في المراسي المهجورة ، قرب صخور الجرح المحتوم ، يظل البحر ملاذك الرحيم بأسرارك الثمينة ، أمواجه الحائرة تحتفي بلعنات اللمسة الأولى والعناق الفاجر والقبلة المسروقة ، وبعد الغروب المستعجل ، يهدأ الخاطر ، يكبر حقك في الحلم المشهود .. ويزهر .
تغيب عنعنات الوهم المخادع وسط الضباب ، تتيه العيون المرهقة بحثا عن أفق وفي لما يجب أن يكون ، وفي أساطير الخيانات المشاع ، يبيع النبض نفسه للشيطان ، يحتمي بدروع الغدر الموروث ، قريبا من ماء الفضيحة ووشم الهوان ، تطوف عفاريت الحكاية وتحاول قراءة شرود الزبد عن شطه المعهود .
تَحْذَرُ تداعيات العمى الحاقد ، يظل الماء سيرة النزيف ، تبوح للموجة ، تسخر من الجاهل المقنَّع ، يخاطبك الهدير ، يقول لك : « اعشق شقاء الجنون الحر، حرِّرْ الطفل المسجون بعيدا عنك ، اترك القيد الصدئ في معصم المهووس بالتفاهات ، لا تهتم بكهف منبوذ عاش فيه الجلاد .. الموج موجك والبحر بحرك ! « .
وذاك البحر لك
بذراعين مفتوحتين
تسبح فيه كما تشاء
وعراؤك يتحدى أحقاد الغباء
والبحر مرآة أحلامك الثائرة ، عشق الأزل والأبد، وما في الضباب الدائخ غير ذرات العدم ، تودع أشباح الصخرة، تخفي الغيمة العاقر ظلال الجبل المحايدة ، تنسى الالتفات إلى شقوق النكران ، وترحل .
تلزم صمت الحكماء ، تتأمل موجتك الحبيبة ، تتابع عودتها لسرب الأمواج الحالمة بما لم يتحقق ، ولدى البحر حكايات جديدة لا علاقة لها بالمد ورعشات العشق ومويجات الغرق .
تهزمك دهشة اعتبار أن المفاجآت المفرحة لا تدوم طويلا ، لم تنتبه للنحس الطاغي على جغرافيا وجودك بالقوة ، يجذبك صخب أسطوري لا يتوقف ، تستحضر ما مضى من حكاية العجوز والبحر ، تدرِّب النفس على تحمل جفاف الأرض العاقر ، تدخل طقس الإعداد القبلي لمواجهة وباء الخيانات وموسمها المقدس ، وتكتب على رمل الأسى المدنس « لا مفر سوى لمنفى الموت المؤكد ! «
تصر على ملاعبة المويجات المتصالحة مع ريحها العاقلة ، تراوغ الراقصة ذات الإيقاع النشاز ، تضحك من جهل الأوامر وجماجم الأوثان المعاصرة ، تصرخ في وجه الماء ، يتردد الصدى في أعماق الوادي المخيف ، وتغطس منتشيا بنشوة السخرية من كراكيز العبث .
ترى فيما يرى الهالك ، أشباحا مدججين بالأسلحة والهراوات والواقيات الزجاجية الصلبة ، يحاولون منع الحالمين من السباحة في الأبيض المتوسط ، وفي عمق الدوامة ، ينهزمون ، تسخر المويجات الصغيرة من سذاجتهم المقنعة ، وتمنح صرخة العراء المفيد صدى قويا يتجاوز جزيرة الأغنام الجبانة .
يفكر الحذاء المسعور في منع الموجة من تقبيل شاطئها المرصود ، يراقص طيف الاستيهامات السائبة ريحا منذورة للزوال ، تحضن كأس الوجود شفاها غاصت في بياض الزبد ، تعود الزهرة البرية لعناد الماء ، تعترف : لا منقذ من حكاية البحر بعشقه الأسطوري وأسراره الدفينة .. ولا خلاص !
لحسن الحظ .. بحرك ذاك يترفع عن حقارات الخطأ ، لا ارتعاشات الرعب تكفي ، لا غصات الندم تدوم ، وحالات الغياب والحضور تلخص حيرة الوحش المفترس ، تفضح شذوذ المريض بسرطان الفتك والهروب.
