كلما كنت على أهبة سفر، كانت الدهشة ممزوجة بالفرح تسكنني.
السفر مناسبة سحرية لترك المكان ومعانقة زمن آت، بداخله كل التفاصيل غير المنتظرة.
السفر فرصة نادرة لتنمو أجنحة الذات.
أجمل ما في السفر، الذكريات التي ترسمها بعيدا، تلامسك كلما أشعلت فانوسها، فيسعفك وقتها ضياء تلك الأمكنة التي رأيتها، تتذكر حرارة الناس سواء الذين رافقوك أو أولئك الذين صادفتهم وأضحوا يشكلون جزءا عزيزا وثمينا من ذاكرتك التي تختبئ في عظامك إلى ما لا نهاية.
في هذه الأوراق محاولة بسيطة لاستدراج الأمس، لاستدراج الحكايات، لاستحضار الأسماء والأمكنة عبر ذكريات عشناها بطعم خاص وأضحت اليوم جزءا من الذاكرة المتقدة.
لنسافر إذن بدون بطاقة سفر وبدون مواعيد…، اللهم من سطور نتكئ عليها، عساها أن تسعفنا لنفَيَ بالمراد.
قدرنا شاء أن يكون شهر رمضان، رحلة للصيف والشتاء.
ففي عز رمضان، فاز الرجاء باللقب الإفريقي الذي منحه بطاقة الحضور في مونديال البرازيل للأندية، وفي أواخر رمضان من السنة الموالية كنا جالسين في الطائرة التي ستنقلنا نحو البرازيل عبر مطار “بارخاس” بالعاصمة مدريد، ونحن نحمل اللون الأخضر معتزين بهذه الرحلة التي ستمكننا من اكتشاف عوالم جديدة بعد أن نقطع المحيط الأطلسي. كانت الأحاسيس ثقيلة جدا، خاصة بالنسبة لي، فأمريكا اللاتينية شكلت،على الدوام، لحظة دراماتيكية لأهل الفكر والمدافعين عن التحرر ولحظة جنون ثورية غير مسبوقة، بدءا من كوبا وصولا إلي نيكاراغوا ومعاناة الأمهات في كل بقاع هذه الرقعة الجغرافية التي كانت فيها المخابرات الأمريكية تصنع الديكتاتوريات التي تقتل آخر أنفاس في سماء التنفس الحر.
لنعد إلى سفرنا العادي، فقد كنا نراهن على سفر مليء بالود والاحترام الإنساني لتلك القارة التي عاشت الظلم الأبدي.
وها نحن في مطار “بارخاس”، بعد رحلة من مطار محمد الخامس، وقبل النزول من الطائرة نحو فضاء المطار استوقفنا على باب الطائرة رجل أمن مسن وحاقد وعنصري، طالبا منا بلغة آمرة مستفزة البقاء داخل الطائرة، فلاحق لنا بالدخول إلى المطار.
كانت لحظة لم ترد على البال، الإحساس “بالحكرة” عانق الجميع، غير أن أبواب الاحتجاج و “»تحمار العينين”« كان أسلوبنا الجماعي في إعادة ذلك الشرطي الفرنكاوي إلى حجمه العادي.
دخلنا مطار »”بارخاس«”مفعمين بنفس الاحتجاج، وكان المطار مليئا بالأضواء وبالزجاجات الساحرة وبالأماكن الفسيحة الممكنة، تذكرت وقتها أن صديقا وأستاذا رفيع الأخلاق والقيم والسلوك العالي اسمه أحمد الصبار السباعي، كان في وقت مضى قد منحني مالا قليلا لأذهب عند طبيب صديق حتى أشفى من قرحة معدة ألمت بي على حين غرة بسبب زجاجة غير مستقيمة.
تقدمت بملفي الطبي كالعادة إلى الجريدة، وتدفقت التعويضات البئيسة إلى حسابي البنكي الذي تملأه الأصفار ومازالت…فوضعت بين يدي حميد الصبار مالا يماثل عدده ما منحني إياه حين كنت مريضا، لكن الشريف السباعي رفض المعاملة بالمثل، قائلا ” إن تلك هدية حتى تشفى وتستعيد عافيتك”.
في مطار “بارخاس”، وجدتها فرصة خاصة لأهدي لأخي وأستاذي حميد الصبار، هدية خاصة من نوع رفيع، وذلك ما كان، وذكرته بالوقائع كلها.وكم كنت كبيرا في أعين هذا الشريف السباعي، حيث استمتعنا معا خلال لحظات طويلة على متن طائرة تقلنا نحو آفاق يتسع رحابها بضيق أمكنتها هنا وهناك.
لكن يجب ومن المفترض أن نسجل بأعز ما نملك أن الأفراح نتقاسمها جميعا، أما الأحزان فلكل منا نصيبه منها فرادى وجماعات، فهذه الأحزان التي اتسعت مساحاتها، توزع علينا أوامرها، بفرح كبير، لأنها أختنا الشقيقة…