«والدتي كانت تتواجد على بعد زقاقين من ساحة لارمبلا، سائق سيارة أجرة مغربي قام باصطحابها إلى المنزل بالمجان، وقال لها لسنا سواسية»، إنها التغريدة التي خطتها أنامل «ميرتكس بسامونتيس» ابنة سيدة إسبانية، على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، حكت من خلالها التصرف النبيل للشاب زاهر زنجيلي، ذي الأصول المغربية، الذي وضع نفسه رهن إشارة الجميع وبالمجان على إثر الحادث الإرهابي الذي ضرب ساحة «لارمبلا»، والذي دافع عن مغربيته داعيا إلى عدم الخلط، وألا يوضع المغاربة والمسلمون في كفة واحدة مع الإرهابيين، تدوينة كان لها ما بعدها، مابين مشكك، وما بين مؤيد منوّه بهذا الموقف الإنساني، الذي اختارت «الاتحاد الاشتراكي» أن تسلط الضوء على تفاصيله وتفاصيل ما وقع يوم الخميس من زاوية أخرى من خلال محاورة «زاهر زنجيلي».
زاهر .. ابن القصر الكبير
زاهر زنجيلي، مغربي الأصل، من والدين ينحدران من نواحي القصر الكبير «العرائش»، ازداد في 11 مارس 1988، بطرابلس الليبية على إثر سفر استثنائي، قبل أن يلتحق بمعية أسرته في سنته الأولى بالديار الإسبانية، التي قضى فيها والداه حوالي 40 سنة. إسبانيا التي ترعرع بين أحضانها، وتحديدا بمنطقة «فيلاسار دي مار»، التي شبّ فيها إلى أن وصل سنه اليوم 30 سنة، اختار أن يشقّ حياته فيها بعصامية حيث اشتغل سائقا لسيارة أجرة منذ أربع سنوات، المهنة التي جعلته ينغرس أكثر في المجتمع الإسباني ويلتقي أشخاصا كثر، بعقليات مختلفة ومن جنسيات متعددة، لامس خلالها الكثير من الرؤى والطروحات، وعاين جملة من المواقف وردود الفعل التي لم تغير يوما من قناعته، بل جعلته على الدوام يفتخر بمغربيته وإسلامه، قبل أن يخلق الحدث ويصبح الشخصية الأكثر جدلا في البداية، ثم الأكثر شهرة عقب الحادث الإرهابي الذي ضرب برشلونة يوم الخميس 17 غشت، بعد أن عمل على إيصال سيدتين وشابة بالمجان إلى محلات سكناهن، وردّ بكل هدوء وبلغة إنسانية على نقاش فتحته إحدى الراكبات، وهي مواطنة إسبانية تبلغ من العمر حوالي 70 سنة، التي انتقدت المغاربة خاصة والمسلمين عموما وهي تحت هول الصدمة، على ارتكاب أعمال إرهابية، بأن ليس كل المغاربة إرهابيين وبان الإسلام بريء من ممارسات من هذا القبيل. موقف نبيل وجواب أثّر في السيدة التي نقلته بحذافيره لابنتها وهي اختصاصية في علم النفس، هذه الأخيرة التي عملت بدورها على نشره بأمانة من خلال تغريدة لها على «تويتر» التي انتشرت بشكل قياسي، وحصدت آلاف الإعجابات والتعاليق، مقابل بعض المواقف المشكّكة، التي لم تكن مقتنعة بالرواية، قبل أن تسارع وسائل الإعلام الإسبانية المختلفة للتواصل مع السيدة والبحث عن زاهر، الذي تم تسليط الضوء عليه وإبراز نبل موقفه، ليصير حديث الساعة في إسبانيا ويحصد الإشادة والتنويه.
حادث بطعم الغموض
يحكي زاهر لـ «الاتحاد الاشتراكي» في اتصال هاتفي بلكنة تغلب عليها الإسبانية، كيف قضى يوم الخميس 17 غشت، مستحضرا شريط أحداث ذلك اليوم، وتحديدا خلال الفترة الزوالية، حيث كان قادما من المطار حوالي الساعة الخامسة مساء برفقة زبونين نقلهما إلى ساحة «سانت خاومي»، غير بعيد عن ساحة «لارمبلا»، وهناك تقدّم نحوه رجل وامرأة وطلبا منه نقلهما إلى وجهتهما بسرعة وأكدا أنهما سيمنحانه أجرته مضاعفة، الأمر الذي جعله يطرح تساؤلات عن الدافع لذلك، علما أن الفترة هي زوالية، ووفقا للمألوف يمكنهما إيجاد سيارات أجرة كثيرة ووسائل نقل مختلفة بشكل عاد، فطلب زاهر من محدثته انتظار إنزاله لحقائب الزبونين حتى يقلّهما بالأجرة الاعتيادية، وإن كان قد قرّر العودة إلى المطار، وهو ما تم فعلا إذ ركب الرجل وزوجته وفي الطريق، كانت برقيات ترد على جهاز اللاسلكي الخاص بسيارة الأجرة المتصل شبكيا بباقي الأجهزة المتوفرة في سيارات أجرة أخرى، والتي كانت تتحدث عن حادث وقع بساحة «لارمبلا» دون أية تفاصيل، وهنا فطن زاهر إلى دافع عرض زبونته ومرافقها، خاصة وأن حالة الجزع كانت بادية عليهما.
