المفكّر والمؤرّخ السوري عزيز العظمة من مواليد دمشق في 24 جويلية سنة 1947. التحق بمدرسة برمانا العالية في لبنان وهو في الثامنة من عمره، ودرس التاريخ والفلسفة بجامعة بيروت قبل أن يلتحق بجامعة توبنغن الألمانيّة حيث تحصل على درجة الماجستير في الفلسفة تحديدا في الدراسات الإسلاميّة والعلوم السياسيّة. وواصل تعليمه بجامعة أكسفورد التي منها تخرّج بنيله شهادة الدكتوراه في الفلسفة تحت إشراف ألبرت حوراني وكان موضوع رسالته «ابن خلدون في الدراسات الحديثة».
وقد جمع عزيز العظمة في الكتابة بين اللغتين العربيّة والأنجليزية وترجمت كتاباته إلى الألمانيّة والفرنسيّة والفارسيّة والتركيّة والمجريّة والإسبانيّة والأنجليزيّة والعربيّة، ومن مؤلفاته: ابن خلدون وتاريخه (1981)، الفكر العربي والمجتمعات الإسلاميّة، الكتابة التاريخيّة والمعرفة التاريخيّة: مقدّمة في أصول صناعة التاريخ العربي (1983)، التراث بين السلطان والتاريخ (1987)، العرب والبرابرة: المسلمون والحضارات الأخرى (1991)، الأصالة وسياسة الهروب من الواقع (1991)، العلمانيّة من منظار مختلف (1993)، دنيا الدين في حاضر العرب (1996)، العلمانيّة تحت المجهر (كتاب مشترك مع عبد الوهاب المسيري) (2000)، المنتخب من مدوّنات التراث: ابن تيمية (2000)، المنتخب من مدوّنات التراث: الماوردي (2000)، المنتخب من مدوّنات التراث: محمّد بن عبد الوهاب (2000)، قسطنطين زريق: عربي للقرن العشرين (2003)، ظهور الإسلام في العصر القديم: الله وشعبه (.
ما هي قراءتكم للوضع السياسي والاجتماعي السوري من زاوية صراع العلمانية مع الحركات الإسلامية ؟ وهل ولد هذا لديكم تحفظا على أن الحرية شعارٌ ومطلبٌ؟
لم تكن الحرية لديّ في أيّ وقت من الأوقات شعارا مشكوكا به، بل الحرية شعار مشروع وضروريّ خصوصا في أوضاع الاختناقات، ولو أنّ هناك مفاهيم للحرية بعضها يؤدّي إلى الفوضى إذا توافرت الشروط اللازمة لتحويل الحرية وحرية التعبير والاجتماع الى الفوضى، ولكنّ هذا أمر جانبيّ ولا يلعب الآن وفي هذه اللحظة بالذات في اعتقادي دورا في سوريا.
أما بالنسبة للوضع في سوريا، فهو وضع بالغ التعقيد وبالغ التشظي، وبناء على ذلك فإنه من الصعب جدّا أن نقدّم صورة جامعة مانعة لهذا الوضع لأنه جملة صراعات كثيرة داخلية وخارجية تتمّ باستخدام وسائل كثيرة كالصراعات الاجتماعية والصراعات السياسية وصراعات فكرية أهمّها الصراعات الثقافية.
أمّا عن العلمانية، فإنّ ما يحدث في سوريا بين القوى العلمانية والقوى الإسلامية ليس اصطفافا. حصل الاصطفاف من لدن المعارضة الخارجية والحال أنّ هناك قوى علمانية داخل سورية. أما في المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني السوري فإنّنا نجد أنّ الصراع يتخذ طابعا سياسيا بين قوى هي في أساسها إسلامية الهوى وبين قوى أخرى ليست من هذا الوارد ايديولوجيا على الإطلاق، فهي حتما في الطرف النقيض من ذلك، ولكن هذا في اعتقادي ليس هو العامل الحاسم، وليس هذا الصراع الأساسي الدائر في هذا الوقت.. فإن استقرّت الأوضاع – ولا أعتقد أنها ستستقرّ قريبا على الأقلّ- فيمكن أن تعود هذه الصراعات الى الواجهة، ولكن علينا أن نعي أنّ هناك قوى إسلامية بالغة التنظيم خصوصا عسكريا.. كما يجب ألا نغفل عن وجود تشظٍّ طائفيّ بالغ التعقيد وفاعل أيضا.. من هنا فالقضايا المتعلقة بالعلمانية وبالمواطنة الى آخر ذلك نراها ضائعة في متاهات جملة صراعات سياسية لا آفاق فعلية لها.
