من نافل القول أن بنميلود قاص رائع – هذه الصياغة تذكرني بالكتابات التي كان أدباء السبعينات، يُدبجون بها مقالاتهم، ولأني أجدها صالحة للابتداء في ظل عدم قدرتي على تصنيف أعمال هذا الكاتب إلى أي حقبة زمنية، أو حتى مدرسية أسلوبية، فقد انتقيتها (وليكن لله في عوني) لأن هذا القاص ليس جزءا من الحساسية الجديدة، كما بدا لي أول الأمر، فهو رجل قادم من بلاد الأخْيِلة – لا نعرف عن نسبه الكثير ولا عن مِلله وأبجدياته غير اليسير – مُحَملا بحكايا كثيرة لذيذة، باشرت الانزياح عن السردية المُتحَولَق حولها، ببنيتها المحكومة بها، والتي ليست غير نظام خاص لكل واحد منها، ما يعطيها تميزا ويوضح لنا تباين مصادر القص داخل هذه التجربة.
يحضر بنميلود كسارد مطمئن داخل قصصه، ممتطيا ضمير المتكلم المغامر، في حين نرى جانبا من قصصه الموسومة بالفانتاستيكية تضمر ضمير الغائب عن المتخيل البعيد أو الماضي، وهو هنا ليس مُنِظمًا للحكي بقدر ما هو مفترس له، في قدرة على معالجة مَسُوغه بمرونة شفافة، لحملنا على تَقبل الخارق، الذي يبسطه كامل مساحة الحكي بواقعية.
ما تُمليه كتابات بنميلود، من إشكاليات ذات اعتبارات تصنيفية تحديدية- أعفو عليها وأتجاوزها سريعا- كي لا أقع في خلطة الارتباك (أكره ذلك) فتداخل الأجناس الأدبية في النص المفرد، لدى هذا الكاتب يبقى واقعا صعب الافتكاك، ذلك أن اللغة الشعرية تبقى إبرة كتاباته حتى المقالية منها، على الأبعد.
لم أعتمد هنا غير تلك القصص التي وسمها القاص بالصفة – أذكر أني لما كنت مشرفا على مجلة (الربيع الثقافي) كان الشاعر عبد الرحيم الخصار أول الداعمين للتجربة، والمبادرين للنشر فيها، إلا أن حُمى الجري في أن يكون العدد في أحسن حُلة ،وقع سهو في تجنيس نص (قطاع طرق لكننا بلا طريق) فلم يكن الانفكاك من الارتباك إلا برسالة من صاحبه.
فأسلوبية الكتابة المفتوحة، تبقى لاتُعوِّل إلا على الكتابة نفسها، وفاتِنِيَتها، لامنهجية أو مدرسية، فما يثير داخل كتابة بنميلود هو تلك الإلتماعات الشعرية، التي ترصع مادة الحكي، الذي يحاور كل الأجناس الأدبية في سَن لقوانين حكائية خاصة، تُشكل معالمها ومَغامرها، بأسلوبية فنية متوهجة، تؤسس نموذجها عبر التراكم.
يبقى ما يَسيح عنها هو ذلك الوصف التصويري، بعدسة (ميكروسكوبية) تخترقه تعليقية وارفة بمشهديتها، تحظر اللغة الطفولية كإشعال لفضائها بمكوناتها الجغرافية وترانيم الفنية داخلها.
فهذا القاص ليس سجين قراءات يحاكي عنها، حيث تجد القسمات الرئيسية في تجربته، تتضح مع راحِبِيَة التيمات ولغة التجريب في تشييد الأبنية، لاتجديدها كما يرتهن إلى ذلك إسكافيون عديدون.
قصص تحدث وقع انطباع لحظي، ينعدم داخلها كل تنميق بلاغي، الجملة السردية مَسرحها، يتطاول خيطها بموضوعات مُخصبَة ودافئة، بأفق ممتع وجميل، يُبرِز الهامش ويُنمي الوعي الجمالي به، لتتصادى القصة عنده بما يميز القصيدة لديه.
قراءتها تُعتبر مرصدا لاقطا لمراحل تشكل هوية كيانية لكتابة جديدة، أجد حسب ما أذهب إليه أنها ستحفر قريبا تَمظهراتها، على جملة من التجارب الشابة وإن بدأت فعلا.
سردية بنميلود سَردية حقيقية، تَخلق تفاعلا وانفعالا، في لجوئية تضفي على القارئ تسكيرية وتكسيرية لما اعتاد عليه، فهي تسوق التجريب إلى مدارات التنويع.
لا تُطمئنه رؤية أية ايديولوجية متسربة لدى الجماعة، ليُخلي المجال لمتنه ونسقه. مضماره شديد الشفافية، بمكونات خصبة كفاية لتُوثُب تُربَة المتخيل، في فانتاستيكية تسعف على مزج الواقع باللاواقع باعتبارها عنصرا تعبيريا في معطى تحكمه السخرية السوداء.
تتبلور تجربة بنميلود القصصية، في إطار مناخ ثقافي متموج وإشكالي، تستبده جملة من التمفصلات غير الصحية نسبيا، وهو الوصف العام، إلا أن بزوغ أسماء شابة من الفضاء الأزرق، ساعد بشكل أكيد على ظهور ما أسميه: بحركة مقاومة الرداءة، كسرت مساحة الحرية المتاحة لها، هيمنة المنابر الإعلامية التقليدية الرسمية وشبهها، المسيطَرة من قبل أسماء معدودة برؤى محدودة.
تتمحور مدارات الكتابة القصصية عند محمد بنميلود، على استرجاع الطفولة ومشاغل اليومي، بالحكي في فسحة طليقة ومُخضَرة، تعتمد الأجنحة المتعددة، للأبنية التي يَصرفها في اقناع درامي وأسلوبي، يطغى عليه المباشرة في التعبير، ليُوثر طبقة حكيه بالمفارقة.
هذه القصص، الآهلة بالسهول والمروج السعيدة: امتداد الشبق بساطها، ناضجة كحب وممتلئة كدفئه .. سخاء ذلك الذي عمدها إياه، ليَفعم العلاقات بين الوضعيات السردية المتجاورة والمتداخلة.
أسلوب الكتابة ولغة المعالجة، التي يتحقق بها الإحساس القوي بالواقعية، ما يعكس الروح الفنية والمقدرة الإبداعية التي تزخر بها، هو الآن ما ينمى هذا الإحساس الجمالي البكر بهذه القصص.