يوميات
للرّيح دهشةٌ تقهر، أتجرّد من التماهي، عن يساري صخرة كبيرةٌ رمادية عليها شقوقٌ وحوْشٌ أبيض وأخضر، أطيل النظر هناك حيث حفرة كبيرة تطلّ من بعيد..
بقايا أشجار الزيتون والكالبتوس متناثرة هرمة. أبدو كمن يراقب من علوٍّ حوافرَ خيلٍ ومراسيم طقْس لن يتكرر .
نسوةٌ وعشراتُ القصع من الكسكس وحلقات الذكر..، أجول ببصري بعيداً، مرتبكاً أبدو اكثر من اللّازم، لم أتوقع أن تعود بي الذاكرة الى هناك، أسرتي الصغيرة رُفقة جيرانها تأتي إلى هنا، أمي تُقبّل حيطان الضّريح، تحضُن بوجلٍ حجرا أملس وتبوسُ ظهْر صندوقٍ مُغطى بغطاءٍ أخضر مطرز، تمرّرُ الحجرة على وجهها، إلى رأسِها، بطنِها.. تُبسمل، تتمنّى في صمتٍ.
يأتي النّاس إلى هذا المكان بكثرة ثم يمضون تاركين شموعاً بيضاء مضيئةً في أمكنة متعدّدة من الضريح. أتبع أمي كالعادة ونسوة آخرين يتهامسْن أسمع ولا أعرفُ ..
أدْهشتني البقايا والتوالي وهنّ يمضين بعيدا.. تلك التي الان تتكرر، تبرزُ من الذاكرة الموشومة .
أظلّ أرقبُ شاشة التلفزيون وحركة الإشهار المتكررة، لا يعجبني الأمر البتة. تبرز كتابات متدفقة وميّاه كثيرة، بي رغبة حارّة للنُّهوض وقراءة الكتاب المفتوح.. استمتعُ بموسيقى متتالية …
واسعيد ونجاة وملاك ..!! هُوما فينْ مشاو عليّ… هذْ المساخيطْ.
الاثنين
اشتقتُ إلى مذكرتي هذا الصباح الثاني من شهر …، لم أجدْ من يكلمني، كالعادة فتحت صفحةَ الكتاب المثنية ورقتُها علويا وبدأت أقرأ بجهر ما يوجد بالصفحة من رواية ( خريف البطريك ) لغارسيا ماركيز التي أعيدها للمرة الثالثة…أترنّم قصائد الحرب والمعاناة والنأي…
السماءُ لا تمطرُ والجوّ بارد كأصابعي .
الثلاثاء
أفحص بعصبيّة زجاج النافذة التي تدلّت من القسم الفابريكي . يزعجني أن تظلّ تطوّق بها الريح الغربية وأكره هذا الصوت .
أحسّ بأني سجين اللحظة، التلميذ الذي يجلس في مقدمة الصف يتأمل وجلاً بعين القط العصا الغليظة الصغيرة تحت المكتب .
بعد حصّة القراءة سيأتي استظهار مادة القرآن الكريم بسورة الواقعة..
يدخل أستاذ مادة الفرنسية يبلغني برسالة المدير التي وصلتْ يريد أن نلتحق به عاجلا، المدير يكتب رسائله بالأزرق وبخطّ رديء (مستعجل) في أعلى الورقة. الرسالةُ مطوية وملصقة بالسكوتش وبدون ظرف اصفر مُوصلة من طرف حارس المدرسة الذي يسكن في دوار الفرعية التي نحن فيها.
في القسم المجاور، يتصايح تلاميذ المستوى الاول والثاني المشترك وهم يشتركون في تكرار وقراءة الحروف جماعيّا : برتقال، قردٌ، بقرةٌ …قَا، قوُ….يسود صمتٌ مجلجل في قسمي ثم بغتة يتضاحك التلاميذ دون أن أفقه شيئا..
الاربعاء
نصف النهار المتبقي من ظلال أمس، عدتُ بلوحة الطاقة الشمسية التي اقتنيتُها لتعوّضني عن ضوء الشمعة والبوطاكاز.
كنت قد أحضرت سابقا (باتْري) بطارية جديدة من البلاد اشتريتُه من دكان والدي للتلفزة وصالح أيضا للطاقة الشمسية .
سأكون أول من يستعمل مصباحا كهربائيا وبالطاقة الشمسية وسأثير بلبلة في الدوار، الموعاليم يضوّي بأشعة الشمس.
الخميس
يظهر أنّ المطر لن يتوقف
ليلة كاملة والمطر خيطٌ من السماء، الارصاد الجوية تؤكد ما تذهب إليه توقعاتُ السّيد شعشوع . سماء ممطرة وأيام تتشابه والثلج يحيط بنا من قمّة الجبل إلى سفحه ولا داعي للخروج وسنكتفي بالعدس مؤقتا.