كيف تفسرون افتتانكم الخاص بالدولة والدولة العربية أيا تكن حيث تعتبرونها الفاعل التاريخي الذي اخترق المجتمع وأعاد تشكيله رغم ما يشوب القوانين الناظمة لما من ممارسات وتجاوز للسلطة ؟
الدولة في اعتقادي عامل تماسك في أوضاع الغليان الاجتماعي والسياسي والثقافي ولذلك فأنا لا أعتقد أنني مفتتن بالدولة بقدر ما أنني مقدّر لأهمّية نصاب الدولة في تكوين الأمم والدول بغضّ النظر على الطريقة التي نعرّف بها الأمّة. حصل هذا في تجارب تاريخية كثيرة: فالأمّة الألمانية مَن صنع الدولة والأمّة الفرنسية من صنع الدولة، وأمم كثيرة أخرى كانت من صنع الدولة في أوضاع لم تستقرّ فيها ولم تتمأسس عمليات سياسية فعلية، فكانت الدولة هي النّاظم، وهي الدامج، وهي العامل على إنتاج لحمة وطنية قوامها المواطنة…
أمّا في بلد كسوريا على سبيل المثال، فإنّ الدولة كانت قد ابتدأت والى حدّ كبير نجحت في كثير من هذه العمليات إلّا أنّ الطغمة الحاكمة انقضّت على الدولة بمعنى أنها استتبعت الدّولة بدل أن تكون مستتبعة للدولة، وفي عملية استتباع الدولة هذا سياسيا وعسكريا واقتصاديا وأمنيا نشأت شبكات من الأسر التي تملّكت جميع مفاصل إنتاج الثروة وإنتاج السلطة وممارسة السلطة ممّا أدى الى الوضع الذي نشهده حاليا.
الدولة الألمانية صنعها بسمارك لكنّ الدولة العربية كما يقول برهان غليون “هي دولة ضدّ الأمّة”…
الدكتور عزيز العظمة مقاطعا بتشنّج: هذا كلام شعبويّ وسجاليّ
عفوا دكتور دعني أكمل السؤال رجاء : عند ياسين الحافظ أيضا نجد أنّ الدولة “شبه دولة”. لكنّ كلّ نقد لهذه الدولة نفسها يعتبره عزيز العظمة نيلا من هيبة الدولة.. ألا ترون الآن أنّ تغييب جانب الحريات في الدول العربية التي تدافع انت عليها بشراسة هو الذي أوصل العرب الى هذا الربيع الذي أصبح خريفا ؟؟
طبعا هذا يعتمد على الطريقة التي نعرّف بها الحريّات، فإن كان الأمر مناطا بالحريات الشخصية والحريّات الاجتماعية فهناك مقادير مختلفة حسب البيئة وحسب الفئة الاجتماعية في ممارسة تلك الحريات. أمّا أن تقول بأنّ دولة على قدر من التسلط قد يكبر وقد يصغر أو يقلّ هي في حدّ ذاتها مسؤولة عن انفلات الوضع فلا أعتقد أنّ هذا صحيح.. ولذلك فإنني أرى أنّ القول بأنّ الدولة هي ضدّ الأمة هو كلام سجالي وصورة درامية أكثر من اللازم المقصود منها شحذ جملة من العزائم.. وعلينا ألا ننسى متى قيل هذا الكلام – وهذا مهمّ لأنّ غليون صرّح به في وقت بدأت فيه بوادر نجاح أو بوادر انتصار كتلة على كتلة أخرى فى الحرب الباردة- وهذا كلام عن السبعينات وأوائل الثمانينات وعملية تحويل السياسة إلى ممارسات خاصة، ومن ذلك طبعا النفور من الأحزاب الذي نراه في أوروبا والولايات المتحدة، فليس هناك سندٌ فعليٌّ ولا إمكانية لأن تكون الدولة ضدّ الأمّة كما أنّ الأمّة لا يمكن أن تكون ضدّ الدّولة، لأنّ النصابين التحليليين لكلّ من هذين المفهومين متمايزان.. فبالتالي فإنّ طرح الموضوع بهذه الصيغة يجانب الصواب ويثير جملة من المشاكل الوهمية..
