الناقد والباحث عبد الرحمن طنكول لـ «الاتحاد الاشتراكي»:تميز الثقافة المغربية يكمن في نزعتها نحو الابتكار وتوجهها النقدي

يعتبر عبد الرحمن طنكول من أبرز أسمائنا الفاعلة والمؤثرة في الساحة الثقافية الوطنية . فبالإضافة إلى كونه ناقدا أدبيا، وباحثا مختصا في الأدب المغربي والمغاربي المكتوب بالفرنسية ، تحمل عبد الرحمن طنكول مسؤولية رئيس لبيت الشعر في المغرب ، كما تحمل أعباء جامعية متعددة لعل أهمها موقع رئيس جامعة إبن طفيل في القنيطرة وعميد أسبق لكلية الآداب ظهر المهراز في فاس.
وهو من مواليد مدينة تازة عام 1953 ، حصل على دكتوراه الدولة ، وانضم إلى اتحاد كتاب المغرب عام 1978. أشرف على عدد وافر من الرسائل والأطاريح الجامعية بالفرنسية وحتى بعضها الذي تمت كتابته باللغة العربية.
ويمكنني هنا الإشارة بالخصوص إلى آخر الأعمال الجامعية التي أشرف عليها مؤخرا: أطروحة الشاعر مراد القادري في فاس حول الزجل في المغرب، من الشفوي إلى الكتابة. كما يناقش محاورنا قريبا في القنيطرة أطروحة الشاعر والروائي منير سرحاني حول الكتابة الشذرية لدى سيوران . وقد علمت أيضا أنه يشرف على أطروحة دكتوراه ثانية ينجزها الشاعر حسن نجمي حول التشريفات الملكية في المغرب ،السلطة – الخطاب – الفرجة .
حول كتاباته ومشاريعه المستقبلية، وحول رأيه في وزارة الثقافة المغربية في ظل وافد جديد على رأسها، وكذا حول الصيف والنقد والجامعة والحياة، كان لنا مع الناقد المغربي عبد الرحمن طنكول الحوار التالي:

 