هي حياة البحر عصية على التقزيم ، تتساءل عن سر الحمق المزمن ، تقول : « ألهذا الحد المثير للسخرية يصل غباء عسس آخر الزمن ؟ « ، تملأ الفضاء قهقهات الأطياف القادمة من قبور شهداء دفنوا بعيدا عن موطن الصرخة الأولى ، يمزق الهدير ستارة البهلوان البشعة ، تجد الأحلام حريتها المبجلة وسبيلها الموعود ، تراوغ تعاليم المنع ، يبقى بحرك القاهر الفاضح نديمَ عاشقٍ ينتظر ما يجب أن يُنْتَظر ، يعيش مدَّه المشتهى وجزره الموعود ، تحتفظ المويجات المتهادية بذكرى قُبَل عاشت الغروب الشاعري بما ينبغي من الخشوع ، يرفض رمل الشاطئ الدافئ الاحتفاظ بآثار أحذية بليدة تتوهم القدرة على تحدي ريح الغضب ، يستحيل الهدير إلى أنشودة حب تسخر من غباء الأصنام ، يخاطب حسناءه الفاتنة ، والبحر فضّاحٌ حكيم لعُهْر الأنذال ، يقول لها :
سيدتي الحرة
هذا بحر شعري الشارد
ليس رماد موت هندوسي
ولا حلم ظهيرة اختنقت ظلالها
هو خرافة وجود
وشهقة يقين جاحد
تعجز أشباح الافتراس عن مواجهة عشاق البحر الفاتن ، تحضر أصنام العفن الانتهازي لمهد الصرخة ، تتجاهل جرح الضوء القادم ، تواصل مهمتها البليدة في استبلاد الأشباح الساذجة ، وتحتقر عمالتها الحقيرة .
يتيه عسس الوقت المعطوب دون هدف محدد ، يراقبون التواءات مويجات تسخر من بلادة أبراجهم الخشبية المسوسة ، وفوق رمل الحكايات المرصودة تعاند الحروف حماقات الترهيب ، تحضن ريح العبوس المحتوم ، وتمسح آثارا غريبة ركبت احتلت الشاطئ .
على وجه اليقين تجاعيد الرمل تقود لهاوية الفناء ، بالتأكيد الحياة ليست عادلة ، إما أن تعاند فتشقى أو تصالح الظلام فتُنْسَى !!! يحاور الليل موج بحرك المحروس ، تغرق الكف في الكف ، ويهديك الهدير شهادة اليقين الخالد .
تؤمن بفائدة السباحة في غضب الماء الوفي ، يحرضك عداء المعتوه الحاقد على مواصلة العناد ، تسبح في البحر المتكلم وشاطئه البعيد عن عيون مخبري جمعية الرقصة الناقصة وشباكها المثقوبة ، طبعا .. الآخر ليس أنت ، وتوأم الروح يتحداك في من يتحمل أكثر تموجات المصير الملعون وعذابات الجرح الأكبر .والبقاء دوما للعاشق الشاهد .
يزين دم النزيف وجه الجبل الصامد ، يشهد قصة حب موغلة في الجرح الأبي ورعشة حياة بهية تتحدى البؤس رغم قسوة التهميش ووحشية الافتراس ، والبحر العاشق بسخاء سميعٌ كَلِيم بكل تفاصيل الأسطورة التي لا تنهزم ولا تستسلم ،
شلل الأفكار والأحلام وجعٌ ، سؤال الوجع غباء ، والغباء لمسة مجهولٍ أحمق لا يدري لماذا تحب حدّ العبادة هذا البحر الممجَّد .
يطارد العسس نشيدك الغجري ، تطول دقائق التحقيق واستنطاق كلماتك الملسوعة من طرف أغبياء الخواء ، تعرف أن الأيام ستمر دون أن ينتبه لموتها أحد ، وفي قمة الهاوية المطلة على أمواجك الساحرة ، تعود لعنادك الأحمق ، تمسح بقايا جنود لم يحسنوا اختيار العدو المناسب ، تداهمك نوبة الشرود في الأزرق البحري ، وتصبح جزءً من لوحة تشيكلية يدري سرها البهيِّ موجتك المعشوقة .
ولا عَجَب .. للموتى في مدينتك الحزينة وقراها المنسية للموتى نصيب من غروب الحلم المشتهى ، تنتصب أسوار المقابر الصامتة فوق الرُبَى المطلة على أمواج بحرك وهديره الغامض ، تصطف شواهد الوداعات المحتومة .. ولحنينك الطفولي تضاريس البركان الخامد .
وذكريات الهروب المستحيل محفورة على صخر الهاوية ، ومن عبث الصدفة الأبله ، ينكسر إزميل الشهادة الوفية، تظل الكلمة الحكيمة منقوصة مع بقايا الحنين ، ولا سلطة سوى لصمت الألم .
لا فائدة من اللغط الزائد في المقام اللئيم ، تنهار الرعشات تباعا حتى تصل مدارك الموت المشاع ،
وفي صيف الفصول الممسوخة ، تعود الروح الهائمة ، تقصد قبورا معروفة بشواهد الندم ، تستسلم لطقوس المناحة ، ينتهي العبور المؤلم ، تجمع أغراضك التافهة ، تستعد لِحُجَّة الغياب ، تحضن هدير البياض الأبدي ، تحني رأسك المتعبة ، وترحل لجبل الحلم دون ندم .