أمّا قول ياسين الحافظ فأعتقد أنّ منطلقه هو رغبته في نقد التخلف العربي لذلك فهو ينقد التخلف كجملة كثيرة من فاعليات الدولة في سوريا وفي غير سوريا ولذلك جاء كلامه على هذه الصيغة الصادمة.. لكن دعونا نكن واضحين في الأمر … ليس كلّ عدم اكتمال غيابا، فإذا كانت الدولة غير تامّة الاكتمال فهذا لا يعني أنّ الدولة غير موجودة وإذا كانت هناك عناصر من التخلّف الاجتماعي متغلغلة في الدولة فلا يعني ذلك أيضا أنّ الدولة منتفية الوجود.
الصراع في سورية كما هو واضح بين أنصار الدّولة وأنصار هدم الدولة المدعومين بقوى إقليمية ودولية وخاصة أموال البترول فكيف ترى مستقبل هذا الصراع في سوريا؟
ليس بإمكاني الحسم في هذا الأمر، ولست قادرا على تقديم أيّ تعليق لأنّ الوضع بالغ التعقيد الى درجة أنه ليس باستطاعتي أنا على الأقل قول شيء.. فالوضع الاقليميّ والدوليّ هو الذي يحدّد مستقبل الصراع كما حدد آلياته وتفاصيله ولو جزئيّا.. فالتحديد الإقليميّ يعتمد على اللاعبين الداخليين أيضا، ولهؤلاء دورهم الكبير في حسم الأمور بشكل نهائيّ وقد لا يكون في صالح الأطراف الدولية المتداخلة في هذا الصراع البالغ التعقيد كما أسلفت.
لكن في مقارنة الوضع السوري بالوضع الليبي الذي انهارت فيه الدّولة بسرعة نرى أنّ الدولة السورية صمدت إلى حدّ الآن وأثبتت أنها أكثر تماسكا فلم تحدث مثلا انشقاقات قصمت ظهر الدولة الليبيّة في أواخر حكم العقيد؟
الأكيد عندي أنّ غياب هذه الانشقاقات لا يشي بقوة الدولة بقدر ما يشي بتماسك الفئة الصغيرة الحاكمة، وهذان موضوعان مختلفان ومتمايزان، ولكن هناك دون شك الكثير من القوى العاملة على هدم الدولة في سبيل إنشاء إمارات كما هو معلوم وهي ضرب من ضروب الدول.. أمّا بخصوص المعارضة الخارجية والمعارضة الدّاخلية أيضا فما أعرفه أنّهما حريصتان بشدّة على استبقاء كيان الدولة تجنّبا لمسار شبيه بمسار العراق.. إلاّ أنّني أعتقد أن الديناميات الحالية للصراع ستؤدي بنا في نهاية المطاف إلى وضع قد يكون أشنع ممّا صار في العراق.
سعيت في كتابك “صعود الإسلام في العصر القديم المتأخر” إلى ضبط الفوضى المفهومية وفوضى المعارف في مجال الدراسات الإسلامية في الغرب، وقدّمتَ تحليلا نقديّا تاريخيا لصعود الإسلام..فهل من تعليق للمنطلقات والغايات؟
يحلّل هذا الكتاب نشوء السياق الديني الإسلامي المبكّر المتمايز في اعتقادي عمّا أصبح عليه الإسلام الكلاسيكي فيما بعد، فالإسلام كان انتقالا من الوثنية العربية (وليس المسيحية أو اليهودية) فالحجاز كان محميّة وثنية، والانتقال من الوثنية إلى التوحيدية كان عبر تطوّر تاريخيّ نحن قادرون الآن – بفضل وجود النقوش والمكتشفات الأثرية إضافة الى المصادر التي نعلمها والتي تستجدّ علينا- أن نعيد تركيب عملية نشوء فكرة الألوهة، بل بإمكاننا أن نتقصى تطوّر فكرة الألوهة في النص القرآني حسب تسلسله التاريخي، وكيف تظافرت هذه الفكرة التوحيدية التي ابتدأت في الواقع كعبادة إلاه واحد وليس كلاهوت توحيدي، فهناك آلهة كثيرة لكن هناك إلاه واحد يستصفى من قبل أصحابه… ومن هذه الفكرة وهذا المنطلق بالذات يدور كتابي “صعود الإسلام في العصر القديم المتأخر” حول نشوء الفكرة، بل والأهمّ حول الممارسة الطقسية المقترنة بصعود هذا الإلاه الجديد.. وعلينا أن نستذكر أنّ العبادات الطقسية في الوثنية العربية -كما في غيرها من الوثنيات- كانت دائما مقترنة بجماعة محدّدة، يعني هناك ما يمكن أن نسمّيه الجماعات الطقسية التي تشكل تحالفات كالحمس على سبيل المثال والحنة والطلس.. فهذه التجمعات كانت تجمعات سياسية ودينية في آن تعيد إنتاج تحالفها في شكل طقوس وثنية وأصبحت عمليّة إعادة تشكيل التحالفات المدنية التي أسسها نبيّ الاسلام على نفس الأساس أي التظافر بين عبادة ذات طابع معين كانت تسمّى قبل الإسلام دينا وبين تحالف سياسي وسوسيوجغرافي معيّن.. وفي عهد أبي بكر بدأت مرحلة التمدّد الجدّي التي أدّت في نهاية المطاف إلى الخلافة الأموية.