 ماذا تفعل خلال فصل الصيف الحالي، هل حظيت بعطلة أنت والأسرة، وماذا تقرأ؟
n أغتنم دائما عطلة الصيف للالتحاق بالعائلة في الجهة الشرقية لتجديد الصلة وأنعم بدفء كل عضو من أفرادها. في غالب الأحيان لا تتجاوز المدة التي أقضيها في كنف العائلة عشرة أيام. أما أغلب أيام العطلة فأقضيها في التنقل من منطقة لأخرى، لما أجد في ذلك من متعة في إعادة الاكتشاف، وشعور قوي بالرغبة في الركون إلى الفراغ والتأمل. لكن في ما يخص عطلة هذه السنة لن أخفي بأنني في غياب تام عن هذا الشعور. وعلى عكس ذلك ما يحضرني بشكل كاسح هو نوع من القلق و التذمر إزاء وضعية الاستهتار التي أصبح فيها المواطن المغربي يعيش أبشع حالات التهميش، تجلت في المساس بكرامته وحريته وبحقه في الوجود. وما أخشاه هو عدم استخلاص العبر مما وقع في الحسيمة وفي مدن أخرى، الشيء الذي سيزيد من هول الصدمة ويعمق عواقبها الوخيمة. من المؤكد، بالنظر لحالة الغضب الصامتة والمعلنة، أنه حان الوقت لاتخاذ الإجراءات التي يطالب بها المواطنون ولو في صيغة ما قامت به بلدان قريبة منا وتربطنا بها علاقات تاريخية.
هذا في ما يتعلق بالحالة التي أعيشها أثناء هذه الفترة كما يعيشها المثقفون وفئات كثيرة من المجتمع عموما. أما في ما يخص القراءة فهي جزء من حياتي ومصدر من مصادر سعادتي. أقرأ على طول السنة بشغف كبير في مجالات الأدب والفكر والاقتصاد والسياسة. و في هذه الأيام، ربما علاقة بالسياق المذكور أعلاه، راودتني رغبة ملحة للعودة إلى بعض أعمال الفيلسوف نيتشه. ففيها وجدت ما يبعد المرء عن صخب الأدلجة وخطابات التهريج التي لا يستشف من ورائها سوى تشبث أصحابها بالمصالح، والتهافت على مناصب السلطة مع الحرص على إبقاء دار لقمان على حالها. فإذا كان الكثير منهم يدعي القول بالحقيقة وإعلاءها أمام الجمهور، يدلنا نيتشه على أن الأهم ليس هو الحقيقة كتلك التي يلوح بها هؤلاء المغلطون، بل البحث عن إمكانية تغيير العالم بفعل وعي الرجال (كتاب الفيلسوف). فالسؤال المطروح راهنيا إذا هو التالي: هل يريد السياسي التغيير المرتبط بالوعي برهانات البلاد ورجالاتها أم يفضل دفن رأسه في الرمال حتى تمر العاصفة لينهض من جديد من وراء جعجعة الوعد والوعيد؟
من موقعك كأستاذ جامعي وكباحث وناقد أدبي، وأيضا كونك مارست المسؤولية كعميد ورئيس للجامعة، كيف تنظر إلى الواقع الثقافي الراهن في المغرب، ومدى الدور الذي يمكن أن تلعبه الجامعة المغربية في النهوض بالحقل الثقافي؟
n يتميز واقع الثقافة في المغرب بتنوع لافت يعود لكثرة الفاعلين فيه من مؤسسات وجمعيات ومنابر إعلامية وتواصلية. ولهذا تبدو الثقافة المغربية متعددة الأوجه و المظاهر، سواء تعلق الأمر بالمنجز النخبوي فيها أو المنجز الشعبي بشتى ألوانه الجهوية والبدوية. وبما أن الإنتاج في هذه الجوانب يعرف نموا ملحوظا، فمختلف فئات المجتمع تجد غايتها فيه ولو بنسب متوا فتة في ما يخص متطلبات الجودة وقوة التأثير. وينبغي في نظري لفت الانتباه إلى أن الثقافة المغربية بقدر ما تتطور بقدر ما تحافظ على خصوبة خاصة. يمكن الوقوف عند ذلك مثلا في مجال الفنون التشكيلية والسينما وفي مجال الأدب والفكر. فالطابع المغربي واضح المعالم فيها رغم انخراطها في تيارات الحداثة وما بعدها. ولنا أيضا نماذج عدة تدل على ذلك في الموسيقى الشعبية الأصيلة وفي إنجازات الشباب الجديدة بفضل تفاعلهم معها واحتكاكهم بها والحفر في خباياها. ولعل من بين المؤشرات الدالة على هذه الخصوبة، الاهتمام البالغ الذي تحظى به الثقافة المغربية عبر العالم في المهرجانات والمعارض ومؤسسات الجوائز ودور الإعلام و النشر والتوزيع. لن أبالغ إن اعتبرت أن سر تميزها يكمن في نزعتها نحو الابتكار وتوجهها النقدي الملتزم الناتج عن تشبث المثقف المغربي بحريته واستقلاليته، وقناعته بأهمية الدفاع عن قضايا الإنسان. هناك بالتأكيد مظاهر سلبية داخل حقل الثقافة المغربية بالإضافة لمعاناتها من معوقات كثيرة ، ما يدفع البعض إلى الحديث عن أزمة تنخر جسدها وتجرها نحو الانحدار. لكن تلك المظاهر لا تؤثر كثيرا على مرد وديتها وبريقها. إن حضور الأسماء المغربية في الثقافة العالمية يزداد حجما وتأثيرا، الشيء الذي يعطي للثقافة في بلدنا قيمة مضافة يلزمنا دعمها وترقيتها باستمرار.
