بخلاف عدد كبير من المفكرين العرب، ينشغل المفكر يوسف سلامة بأبحاثه وعمله كمفكر وأكاديمي، بعيدا عن السّجالات الإعلامية التي قد تأخذ طابعا دعائيا، مفضلا الخوض في حواراته مع تلاميذه و يقول إنه سيضع قريبا كتابا حولها، مشيرا إلى أنها لا تنفصل عن سياقه الفكري وبحثه طيلة عقود والذي أثمر ثلاثة مؤلفات فكرية بدءا بمنطق هوسرل ومرورا بسَلب هيغل وانتهاء بطوباوية الإسلام.
دعني بداية أتساءل: ما سبب قلة نتاجك الفكري؟ ومن ثم ما سبب ابتعادك- بخلاف أغلب المفكرين- عن المقابلات الإعلامية بشكل عام؟ وهل أنت في طور تقييم تجربتك الفكرية؟
بالنسبة لنتاجي الفكري، أنا أحاول أن أركز على الإنتاج الفلسفي ولدي كتابان كبيران استغرقا مني عمرا، الأول عن “المنطق عند إدموند هوسرل” والثاني عن “السلب واليوتوبيا” وهو دراسة في فكر هيغل وماركيوس، إضافة إلى كتاب ثالث عن “الإسلام والتفكير الطوباوي”، والآن أنا أحضر لكتاب يضم خلاصة تجربتي الفلسفية آمل أن يصدر قريبا.
أما فيما يتعلق بابتعادي عن المقابلات والأضواء، فربما يعود السبب إلى أني صريح جدا، وقد لا تعجب صراحتي بعض المنابر الإعلامية فتنصرف عني، ولكني لست منزعجا من ذلك.
دعني أنطلق من فهمك للعلمانية وموقع الإنسان فيها، حيث أنك في محاضرة ألقيتها مؤخرا تميل إلى تقسيم العلمانية إلى أربعة أركان، يتلخص الأول بكيفية النظر إلى الإنسان وبقية الظواهر على أنها شؤون دينية، في حين يرتكز الثاني على العقلانية التي لا تزدهر إلا بوجود الحرية (الركن الثالث)، ومن ثم الديمقراطية كركن رابع، والسؤال: ما الذي دعاك إلى اعتماد هذا التقسيم، وما هي المعايير التي اعتمدتها في ذلك؟ وما علاقة هذه المفاهيم التي ذكرتها ببعضها؟ ومن ثم كيف ستفضي في النهاية إلى إنتاج مفهوم العلمانية؟
بداية أنا أعتقد أن الإنسان حرية وبهذا المعنى فإن الوجود حرية، لأنه لا معنى للوجود معزولا عن الوجود الإنساني، كما أن الحرية هي نقطة الابتداء في كل شيء، وربما لا يكون هناك تبرير واضح لماذا يكون الإنسان حرا، ولكن برأيي فإن الحرية هي الشرط الضروري ليكون الإنسان إنسانا، فما لم تكن هناك حرية فلن يكون هناك إنسان ولن يكون هناك وجود، لأن الوجود كله هو من وضع الحرية.
ومن هنا فإن للحرية هذه الأولوية المنطقية والوجودية على كل ما عداها، وهذه الحرية بوصفها جوهر الفاعلية الإنسانية، أو جوهر الوجود الإنساني الذي يُعبّر عن نفسه في الفعل، فنحن لا نستطيع أن نتعرف على هذه الحرية خارج الفعل، ومن هنا فهذا- فعل الحرية- يجب أن يتعين في نمط اجتماعي وفي وجود اجتماعي محدد، هذا النمط الاجتماعي هو الوجود السياسي، إن جاز التعبير.