في كتابك “العلمانية من منظور مختلف” ذكرتَ أنّ الإلحاد لم يعد بالشأن المرئيّ وأصبح هدف الهجوم التسفيهي الإسلامي هو العلمانية التي أصبحت كبرى الكبائر في الثقافة والسياسة فهل من توضيح ؟
أنا أعتقد أنّ العلمانية في العالم العربي كانت دائما علمانية اجتماعية وليست علمانية إيديولوجية أو سياسية على عكس فرنسا أو تركيا على سبيل المثال، فهناك علمانية ضمنية جعلت منها القوى الإسلامية قضية محورية ورمزية بالغة الأهمية، وهي العلمانية.. أي إنّ الإسلام السياسي أسّس مواقعه على جملة من الأسس أهمّها الصراع ضدّ ما سمّاه بالعلمانية..وفي رأيي هي قضية مفتعلة.. ودعنا لا ننسى أنّ هذا الهجوم ابتدأ في الستينات من مجموعة من المثقفين ومن المؤسسات الثقافية التي رعتها السعودية في بداية المطاف فيما يمكن أن نسميه الشّقّ الثقافي للحرب الباردة في منطقتنا، يعني الحرب ضدّ الأنظمة التي يمكن أن نسميها اشتراكية أو تقدمية بمعنى من المعاني والتي كانت متحالفة مع الإتحاد السوفييتي أو قريبة منه أو على الأقل ليست في الطرف الآخر.. وقد رعت السعودية هذا الهجوم ثمّ جاء دور الأردن التي كانت أحد أهمّ المواقع التي التجأ اليها الإخوان المسلمون فابتدأت قضيّة العلمانية في ذلك الظرف بالذات وكانت فعلا أداة فعالة وفاعلة من أدوات الحرب الباردة
هل تعتقدون أنّ العرب عجزوا عن دفع تكلفة صناعة التاريخ رغم كلّ إمكانياتهم الماديّة والبشرية وثرواتهم الطبيعية.. أين العرب اليوم من صناعة التاريخ ؟
في الواقع ليست لنا مواقع مؤثرة في هذا العالم المحيط بنا.. والإرث الوحيد الذي مننّا به على البشرية قاطبة في العقود الأخيرة هو الإجراءات الاستثنائية في المطارات التي تُعنى بالإرهاب.. أمّا ما عدى ذلك من إنتاج ثقافي وفني ومعرفي فلم نقدم شيئا رغم الطابع الممتاز جدّا لكثير ممّا أنتج العرب في العالم العربي وخارجه.. ورغم ذلك فإنّ العالم العربي ككتلة مسمّاة من الإنتاج الثقافي ومن التصوّرات الاجتماعية والسياسية والدستورية نراها دائما تابعة إمّا لبعض التصورات والرؤى القادمة من أمكنة أخرى وعلى سبيل المثال ثورات الديمقراطية في الثمانينات التي وصلتنا في شكل ربيع عربي أو أحيانا عملية نكوص تدور حول نفسها ولا استهلاك لها إلاّ في إطارها المحلي.