وفي هذا الصدد يمكن بالفعل للجامعة، إلى جانب المعاهد المختصة، أن تساهم بدور كبير في صقل مواهب الطلبة وإعطائهم التجربة الكفيلة بتسهيل انخراطهم في مجالات ثقافية عدة. بالمناسبة، لا بد من التنويه بمبادرات عدد من الجامعات التي تعنى بالتكوين في الثقافة والفنون من خلال استحداث محترفات ومسالك و تنظيم مهرجانات ذات بعد وطني ودولي. ومع ذلك تبقى الحاجة في الجامعة لإحداث أقسام وشعب متخصصة في السينما، في الصناعة الثقافية، في الفن الرقمي، في التواصل التلفزي… خاصة وأن هناك طلبا على هذه التخصصات مما سيعزز ارتباط الجامعة بسوق الشغل وينوع من عرضها التربوي والأكاديمي.
 نعرف أنك أوليت اهتماما كبيرا بالكتابة المغربية والمغاربية للغة الفرنسية. فقد تابعت وواكبت أدبنا المكتوب والمنشور بالفرنسية ونشرت حوله الكثير من المقالات والقراءات النقدية . هل تعتقد الآن أن هذا الأدب تخطى شروط ميلاده التاريخية وأصبح يرتبط بعمق بالحقل الأدبي المغربي ، وجزءا لا يتجزأ منه؟
n هذا فعلا ما أعتقده بالنظر للعمق التاريخي كما أشرت من جهة، و من جهة أخرى بحكم العلاقة الوطيدة لهذا الأدب بالمجتمع المغربي وثقافته. إذ يجب التذكير بأن مجمل نصوص هذا الأدب تمتح من الخيال المغربي، وتوظف أيضا لغته بطرق عدة من بينها التناص والتهجين والتضمين. من المعلوم أن هذا الرأي غير متفق عليه من قبل كل النقاد، خاصة أولئك الذين يقولون بأن لا أدب وطني خارج لغة الأم. ومن المعلوم أيضا أن هذه المسألة كانت قد أثارت في الماضي سجالات حادة بين المؤيدين والرافضين. لكن الأمر تغير اليوم. فما دمنا نتحدث عن مغاربة العالم ونقبل دون أي أدنى حرج إمكانية انتماء الكثير منهم لهويات وثقافات متعددة، كيف يصح لنا أن نرفض الانتماء للوطن بالنسبة لمن يكتب منهم بلغة أجنبية؟ وكيف يصح لنا أن نقصي الذين من بيننا ينتجون أدبا بغير اللغة الرسمية للبلاد؟
 بالرغم من أنك تحملت – تحت إلحاح أصدقائك – مسؤولية رئيس بيت الشعر في المغرب . مع ذلك بقيت تهتم أكثر بنقد ومتابعة الكتابة السردية. فكيف تنظر إلى الوضع الشعري في المغرب، خصوصا على مستوى تعدد لغاته ؟
n اهتمامي بالشعر لم ينقطع أبدا بحيث أتابع بتأن إصدارات الشعراء المغاربة الذين يكتبون بالعربية والفرنسية والدارجة. للأسف الشديد لا أقرأ بالأمازيغية وأعتذر للذين يكتبون بها. من الملاحظ حسب المتتبعين أن المنجز الشعري المغربي كثير التنوع على مستوى الشكل (التفعيلة، قصيدة النثر، البناء العمودي) والمضمون (الغزل، الذات، الالتزام). إلا أن المهيمن فيه اليوم هو ما أسميه بشعرية الأثر. فبينما كان الشاعر، إلى حدود نهاية القرن الماضي، ميالا لصياغة مجازية لمعنى ما، فإنه اليوم لا يتعرض لموضوع بعينه بقدر ما يروم تقفي الصمت الذي يلف الكون، والبياض الذي يسكن الكلمات، والغموض الذي يعتري الوجود، والسر الذي يغري بالمنفى في الأقاصي… والمبتذل الذي يخلق الدهشة في اليومي. هكذا يريد الشاعر المغربي الارتقاء إلى نداء اللامعقول**** الذي بدون الإصغاء إليه لن تكتسب القصيدة سحر بهائها.
كيف تنظر إلى متطلبات العمل النقدي الذي تحتاجه الشعرية المغربية المعاصرة ، باتساع خريطتها وتعدد لغاتها وأصواتها وأجيالها ؟
n قد أفاجئك ربما إن قلت لك بأن أجمل النقد الذي قرأته حول الشعر هو نقد الفلاسفة أو الشعراء أنفسهم، سواء بالنسبة للشعر المغربي أو الشعر الأجنبي. وربما قد أفاجئك أكثر كذلك إن قلت لك إنني لا أحب كثيرا النقد الأكاديمي حول الشعر لما يرتكز عليه من مقولات ومفاهيم غالبا ما تشكل عبئا على رهافة الشعر ورشاقته. فما أميل إليه كعدد من الزملاء هو القراءة العاشقة للشعر التي تتماهى معه إلى أبعد حد ممكن. أما النقد الذي يروم التجييل والتحقيب والتصنيف فتنحصر أهميته في الجانب التوصيفي لا غير.
بعد كل هذه السنوات التي تحملت فيها مسؤولية جامعية ، عميدا لكلية الآداب في فاس ورئيسا لجامعة ابن طفيل في القنيطرة ، كيف يمكنك تقييم الوضع الراهن للجامعة المغربية؟ هل تراكم الإصلاحات السابقة ساعد على خلق نظام جامعي مثمر ومنتج ومساهم في بناء المغرب الحديث؟