ولئن قيل منذ القدم إن الإنسان “حيوان سياسي” فهذا التعريف ليس خاطئا إلا بعد أن نعدّله قليلا، ونقول إن الإنسان “كائن سياسي” لأنه حر أولا وقبل كل شيء، والإنسان من حيث هو كائن سياسي لا يستطيع أن يعبّر عن هذه الكينونة الأصلية لوجوده التي هي الحرية إلا في مجتمع سياسي، والمجتمع السياسي هنا لا معنى له إلا من خلال بعدين: الأول هو الديمقراطية، فالوجود الحر لا يمكن أن يتعين في الحياة الاجتماعية إلا على هيئة نظام سياسي، وهذا النظام السياسي الذي تتعين الحرية فيه لا يمكن أن يكون إلا الديمقراطية.
في هذا السياق دعنا نحدد مفهوم الديمقراطية، في ظل الفهم الملتبس لها عند البعض..
ثمة تصورات كثيرة عن الديمقراطية، ولكن مهما تباعدت هذه التصورات فستبقى تعني أن الديمقراطية هي “حكم الإنسان للإنسان انطلاقا من الإنسان”، وبهذا المعنى لا يمكن للديمقراطية أن تعني “استبداد الإنسان بالإنسان بواسطة الإنسان”، فإذا الديمقراطية تعني شيئا محددا هنا هو “قدرة الجميع على أن يُوجِدوا على نحو معين تعبيرا عن كينونتهم الحرة”، وبهذا المعنى يمكن للديمقراطية أن تشير إلى نوع من توزيع القوة المتساوي، والقوة نقصد بها هنا الفاعلية السياسية، فالديمقراطية لكي تكون ديمقراطية حقيقية، يجب أن تنطلق من محاولة التوزيع المتساوي للقوة، وعندما يكوّن المجتمع لنفسه هذا التصوّر عن الديمقراطية، عندئذ يكون قد وصل إلى العقلانية.
وفي هذه الحالة يكون العقل الإنساني في خدمة الحرية وفي خدمة الإرادة الإنسانية، لكي يختار أنسب الطرق التي من شأنها أن تجعل الديمقراطية ممكنة على المستوى الفردي والجماعي، أو أن العقل هو الذي يكتشف الحلول لإيجاد نوع من التواؤم بين فردية الفرد وجماعية الحياة الاجتماعية، والعقل هو أداتنا في حل هذه المشكلات، فلا يكاد يكون العقل واضعا لشيء جديد بقدر ما يكون مسؤولا عن حل مشكلات تثيرها الحرية من حيث هي كينونة الإنسان، وتخلقها الديمقراطية من حيث هي ممارسة اجتماعية راقية تعبر عن كينونة الإنسان الحر، بوصفه يحيى في الديمقراطية وفي قلبها.
من هنا يصبح المجتمع بُعدا رابعا ضروريا لا بوصفه غاية بحد ذاته، بل بوصفه محلا يُفترض أن يكون مناسبا يسمح للإنسان بالتعبير عن نفسه، أو بتعيين حريته في نظام سياسي يقوم العقل بصياغة صِيغه أو بنوده الأساسية، الأمر الذي يسمح بتكوين مجتمع قادر على أن يستجيب لمتطلبات الحرية ولمقتضيات الديمقراطية منها.هذه الشروط كلها تشكّل ما أسميه بالعلمانية.
بهذا المعنى، أنت ترفض حصر مفهوم العلمانية بمسألة فصل الدين عن الدولة.
أنا لا أرفض مقولة أن العلمانية تشترط فصل الدين عن الدولة، ولكني أعتقد أن الأمر يتعدى ذلك إلى أبعاد أخرى، فإذا فصلنا الدين عن الدولة دون أن يكون لدينا تصوّر عن الإنسان، فعندئذ لن يكون بوسعنا أن نقدم شيئا مهما للإنسانية، فالحرية الإنسانية مترامية الأطراف، بمعنى أن الحرية الإنسانية لا تخلق نظاما سياسيا في الديمقراطية فقط، وإنما تخلق قيما روحية في الدين.وهذا بعد آخر للكينونة الإنسانية.
