كلما كنت على أهبة سفر، كانت الدهشة ممزوجة بالفرح تسكنني.
السفر مناسبة سحرية لترك المكان ومعانقة زمن آت، بداخله كل التفاصيل غير المنتظرة.
السفر فرصة نادرة لتنمو أجنحة الذات.
أجمل ما في السفر، الذكريات التي ترسمها بعيدا، تلامسك كلما أشعلت فانوسها، فيسعفك وقتها ضياء تلك الأمكنة التي رأيتها، تتذكر حرارة الناس سواء الذين رافقوك أو أولئك الذين صادفتهم وأضحوا يشكلون جزءا عزيزا وثمينا من ذاكرتك التي تختبئ في عظامك إلى ما لا نهاية.
في هذه الأوراق محاولة بسيطة لاستدراج الأمس، لاستدراج الحكايات، لاستحضار الأسماء والأمكنة عبر ذكريات عشناها بطعم خاص وأضحت اليوم جزءا من الذاكرة المتقدة.
لنسافر إذن بدون بطاقة سفر وبدون مواعيد…، اللهم من سطور نتكئ عليها، عساها أن تسعفنا لنفَيَ بالمراد.
صادف يوم الرحلة التي قمنا بها إلى الجزر اليونانية المطلة على سواحل أثينا، إجراء الماراطون الذي عادة ما يجري في اليوم الأخير من الألعاب.
كانت الرحلة إلى تلك الجزر التي سكنتها الأساطير والتاريخ والملاحم، مناسبة لتوديع هذه المدينة التي احتضنتنا لمدة تزيد عن أسبوعين، عند العودة إلى الفندق بلغنا خبر فوز المغربي صلاح قوقيش بذهبية الماراطون، كان الخبر مفرحا ومصدر اعتزاز لنا، لأن صلاح هو ابن مدينة خريبكة، فهناك على هضاب الفوسفاط وعرق العمال رأى هذا البطل النور وعشق مسارات التحدي، فالفوز بهذه المسابقة وعلى أرض اليونان مهد الماراطون يعتبر حدثا رياضيا وتاريخيا بامتياز، فهذه المسابقة يعود تاريخها إلى حدود 490 قبل الميلاد، والحكايات تقول إن جنديا يونانيا اسمه فايد يبيديس، خرج من مدينة ماراطون أيضا في اتجاه مدينة أثينا ليخبر أهلها بانتصار جنود اليونان على الفرس. وما أن أبلغ الخبر حتى فارق الحياة نتيجة للإرهاق والتعب، وتم إطلاق اسم الماراطون على هذه الرياضة (العدو بنحو يزيد عن 42كلم) تيمنا بتلك المدينة التي شهدت انتصار جيوش اليونان استحضارا لروح ذلك الجندي البطل.
لذلك كان فوز العداء الخريبكي صلاح قوقيش بماراطون أثينا يتميز بالكثير من الرمزية باعتباره رمزا دالا على الانتصارات التي حققها الإغريق خلال حقبة تاريخية متجذرة.
بدأت الاستعدادات للعودة إلى الوطن، وكانت الأيام الأخيرة فرصة لتوديع هذه الأمكنة وتوديع العديد من الأصدقاء الذين ارتبطنا معهم بعلاقات ود لا تنسى، منهم معلق في التلفزيون السوري اسمه محمود، رافقته في الكثير من المناسبات إلى استوديوهات التلفزيون التي كان يرسل عبرها مراسلاته إلى دمشق، وكلما رأيت الخراب وحرب التهجير القاسية التي يعيشها السوريون اليوم، إلا واستحضرت صديقي محمود، كان غاية في الوسامة والسمو الأخلاقي، تشم عبر كلامه ثقافة شامية أبية، كان حذرا جدا في الحديث عن سوريا ونظامها السياسي. لكنه في جلسات خاصة وحميمية كان يحدثني بطلاقة وبدون حدود عن القهر السياسي ومعاناة المثقفين والمبدعين ورجال الإعلام من القبضة الحديدية لحافظ الأسد.
أتذكر أن آخر لقاء مع صديقي محمود كان بإحدى المقاهي القريبة من الفندق، وبعد أن تبادلنا العناوين والأرقام الهاتفية، تحدثنا قليلا ثم انصرفنا وكل واحد فينا يأمل أن يتجدد اللقاء.
كان الزمن يلاحقنا، لنقتني بعض الهدايا والتذكارات للأهل والأصدقاء، واستحضر هاهنا كيف كان الصديق العزيز سعيد زدوق يعاني من ضيق المسافات وضغط الزمن، لأنه لم يكن له ولنا جميعا الوقت الكافي للتبضع، وشراء ما يمكنه أن يحيلنا مستقبلا على أننا كنا فعلا على أرض أثينا، وفي هذه اللحظات، لحظات الوداع وترك المكان وأجوائه ينتاب المرء إحساس خاص، يخف وزنه من الداخل وكأنه ورقة ذابلة رمت بها شجرة من الأعلى إلى الأرض كنقطة نهاية لزمن فات.
في الطائرة ونحن متجهون إلى أرض الوطن، كان الرياضيون المتوجون في أعلى درجات الاعتزاز، فيما كان الآخرون الذين لم تسعفهم الحظوظ أو أنهم مازالوا بعيدين عن انتزاع الانتصارات يلفهم الصمت وعدم الرضا، كذلك كان المسؤولون والمدربون، فالجامعات التي حققت النتائج تجد أصحابها في وضع مستقيم ومريح فيما تجد الآخرين على أبواب الخروج.
أتذكر ونحن في الأجواء، أنني أجريت حوارا مطولا مع ابن بلدي الفائز بالماراطون، صلاح قوقيش، تحدث فيه عن معاناته وأحلامه، وكم كان متفائلا بالمستقبل ومؤمنا أنه سيجدد معانقته مع الميداليات والألقاب، لكنه، ومع الأسف الشديد، خرج مبكرا في ما أتذكر من هذا الحلم، ولم يعد اسمه واردا في لائحة الأبطال الذين فتحوا أبواب المجد الرياضي.
اختفى صلاح قوقيش كما اختفي العديد من الأبطال… هكذا بجرة قلم، فقد بعثوا بالإشارات الأولى على أنهم قادمون، لكنهم و بسبب ضعف التأطير أو ضيق الإمكانيات اضطروا إلى سلك مسالك أخرى ولم ينتبه إليهم أحد وظلوا وحيدين خارج الزمن الرياضي مع الأسف.