العدالة حيال السلطة … حوار بين نعوم شومسكي وميشيل فوكو

لقد نتج هذا النص عن نقاش في اللغتين الفرنسية والإنكليزية ما بين ميشيل فوكو ونعوم شومسكي ومقدّم الحوار فونس ألديرز. ومن ثمّ تمّ تسجيله في المدرسة العليا للتكنولوجيا، في نوفمبر 1971 من القرن الماضي، وجرى بثّه عبر التلفزيون الهولنديّ.

ف. الديرز: لنتناول، الآن، السياسة. بودّي أن أسأل أولاً السيد فوكو لماذا يولي السياسة هذا الحد من الاهتمام الذي يجعله يفضلها، مثلما قال لي ذلك، على الفلسفة؟
ميشيل فوكو: لم أنشغل أبداً في الفلسفة. غير أن هذا ليس هو المشكلة. سؤالك هو : لماذا اهتم إلى هذا الحد بالسياسة؟ للرد عليك ببساطة، قد ينبغي القول: لمَ كان عليَّ عدم الاهتمام بها. فأي عمى، أي صمم، أية سماكة أيديولوجية كان بمقدورها حرماني من الاهتمام بهذا الموضوع الأكثر ضرورية في وجودنا، أي المجتمع الذي نعيش فيه، والعلاقات الاقتصادية التي تحركه، وكذلك النظام الذي يحدّد الأشكال المنظمة، المسموح بها والممنوعة سياسياً والتي توجه دائماً سلوكنا؟ ففي نهاية المطاف، تشكل الفاعلية السياسية للمجتمع الذي نجد أنفسنا فيه جوهر وجودنا. كما لا يمكنني الرد على سؤال لمَ كان عليَّ الاهتمام بها؛ إذ ليس بمقدوري الإجابة عليك إلا بسؤالك لمَ كان ينبغي عليَّ عدم الاهتمام بها؟
ف. الديرز: أنك مرغم على الاهتمام بها، أليس كذلك؟
فوكو : نعم، فعلى الأقل ليس هناك ما هو غريب على هذا الصعيد، وبالتالي ما يستوجب طرح السؤال والرد عليه. فعدم اهتمام المرء بالسياسية، هو ما يمكن أن يولد مشكلة حقيقية. فبدلاً من أن تطرح هذا السؤال عليَّ أنا، كان من الأجدر طرحه على شخص لا يهتم بالسياسة. عندئذ، سيكون من حقك أن تصرخ فيه “كيف لا يُثير هذا اهتمامك”؟
ف. الديرز : نعم، ربما. يا سيد شومسكي، نحن نتلهف جميعاً لمعرفة أهدافك السياسية، لاسيما فيما يتعلق بعلاقتك الشهيرة بالفوضوية النقابية أو، كما حددت ذلك أنت بنفسك، اشتراكيتك المتحررة. ما هي تلك الأهداف الأساسية؟
شومسكي : سأقاوم الرغبة في الرد على سؤالك الأول، المهم للغاية، وسأكتفي بالرد على هذا الأخير.
سأعود أولاً إلى موضوع كنا قد ذكرناه من قبل، ألا وهو، إذا لم تخني ذاكرتي، أن أحد عناصر الطبيعة الإنسانية الأساسية هو الحاجة لعمل مبدع، لبحث إبداعي ولفاعلية أبداعية حرة غير مرتهنة بالنتيجة الضيقة التي تفرضها المؤسسات الاستبدادية؛ يُستنتج من كل هذا، بطبيعة الحال، بأنه ينبغي على المجتمع اللائق أن يفتح أمام هذه الممكنات، التي تشكل الخاصية الإنسانية الجذرية، أقصى حدود التحقق. وذلك يعني التغلب على العناصر الكابحة، القمعية، المدمرة والقهرية القائمة في كل مجتمع، في مجتمعاتنا مثلاً، باعتبار تلك العناصر بقايا تاريخية.
إن كل شكل من أشكال القهر، الكبح، والمراقبة الاستبدادية لأي من ميادين الوجود، كالملكية الذاتية لرأس المال مثلاً، وكذلك أي تضييق مفروض على مشروع إنساني يمكن تبريرها إذا كان ما يلزم القيام بذلك هو لصالح توفير حاجة الغذاء، ضرورة البقاء، أو الدفاع ضد أي شيء مرعب من هذا النوع. لا يمكن تبرير ذلك الشكل داخلياً. بل ينبغي القضاء عليه بالأحرى.
أعتقد بأنه يجب علينا، على الأقل في المجتمعات الغربية ذات التكنولوجيا المتقدمة، تفادي مثل تلك الحاجات المجحفة، غير المجدية، ومن ثم مقاسمة هذا الامتياز، ضمن نسبة معينة، مع الجماهير؛ فالرقابة الاستبدادية والمركزية للمؤسسات الاقتصادية –أعني بذلك في آن معاً الرأسمال الخاص وشمولية الدولة أو الأشكال المختلفة المختلطة لرأسمالية الدولة القائمة هنا وهناك- قد غدت بقايا تاريخية مدمرة.
ينبغي القضاء على كل تلك البقايا لصالح المقاسمة المباشرة تحت شكل مجالس عمالية، أو غيرها من التجمعات التي يشكلها الأفراد بأنفسهم ضمن إطار وجودهم الاجتماعي وعملهم المُنتجِ.
أن نظاما متآلفا، لا مركزيا لجمعيات حرة، تندمج فيها المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، قد يؤسس لما أسميه بالفوضوية النقابية؛ يبدو لي أن هذا هو الشكل الاجتماعي المنظم بالنسبة لمجتمع متقدم تكنولوجياً، لا تتحول فيه الكائنات البشرية إلى مجرد أدوات في عجلات الميكانيك. ليست هناك أية ضرورة اجتماعية تستوجب معاملة الكائنات الإنسانية باعتبارهم حلقات في سلسلة الإنتاج؛ لذا لا بد لنا من التغلب على هذا الموقف وذلك بخلق مجتمع للحرية وللتآلف الحر، حيث سيكون بمقدور الدافع الإبداعي المغروز في الطبيعة الإنسانية تحقيق ذاته بالطريقة التي يقررها.
مرة أخرى، وكما يقول السيد فوكو، لا أرى كيف يمكن لكائن إنساني عدم الاهتمام بهذا السؤال.
ف. الديرز : هل تعتقد، يا سيد فوكو، بأنه يمكننا وصف مجتمعاتنا بالديمقراطية، بعدما استمعنا لما قاله السيد شومسكي؟
فوكو: كلا، فأنا لا أعتقد بالمطلق بأن مجتمعنا ديمقراطي. فإذا كان المرء يقصد بالديمقراطية الممارسة الفعلية للسلطة من قبل الجماهير الواحدة وغير المنظمة مراتبياً في طبقات، سيكون من الواضح تماماً بأننا ما زلنا بعيدين عن ذلك تماماً. كذلك من الواضح بأننا نعيش تحت نظام ديكتاتورية الطبقة، وسلطة الطبقة التي تفرض نفسها بالعنف، حتى عندما تكون أدوات هذا العنف مؤسساتية أو دستورية. وبدرجة لا تجعلنا نقول عن ذلك المجتمع بأنه ديمقراطي.
حسناً. عندما سألتني لمَ اهتم بالسياسية، رفضت الرد على هذا السؤال لأن ذلك بدا لي واضحاً، لكن قد يكون سؤالك هو التالي : بأية طريقة أهتم في السياسة؟


الكاتب : ترجمة حسين عجّة

  

بتاريخ : 31/07/2017