مساجلات فكرية -30- إدوارد سعيد: أيُّها المثقَّفُ الحقيقيُّ.. كم نفتَقِدُك !! -2-

يقولُ في مقدِّمِ الفصل الأوَّل من كتابه « خارج المكان « تعريب وترجمة فوَّاز طرابلسي، منشورات دار الآداب: « تختَرِعُ جميع العائلات آباءَها وأبناءَها، وتمنحُ كلَّ واحدٍ منهم قصَّةً وشخصيَّةً ومصيراً، بل إنَّها تمنحه لغته الخاصَّة.. وقعَ خطاٌ في الطَّريقةِ الَّتي تمَّ بها اختراعي وتركيبي في عالمِ والديَّ وشقيقاتي الأربع. فخلالَ القسط الأوفَرُ من حياتي المبكرة، لمْ استطعْ أنْ أتبيَّنَ ما إذا كان ذلك ناجماً عن خطأي المستمر في تمثيل دوري، أو عن عَطَبٍ كبيرٍ في كياني ذاته.. وقد تصرَّفتُ أحياناً تجاه الأمرِ بمعاناةٍ وفخر، وأحياناً أخرى وجدتُّ نفسي كائناً يكادُ يكونُ عديم الشَّخصيَّة وخجولاً ومتردِّداً وفاقداً للإرادة. غير أنَّ الغالب كان شعوري الدَّائم أنِّي في غيرِ مكاني «.

كذلك أذهلني حديثه الصَّريح عن أدائِه وتقييمه المتدنِّي في مدرستيِّ « إعداديَّة الجزيرة « ذي منهجِ التَّعليم الكلونيالي الإنجليزي التراتبي الجامد في حيِّ الزَّمالك في القاهرة في مطلع الأربعينيَّات، ومدرسة « القاهرة للأطفال الأمريكيين « ذي التَّوجهات التي تمزِجُ بين منهج التربية والتَّعليم على أساسٍ كلونياليٍّ قديمٍ متجدِّدٍ امبرياليَّاً من حيث الأهداف والغايات، وبين منهج التَّعليم على أساسِ تشاركيٍّ تفاعليٍّ حديثٍ في أوساطِ الرَّعايا الأمريكيين في القاهرة نهاية الأربعينيَّات، حيث كان واحداً من أولئك الأطفال الأمريكيين استناداً إلى جنسيَّةِ أبيه رجل الأعمال البارز « وديع سعيد « الأمريكيَّة.
يقول عن ذلك في الفصلِ الرَّابع من كتابه: « أجبَرَتْني المدرسة الأمريكيَّة على أخذِ – إدوارد – على محملِ الجدِّ أكثرَ من ذي قبل، بما هو كائنٌ معطوبٌ وفزِعٌ وضعيف الثِّقةِ بالنَّفس.. وكان الشُّعور العام المُسَيْطِر عليَّ هو شعوري بامتلاكِ هويَّةٍ مضطربة، أنا الأمريكيُّ الَّذي يُبْطِنُ هويةً عربيَّة أخرى لا أسْتَمِدُّ منها أيَّةَ قوَّةٍ؛ بل تورِثُني الخجلَ والانزعاج. ورأيتُ عند – زملائي في المدرسة – ستان هنري و ألِكْسْ ميلَرْ هويَّةً أكثر اشتهاءً، صلدَةً كالصَّخرِ ومتطابقة مع الواقع.. بل إنَّ جانْ بيير و ملَكْ أبو العزّ وحتَّى ألبير كرونيل – رغمَ كونِهِم يهوداً مصريين يحملون جوازاتِ سفر إسبانيَّة – يستطيعون أنْ يُحقِّقوا ذواتَهُم، فلا شيءٌ عندهم يحتاجُ إلى إخفاءٍ، ولا هم مضطَّرون إلى تمثلِ دور المواطنين الأمريكيين «.
كنتُ أعتقد أنَّ « إدوارد سعيد « سيحرِصُ في فصول كتابه – الإحدى عَشَر – على إبراز الصِّفات الدَّالَّة على تميُّزِه وإبداعه كمفكِّرٍ ومثقَّف فوق العادة – وهو بطبيعة الحال كذلك بلا أدنى شكّ – وإذا به يأخذنا في رحلَةٍ عفويَّةٍ تلقائيَّة عبرَ ممراتٍ ودروبٍ يكشِفُ لنا متاهاتِها على مستوى شعوره وإحساسه الجوَّاني تجاه شخصيَّتِه والَّتي كانت ترسمُ علاماتها البيئةُ الاجتماعيَّةُ والدّيِنيَّةُ والتربويَّةُ والمذهبيَّة والسياسيَّة آنذاك وتساهمُ في بناءِ مداميك شخصيَّتِه، حيثُ نجده يناقشُ مكوِّناتِه الشَّخصيَّة على مستوى الجسم والذُّكورة والتحصيل الأكاديمي والموقف الضَّبابي المرتبك والحَذِر من الجِنْس في الثَّقافات التربويَّة الشَّرقيَّة بما فيها المذهب البروتستنتي الَّذي تنتمي إليه عائلته – وكيفيَّةِ تأثير ذلك في صياغةِ وعيه الإدراكي والوجداني وموقفه السيكولوجي والسُّلوكي منه – كما نجده يناقش الحوافز والدَّوافع الشَّخصيَّة، والقدرات المهارات والإخفاقات، في مناخ الإضطراب والاغتراب الثقافي وأزمة ازدواجيَّة الهويَّة والانتماء بمنتهى الشَّفافيَّة والصَّراحة !!.
إدوارد سعيد: أيُّها المثقَّفُ العربيُّ الفلسطينيُّ من حيث الهوية والإنتماء وصوابيَّة الرؤية.. أيُّها المثقَّفُ الحقيقيُّ الشَّفَّاف والغزير في آنٍ معاً، والمثقَّف فوقَ العادة.. كم نفتَقِدُكْ !!.


الكاتب : رائد دحبور

  

بتاريخ : 08/08/2017