n يأتي سؤلك هذا في سياق الترتيب العالمي للجامعات الذي صدر مؤخرا والذي صنف الجامعات المغربية في المراتب السفلى. ماذا يعني ذلك؟ هل هو مؤشر دال على إخفاق الجامعة المغربية في القيام بدورها التنموي؟ سيكون من الإجحاف الكبير اعتماد هذا الرأي.أولا ينبغي التنبيه إلى أن المؤسسات التي تصنف لا تتوفر على كل المعلومات ولا تعتبر خصوصيات الجامعة المغربية. ثانيا لا تشتغل الجامعة المغربية بهدف الاستجابة لمعايير مؤسسات التصنيف الدولية. إن مهامها تروم بالدرجة الأولى دمقرطة التكوين، بناء المعارف الجديدة مع تقليص الفجوة الرقمية، إرساء جسور التعاون والشراكة مع المحيط السوسيواقتصادي، استحداث الشروط الملائمة لترقية البحث العلمي والتكنولوجي. وهذه كلها تحديات كبرى يسعى رؤساء المؤسسات والأساتذة إلى رفعها بتفان كبير. وحينما أقول هذا لا أريد أن أغطي على مشاكل الجامعة المغربية ومعوقاتها، إذ هي بالتأكيد كثيرة ومتنوعة وتشخيصها معروف لدى الجميع، منها ما هو ناتج عن التراكم غير المعقلن للإصلاحات المتتالية، وما هو ناتج عن القرارات المرتجلة التي اعتبرها أصحابها بمثابة حلول صائبة لا تقبل المعارضة، ومنها ما يعود لغياب التنسيق الفعلي والمنهجي بين الوزارة الوصية والمجلس الأعلى للتعليم الذي غالبا ما تبقى توصياته مجرد حبر على ورق. فلهذه الأسباب وغيرها يتبين سنة بعد أخرى أن مردودية الجامعة المغربية الكمية والنوعية جد ضعيفة، في الوقت الذي تصرف فيه ميزانية هائلة. ومع ذلك أعتقد أن بإمكانها تحقيق التجاوز وتحسين أدائها، مثلما كانت عليه خلال سنوات مضت عززت أثناءها قدرات البلاد في مجالات التدريس والقضاء والهندسة والطب والتدبير والفلاحة والصناعة والاقتصاد. بطبيعة الحال مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس والجامعة تغيرت هويتها على المستوى العالمي في مناخ تسود فيه التنافسية على أشدها في ما يخص التكوينات العليا. فلا مناص بالتالي من إعادة ترتيب الأولويات مع تحديد الأهداف ووضع آليات ناجعة للتقييم.
مع أنك تكتب وتنشر ، ابتعدت كثيرا عن نشر أعمالك في كتب ، فهل يتعلق الأمر بانشغالاتك الكثيرة أم أنك أصبحت قليل الثقة في الكتاب تحت تأثير وسائل الاتصال الحديثة؟
n انشغالات كثيرة حالت بالفعل دون أن أقوم بجمع الدراسات التي نشرتها في المجلات والكتب الجماعية. وهذا ما سأقوم به عما قريب، خاصة و أنني من عشاق الكتاب الورقي ولما تمثله تلك الدراسات بالنسبة لي من محطات باذخة في حياتي الجامعية.
 هل لديك بعض الانتظارات من هذه الحكومة على المستوى الثقافي وتدبير قطاعي الثقافة والاتصال ؟
n الكل يعرف أن قطاع الثقافة والاتصال لا يعتبر مع الأسف من بين القطاعات الإستراتجية في بلادنا. وهذا ينم عن تصور غير مكتمل لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع المغربي اليوم وفي المستقبل. ففي رسالة سبق أن وجهها رئيس اتحاد كتاب المغرب إلى الحكومة، هناك تنصيص واضح على ضرورة تدارك هذا النقص. التحديات العالمية قوية ومعقدة كما هي أيضا شديدة التعقيد وطنيا، ولن يمكن السير بها إلى النتائج المنشودة إذا لم ترق الوزارة الوصية إلى متطلبات إعلام يتمتع بشروط الاحترافية العليا وانتظارات ثقافة حداثية تتوفر على إمكانات الابتكار.
ما هو انشغالك الراهن كناقد أدبي وكباحث، هل تهيئ شيئا جديدا للنشر؟
n أشتغل منذ سنوات، في إطار جمعية دولية، حول ما يمكن تسميته بالأشكال الصغرى للتعبير قد تنتمي إلى الشعر أو النثر أو الفكر أو المنثور الشعبي. وقد سبق لي أن نشرت بعض المقالات في هذا الصدد وستصدر أخرى عما قريب. كما أنني بدأت التحضير لنشر بعض الكتب حول الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية.
على سبيل الختم ، اسمح لي أن أذكر لك بعض الأسماء الشعرية المغربية، كيف تستحضرهم الآن؟

 الطاهر بنجلون: الكتابة بالأحلام والألوان
عبد اللطيف اللعبي: شعرية الأقاصي
محمد خير الدين: ملحمة العجائبي بامتياز
مصطفى النيسابوري: الإقامة على عتبة الضوء والعتمة

 


الكاتب : حاورته: شهرزاد العجرودي

  

بتاريخ : 18/08/2017