سيكون المنظر رائعا كما روعة كلمات الثلج النّاصعة المعنى والمبنى في رواية لحنا مينه نسيتُ عنوانها.
صديقي الجنوبي، يستمتع بمقطع أغنية أمازيغية من البلاد أضبطه دائما على مؤشر اذاعة اكادير الجهوية رفقة زوجته وابنته الصغيرة المشاكسة التي تتنغنغ بخليطٍ ما هو بعربي وما هو ببربري، ضحكت طويلا وهو يصفُها بتاشنويت، جعلني صديقي أذرف دموعا ولا أنظر إلى أسفل ربما لأني وحدي من يتحملُ هذا الشقاء وأنّ الآخرين صامتين في هدنة.
أحضر مرّاتٍ لمؤانسته في بيته، قال لي سنبدّدُ الليلة ببرّاد شاي وجولة من لعب الورق ولن ينهزم أمامي وفي عقر داره .ضحكنا مرة ثانية ونحن نستأنف اللعب وتسجيل النقاط على ظهر المذكرة اليومية شامتين بالوقت الشاسعِ والضياع.
بعد ساعة فشِلَ، وانهزمَ كالعادة في عقر داره ولم يكفّ المطر عن التهاطل . توادعنا بعد منتصف برنامج لا أنام .. مدّ لي مطريةً كبيرة، مسْكني بعيدٌ عنه بمئات الامتار .
الجمعة
دسّست يدي في جيبي، فتحت البابَ، كان الثلج يغطي العتبة والافق ناصع، الجبل مكسوٌ بجلباب أبيض كالزجاج
أصابعي تؤلمني، من السهل أن أخرج في بداية النهار أو أذهب إلى أيّ مكان آخر..
ما قمتُ به هو كالتالي :
بمجرد وصولي إلى القسم كان عليّ أن أشعل أوراق التحاضير القديمة وبقايا دفاتر التمارين لأدفئ أطرافي، يتحلق التلاميذ حولي ضاحكين، أجسام شبه عارية مقشرة لا أتردّد في مطالبتهم بالانكماش قُربي، يغنّون… ينسوْن الجوع والألم وأتذكرُ الغربة وأبنائي …
السبت
أنهى صديقي فطوره وبدأ في تهييئ وجبة الغذاء خاصيته الرائعة..
جلس إلى الطاولة الخشبية التي جئنا بها من المدرسة لتؤنسنا وتعذبنا بالجلوس وبملإ جزء من الغرفة الكبيرة، بيني وبينه مسافة مترين، أنا في فراشي كالقطّ أستمع بمذاق الصغار الى موسيقى أغاني الصباح وقالت الصحافةُ ..
حين انتهى من اعداده كان يحرّك الصحون القليلة ليثيرني .. أخفي كسلي بالاختباء تحت الغطاء وأحلم كالعادة ب…شمسٍ وسماء زرقاء
واخا، أقول بتراخٍ… حين تنتهي غادي نغسلْ المواعنْ( الاواني ) إثرها ينحني جانبا في نحنحة طويلة ..
مساءً، بوشعيب يقرأ تلك الكتب الصفراء ويدندن على ايقاع سيجارته الصفراء،…ولا يرتاح إلا وهو يبرمُ جوانا، ثم يخلد الى ملكوت الصمت …، أو نلعب سويا الورق لقتل الوقت كما يقول ..
لكنه رحل الان، شارك في الحركة الانتقالية والتقمته صنّارتها ولم يعد هناك من يقاسمك النقاش وقراءة الكتب .
الاحد
لكي أخرج الى المرحاض يلزمني أن أنتظر عودة
صديقي سين، بيتُ الخلاء مملوء عن آخره وأحبّ أن أعرف الموضع الذي كان فيه لكي لا أدنس قدماي .. نضحك معا ونتداول الحكاية ونتخيّل مرحاض الملوك فوق أعلى الصخرة الكبيرة ونحن فوقها نُلقي بما في مؤخراتنا للعراء ولصوت الكلاب والقطط الشاردة…
لا أدري كيف جاءتْ سيارة موح زيك الصباح وهي تشقّ بحشرجتها المتكرّرة الصّمت منبهة ايانا بالاستعداد للرحيل والضباب الكثيف. بعد برهة قلت لصديقي متبرماً، ارزمْ راسك، ستذهبُ وحدك . أفضلُ أن أبقى هنا طول العطلة ولا أريد الذهاب. غي خسران الفلوس وانت عارفْ.
أجابني بسرعة خاسرْ، خاسرْ. هنا ولهيه كِيف، كيفْ. اعقدِ العزم ونوض اصاحبي بلا عكَزْ، مول الكاميونيت جا من اجلنا، واليوم ماشي السوقْ.
كان على حقّ، لأنّ لا أحدَ يوم الاحد، سيأتي لزيارتنا. أكره أن أظل مستلقيا في فراشي كالميت/ الحيّ..، بعيداً عن الشمس قريبا من المطر.