طبعا أنا لا أحصر الكينونة الإنسانية بهذين البعدين ولكن ما دمنا نتحدث بصدد العلمانية، فلا بد من أن ننتبه إلى هذين البعدين في وقت واحد، نعم الحرية فاعلية تضع وتنتج في اتجاهات مختلفة، فإذا أبرزنا هنا هذين الجانبين (السياسي والروحي) فهذا لأن حديثنا عن العلمانية يفترض ذلك.
وإذا كان الإنسان يُنتج قِيما سياسية والعقل هو الذي يحل مشكلاتها ويصوغها ويمنحها التركيبات المناسبة للمجتمعات في أوقاتها المناسبة، فإن الحياة الدينية تمتلك نوعا من الثبات أو الاستقرار لا يمكن للسياسة أن تمتلكه في حال من الأحوال، فالسياسة نتاج لحوار المصالح وتصارعها بين البشر، أما الدين فهو تعبير عن القيم الروحية التي تستهدف الوصول بالإنسان إلى نوع من الرضى والسكينة الروحية.
أي أن الدين يبحث عن الخلاص، وهذا الخلاص بطبيعته خلاص فردي شخصي يستطيع كل مؤمن أن يحققه، وهو على النحو الذي يعتقد أن وجدانه أو ضميره يرضى عنه، أما في الحياة السياسية فليست المقاييس شخصية ولا فردية ولا مجال هناك لاستخدام مقولات الخلاص، في الحياة السياسية هناك صراع ومصالح.
ومن ثم فلا ينبغي أن نخلط مجالين مختلفين كل الاختلاف، مجال السياسة هو مجال الدنيا (صراع الأفراد والمصالح)، أما المجال الروحي فهو مجال شخصي فردي وقيمي وتربوي، واحتراما للدين ولمقتضياته الروحية، احتراما لهذه القيم بمجموعها التي تنطوي على قدر كبير من الثبات، فمن الخير للدين ألا يدخل في السياسة ومن الخير للسياسة أن لا تدخل في شؤون الدين، ما تدخل أحدهما في الآخر إلا أفسده ،فيمكن للفقيه أن يكون فقيها في الإطار الروحي، خير له من أن يتحول إلى فقيه سلطان عندما يمتزج الدين بالسياسة، وخير للسياسي ألا يتدخل في شؤون الدين لأن هذا الحقل بعيد عنه ولا يمت له بصلة ولا سبب.
إذا الحرية من حيث المبدأ تضع حقلين متمايزين، حقلا روحي مستقر نسبيا وهو الحقل الديني أو حقل القيم الروحية، وحقلا آخر مختلفا كل الاختلاف هو الحقل السياسي الذي تقع في إطاره جملة النشاطات الدنيوية وجملة الصراعات البشرية وجملة الأهداف التي تتطلع إليها الجماعات الصغيرة دون الجماعات الكبيرة، وعالم التحالفات والصراعات والمصالح الذي لا يكف عن التغير ولا يكف عن التبدل.
إذا العلمانية في النهاية تقتضي وجود هذين الحقلين وما لم نستطع أن نكتشف أو نعزل هذين الحقلين عن بعضهما العزل المناسب فمن الصعب علينا كثيرا أن نفكر بالتقدم بصورة جدية.
