واتجاهات وسلوكيات تقليدانية وأخرى حداثية. فكما كان الحال في الماضي، يبدو أن الرأي العام لا يزال، في الجزء الغالب منه، يتلقى ويتمثل الأوبئة والجوائح باعتبارها قضاء وقدرا لا مفر منه، شأنهاشأن كل الآفات والظواهر الطبيعية، التي ليس للفرد البشري دخل فيها، مع العلم أنها ناتجة، من الناحية البيولوجية والطبية،موضوعيا وسببيا، عن فيروسات طبيعية مستجدة.يجدر بنا هنا أن نعود إلى الماضي البشري لنتعرف على تطور العلاقة بين الإنسان والطبيعة من حيث الفهم والسلوك. يعلمنا تاريخ العلوم أن الإنسان كان يتعامل مع الأشياء والظواهر في الطبيعة على قاعدة التمييز بين «ما هو مرتبط بنا مباشرة»و»ما هو غير مرتبط بنا». من الطبيعي أن تكون دائرة»الأشياء والظواهر غير المرتبطة بنا كبشرمباشرة»، في ماضي البشرية السحيق، أكبر وأوسع من تلك التي ترتبط بنا بشكل أو بآخر. فكل ظاهرة تحدث في الطبيعة ولا يطالها فهم الإنسان،كانت تندرج ضمن الدائرة الأولى. ومن ثمة كان التفسير الذي يجد فيه الإنسان راحة أكثر والذي لا يكلفه هم التفكير، لأن الإنسان الأول كان يعتبر التفكير نوعا من الهم، هو التفسير الذي يرجع تلك الظواهر غير المفهومة بالنسبة له إلى قوى متعالية ومفارقة لما هو موجود في الطبيعة. وكان التضرع والقرابين يتوجه بها إلى تلك القوى من أجل طلب رفع المضار الناتجة عن تلك الظواهر و/أو الآفات الطارئة و/أو الموسمية.
لكن مع ميلاد العلوم الطبيعية المختلفة منذ العصور الحديثة على الأقل ومع التطور الذي عرفته هذه العلوم في إطار تمفصلها إلى عدد من الفروع التخصصية الدقيقة، تقلصت دائرة الأشياء التي كان ينظر إليها على أنها غير مرتبطة بنا تدريجيا إلى أن صرنا اليوم متيقنين أن مسألة مستقبل الحياة على كوكب الأرض مثلا، وهي مسألة كانت إلى عهد قريب «لا مفكر فيها» ترتبط بنا جميعا نحن ساكنة هذا الكوكب. ففي كل مرة يصل فيها العلمإلى دراسة وتفسير ظاهرة طبيعية معينة بإرجاعها إلى أسبابها الموضوعية والكشف عن قوانينها، كانت تلك الظاهرة تنتقل من دائرة»الأشياء غير المرتبطة بنا» إلى دائرة «الأشياء المرتبطة بنا فعلا». غير أن هذا لا يعني أن التفكير العلمي صارت له السيادة المطلقة والتامة وأنالأصناف الأخرى من التفكير قد تلاشت واندثرت تماما من على كوكب الأرض.
ثمة إذن استمرارية لتعايش أنماط متعددة من التفكير داخل الأوساط الاجتماعية المختلفة في المجتمع الواحد وعلى المستوى العالمي أيضا. هكذا لاحظنا غلبة التصور التقليداني في تمثل كورونا، إن على مستوى الاعتقاد أو على مستوى السلوك، دلت عليه بشكل جلي بعض الخرجات في بعض الحواضر رغم حظر التجول ومنع التجمعات الذي تقرر رسميا.غير أن هذا التصور/الموقف نفسه، تخترقه مواقف وسلوكات مغايرة لا تخلو من عقلانية تجلت من خلال ما سجل أيضا من مواقف تنديدية فردية وجماعية، استنادا إلى مرجعية حداثية، عبرت عن نفسها عبر منصات التواصل الاجتماعي، داعية إلى نوع جديد ومغاير من التلقي يستثمر المعرفة العلمية والعالمة في التفسير والتعامل مع الأوبئة والأمراض والظواهر الطبيعية بصفة عامة وإلى أهمية وضرورة الالتزام بما تقرر رسميا من تدابير وإجراءات لمواجهة الجائحة. والظاهر أنه على الرغم من التباين القائم في التصورات والمواقف من هذا الوباء، وعلى الرغم منالميل الغالب لجهة اعتباره قضاء وقدرا وابتلاء من طرف البعض، فإن شبه إجماع قد تحقق حول السبل والإجراءاتوكذا الوسائل التي توصي بها الجهات الطبية والعلمية البيولوجية الوطنية والعالمية القمينة بتفادي الانتشار السريع والإصابة بالوباء. ويمكن القول إنه قد تحقق، بالأقل، نوع من المزاوجة بالنسبة لقطاع واسع من المواطنين، بين سلوكيات حداثية على المستويين الفردي والجماعي تجلت على الخصوص في التزام البيوت وعدم مغادرتها إلا في حالات الضرورة ـ ارتداءالكمامات ـ التنظيف والتعقيم حسب الحالات والوضعيات ـ التباعد الجسدي خارج المنزل ـالتباعد الأسري والاجتماعي من جهة وسلوكيات تقليدانية من جهة أخرى تمثلت بصفة خاصةفي تسليم الأمر لله سبحانه «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا» وفي التماس الخلاص وطلبه بالدعاء والتضرع إلى الله.
هذه إذن ازدواجية بارزة تدل على تعايش أصناف متعددة من التفكير تنتج عنها سلوكيات ومواقف متباينة داخل نفس المجتمع الواحد خاصة إذا علمنا محدودية الدور الذي تؤديه المؤسسات ذات الوظائف التربوية في التربية على الحداثة وعلى التحديث في الوقت الراهن.

الكاتب : علي بلجراف - بتاريخ : 08/06/2020