كتب صادق جلال العظم (1934-2016) مراجعةً لكتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد (1935-2003)، بعنوان «الاستشراق والاستشراق معكوسًا»، وأرسلها إلى مجلة «الدراسات العربية» الفصلية، التي كان يقوم على تحريرها في ذلك الوقت سعيد وفؤاد المغربي. وعلى إثرها كانت هذه المراسلات.
2 ديسمبر 1980
عزيزي إدوارد،
شكرًا جزيلًا لك على الخطاب الذي أرسلته في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1980. عرفتُ أن مقالتي ستكون مزعجةً، لكنني لم أتوقَّع مثل هذا الانفجار العنيف من جانبك، خاصةً الهجوم على شخصي. وحقيقةً، أعتقدُ أن حدة ردة فعلك لا تتناسب و»الجرائم» التي يبدو أنني اقترفتها في انتقاد بعض جوانب كتابك.
لقد خضتُ، كما تعلم، نقاشات ومناظرات أشد مرارةً من قبل ونجحتُ في الاعتصام بموقف مستقل إلى حد معقول. ومن ثمَّ، أتجنَّبُ اتهاماتك التعسفية، وأتغاضى عن المقارنة التي عقدتها بين الصفات والفضائل المتعلقة بك وتلك الخاصَّة بشخصي المتواضع، والتي تقود كلها، كما هو متوقَّع بما فيه الكفاية، إلى نتيجة محتَّمة تتمثَّل في تفوقك. أعتقدُ أن أمورًا كهذه ينبغي أن تترك للآخرين كي يتحدثوا ويتناقشوا بشأنها (لو كان ينبغي)، لأننا لا نُقدِّم الكثير لأنفسنا حين ننغمس في مثل هذه المقارنات والتقييمات الأنانية. كما أحبُ أن أنوِّه إلى أن «هزيلي الحجة» الذين اشتبكتُ معهم لم يكونوا أساتذةً متعكري المزاج أو مثقفين هادئين، وإنما أشخاص، ومؤسسات، وحكومات مدججة بالسلاح وخطيرة بشكل لا يقبل الجدال. وغارقين في تقاليد «الاستبداد الشرقي»، يُعرف عنهم الميل إلى تسوية الاختلافات في الرأي مع النُقَّاد والمجادلين عبر اللجوء إلى الرصاص والمتفجرات والحرق والقمع والاغتيال.
يؤسفني إصرارك على إساءة فهم الصفحات القليلة الأخيرة من الجزء الأول من مقالتي. فكما يبدو لي، ثمة اختلافٌ واضح بين القول إن «س» لديه علاقات (من نوع أو آخر) مع الإمبريالية الأمريكية، والقول إن «س» يحمل آراءً ويُعبِّر عن وجهات نظرٍ تلعب دورًا (أو قد تلعب دورًا) أو تقدِّم منفعةً للإمبريالية الأمريكية، ينبغي تنبيهه بخصوصها والنقاش صراحةً بشأنها. وتكون هذه المهمَّة أكثر أهميةً وإلحاحًا إذا كان «س» مشهورًا بموقفه المناهض للإمبريالية.
إن الصفحات المعنيَّة توضح لك أن الإمبريالية الأمريكية يسرّها: (أ) حكمك أن علاقة التبعية العربية-الأمريكية غير مأساوية؛ (ب) إصرارك أن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تسير على ما هي عليه لأن المخيال الاستشراقي ما زال يسيطر على عقول واضعي السياسات وغيرهم من الخبراء الذين يوجِّهون هذه السياسة. يبدو لي، بشكل وجيه، أن هذه المواقف لا يمكن أن تنسجم مع موقف حقيقي مناهض للإمبريالية. وددتُ لو أراك تُجادل عكس ذلك بدلًا من أن تكون غاضبًا جدًا معي. وبشكل مماثل، إذا كنت ترغبُ في الدفاع عن الشرق ضد الاستشراق الغربي والإمبريالية فإنه ينبغي أن تتوقف عن الالتزام بالنقطتين (أ) و(ب)، أو عليك أن تخبر الزعماء الأمريكيين أن عليهم تطهير رؤوسهم الإمبريالية من التوهمات والتجريدات الاستشراقية. وعندي أن هؤلاء الزعماء وخبراءهم هم أناس عديمي المشاعر يمتلكون في العموم عددًا قليلًا من الأوهام ويعرفون بالضبط ماذا يفعلون وفي سبيل أية أهداف. ربما أكون مخطئًا. لكني أرغبُ في رؤيتك تجادل أن الموقف المعارض يمكن الاستمرار في الدفاع عنه بجانب التزامٍ حقيقيٍ بمناهضة الإمبريالية، بدلًا من نعتي بأوصافٍ لا تليق.
أعتقدُ أننا ننتمي إلى هذا النوع من الناس الذي يمتلك وجهات نظر قوية حول مسائل الحياة المهمَّة وقضاياها المشتعلة، وأننا ندافع عن قناعاتنا بقوة وننتقد الآخرين بحماسة، لكن هذا لا يقدِّم حجةً لأي منا أن يُظهر توفقه الأخلاقي، ويحمِّل المواقف أقدس مما ينبغي، ويزعم قدرات متفوقة في إعطاء الآخرين دروسًا نموذجية. وسواء كانت وجهات نظر ماركس بشأن الهند ناتجة عن استلاب أفكاره من قِبل رطانة المستشرقين وتعريفاتهم القاموسية، أو ناتجة عن نظرته العامَّة بشأن التغير التاريخي؛ وسواء كان هناك تصور أحادي الخط للاستشراق في كتابك أم لا، كلها تساؤلات قيمة يمكن نقاشها وتوضيحها بعقلانية دونما التلمظ بمتلازمات ونظريات الإخصاء، أو اللجوء إلى أشكال أخرى من الاغتيال الشخصي.
فيما يتعلق بنشر مقالتي في مجلة «الدراسات العربية»، لدي نقطتان: (أ) بالنظر إلى أن مقالتي تتعاطى مباشرةً مع كتابك وبالنظر إلى أن ردة فعلك قد جاءت حادة على محتوياتها (إلى حد كسر تعهداتك بعدم الرد على المنتقدين)، ظننت أنك ستمتنع تمامًا عن أخذ أي نوع من القرارات أو الاقتراحات التحريرية وما إلى ذلك، بخصوص هذا النص. (ب) أصرُّ على نشر مقالتي دون حذف كلمة واحدة وكما هي، مهما كانت مشاكلها. وهذا أمر نهائي وغير قابل لمزيد من النقاش. وفي حال وجدت المجلة طلبي غير معقول (أو من المستحيل تلبيته لسبب أو لآخر)، سأقدِّر إعادة نسختي على عنواني في بيروت في أسرع وقت ممكن.
نتمنى لكم جميعًا عيد ميلاد سعيد وسنةً جديدةً سعيدة.
خالص الاحترام،
صادق