لو بقينا في إطار العلمانية، ربما يتساءل البعض لماذا أخفق المثقفون العلمانيون العرب حتى الآن في صياغة نموذج علماني خاص بالعالم العربي، في ظل وجود عدة نماذج علمانية في العالم؟
أعتقد أن مشكلة العلمانية ليست مشكلة ثقافية، وطرْحها على أنها كذلك يزيّفها ويجعلها مشكلة وهمية لا أساس لها، المشكلة في العالم العربي هي مشكلة سياسية وليست مشكلة ثقافة، هب أننا وضعنا أحسن النماذج من الذي سيطبقها أو سيقبلها في مجتمع غير ديمقراطي؟ إنه السياسي، فالسياسي العربي سياسي مستبد بامتياز، ولا يقبل رأيا ولا مشاركة ولا يقبل نصيحة أحد، فكيف به أن يقبل الديمقراطية، فمن هنا إذا ليست المسألة مسألة نموذج ثقافي علماني، المسألة أن المجتمع العربي برمته مازال في كبوة وغير قادر على النهوض، وهو يحيا في حالة ركود من ألف عام، هذا الركود يجعله يعيد إنتاج التخلف ويعيد إنتاج الركود، ومن ثم يظل مشدودا إلى الماضي.
يتساءلون لماذا هناك أصولية؟ لأنه ليس هناك حاضر ببساطة، المجتمع العربي ليس له حاضر هو يعيش في حاضر زائف، حاضر المجتمع العربي هو ماضيه ومن هنا تأتي المشكلة الكبيرة، لذلك هذا الركود و”الاستنقاع” هو الذي يحتاج إلى كسر، ولسنا بحاجة إلى مجرد نموذج ثقافي علماني حتى يهتدي به المجتمع أو الساسة العرب، من هنا تمسّ الحاجة إلى كسر هذا الركود والخروج منه، وكسر دائرة الماضي الذي يهيمن على الحاضر بقوة شديدة.
إذا سلمنا بقول بعض المفكرين العرب- ومنهم جورج طرابيشي- بعدم وجود فلاسفة عرب، برأيك على من تقع مهمة الخروج من الواقع المتردي الذي يعيشه المجتمع العربي؟
دعني أوضح أمرا، ربما أختلف مع البعض حول تعريف الفيلسوف، لأني أرى أن الفيلسوف ليس بالضرورة أن يكتب الفلسفة على النسق الألماني أو الفرنسي، بمعنى أنه يمكن أن يكون هناك إنتاج فلسفي مختلف ويُكتب بطريقة مختلفة، لأن الفلسفة بنت عصرها، فالفلاسفة الألمان والفرنسيون لم يكتبوا على النسق اليوناني، كما أن الفلاسفة المحدثون لم يكتبوا على نسق الفلسفة الألمانية أو الفرنسية، ولا أتوقع من متفلسف عربي أن يكتب إلا من إبداعه، يجب أن يبدع الشكل أو المضمون، فالفلسفة بمعنى ما من المعاني تدخل في إطار الإنتاج الأدبي، وبالتالي هناك شكل ومضمون، فالشكل أو الصورة (صورة الفلسفة) لا تنفك عن مضمونها، والمضمون لا ينفك عن صورته، ومن هنا فنحن محتاجون إلى أن نبدع أسلوبنا وتصوراتنا الخاصة بعملنا الفلسفي.
ثم إني لا أقول إنه لا يوجد هناك فيلسوف عربي، ولكني أقول إن بعض ما يُكتب الآن يُشكل مقدمة ضرورية لصياغة فلسفة في وقت ما، ومن الظلم أن ننظر إلى ما نكتبه على أنه لا شيء، هو تأملات في العصر يحاول كثير منها أن يتخطى الإيديولوجيا، أنا أعلم أن الذين يُنكرون وجود فلسفة في الوقت الحاضر في العالم العربي، يعتقدون أن كل ما يكتب هو إيديولوجيا، وأنا في رأيي ليس كل ما يُكتب هو إيديولوجيا، هناك جانب ما مما يُكتب يحاول أن يفكر فلسفيا، أي يحاول أن يبحث في الحقيقة بما هي حقيقة دون أن يكون مقتصرا على الإيديولوجيا، بهذا المعنى برأيي أن بعض ما يُكتب يشكل مقدمة ضرورية لوجود الفيلسوف الذي يُفكر به الصديق جورج طرابيشي.