الأخبار التي بدأت تتناسل والتي أشارت إلى حادث خلّف ضحايا، لم يعرف إن كان حادثة سير عادية، أم له صبغة إجرامية، إضافة إلى التخمينات التي كانت ترافق الحديث، دفعت الزبونة إلى استفسار زاهر إن كان على علم بما وقع فنفى ذلك، مما جعلها تضعه في الصورة خلال مسار الرحلة، الذي امتد لمدة تراوحت مابين 10 و 15 دقيقة، جزئيا، بالنظر إلى أنها هي الأخرى ومرافقها غير ملمّان بكافة التفاصيل، ولما وصلا إلى وجهتهما، وبعد تفكير قرّر زاهر تغيير برنامجه والتوجه صوب ساحة «لارمبلا» عوض المطار، وفي الطريق كانت صافرات سيارات الأمن والإسعاف مدوّية إعلانا بأن الحادث ليس هيّنا.
أثناء عودة زاهر إلى الساحة كانت التفاصيل تتضح شيئا فشيئا عبر جهاز اللاسلكي، بعدما قام عضو بجمعية لسائقي سيارات الأجرة، مماثلة للجمعية التي يتحمّل زاهر مسؤولية التواصل باسمها «أنجيت»، بربط الاتصال بمسؤول أمني الذي أطلعه على حقيقة الوضع، مخبرا إياه بمسارات طرقية وجب اتباعها للحفاظ على انسيابية التدخلات الأمنية والاستعجالية وتفاديا للعرقلة، حيث وبناء عليه حدد سائقو سيارات الأجرة نقاطا بعينها بتنسيق مع المصالح الأمنية لكي يتجمعوا فيها ويساهموا بدورهم في عملية إجلاء الأشخاص المتواجدين من الساحة، بالنظر إلى توقيف حركة «المترو» والقطارات.
تضامن في مواجهة الألم
نقاط التجمع الثلاث التي تم تحديدها وقف خلالها زاهر وزملاؤه على مشاهد الألم في تقاسيم الوجوه، والخوف من المجهول، الذي وحّد الجميع، إضافة إلى آثار الصدمة بالنسبة للذين عاينوا حادث الدهس الإرهابي ومشاهد القتلى والجرحى، فكان زاهر ينقل جميع من يتقدّم نحوه بالمجان شأنه في ذلك شأن زملائه صوب أقرب محطة تتوفر على وسيلة نقل في الخدمة، في حين كان يتم نقل بعض الحالات الخاصة إلى غاية منازلها للضرورة أو إلى المستشفى أو الطبيب الخاص.
يتحدث زاهر عن هذه اللحظات لـ «الاتحاد الاشتراكي» مستحضرا كيف وجد مشاكل في البداية لأنه عندما كان يوصل أشخاصا ويعود، كان يصادف مواطنين في الطريق يطلبون خدماته فكان يعتذر الأمر الذي لم يتفهمه عدد منهم فيعبرون عن ردود فعل ساخطة اعتقادا منهم أنه لا يقوم بواجبه، فما كان منه إلا أن ترجّل من السيارة وارتدى صدرية «الوضع الحرج»، وعلّق يافطة تحمل اسم الساحة وإشارة تبيّن أن سيارته في خدمة المتضررين بالمجان، آنذاك يضيف زاهر، تغيّرت الرؤية وردّ الفعل الذي كان يغلب عليه طابع التصفيق والتحية، متى مرّ من مكان كانت تتواجد فيه الجموع.
تدخلات للمساهمة في نقل الأشخاص من مختلف الجنسيات، إسبان وغيرهم، ساهم فيها زاهر وزملاؤه بنجاعة كبيرة، ويستحضر في هذا الصدد كيف نقل زميل له أسرة تتكون من 8 أشخاص صوب وجهتهم وإن كانت سيارته لا تنقل إلا أربعة أشخاص، بعد أن رخّص له رجل أمن شفاهيا ذلك وأملى عليه رقمه المهني والهاتفي للتدخل إذا ما تم إيقافه في نقطة مرورية ما وهو يساهم في عملية «الإجلاء»، موضحا أن الجميع انخرط بنفس جماعي لتجاوز الصدمة ومخلّفاتها، وساهم كل من موقعه في أن يسود الحسّ التضامني وأن يكون له حضوره القوي في برشلونة.
المغاربة أبرياء من الإرهاب
في خضم تنقلاته، وأثناء تحركه صادف زاهر شابة في الثلاثينات من عمرها على مقربة من ساحة «لارمبلا»، وتحديدا عند ممر «ذيغراسيا» على مقربة من الإشارة الضوئية، التي حين كان يتحدث إليها تقدّمت منه سيّدتان متقدّمتان في السن وهما لا تقويان على المشي، وطلبتا مساعدته، فما كان منه إلى أن استجاب مخبرا إياهما أنه سيعمل على تقريب الشابة إلى وجهتها بمحيط «برسلونيتا»، ثم سينقلهما إلى وجهتهما.
أثناء توجهه صوب وجهته كان الحديث عن الحادث الإرهابي يفرض نفسه على النقاش بين الراكبات اللواتي انتقدت إحداهن وبشدة ما وقع، ورمت باللائمة على المغاربة خاصة والمسلمين عامة، مستنكرة مثل هذه الأحداث الإرهابية الإجرامية، تصريح لم يتفاعل معه زاهر الذي لم تكن المتحدثة تعلم أنه مغربي، وإن كان يتألم في قرارة نفسه، وانتظر إلى أن أوصلها إلى وجهتها وهناك مدّت يدها بالمال رغبة منها في تأدية واجب ركوب سيارة الأجرة، لكن زاهر اعتذر بأدب ولباقة، مؤكدا أن خدمة التوصيل هي بالمجان قبل أن يخاطبها قائلا «أنا مغربي، وأنا بدوري متألم لما وقع، أولئك الذين قاموا بهذا الفعل الإجرامي والذين يدّعون أنهم مسلمون الإسلام بريء منهم، ولقد أساؤوا لنا جميعا بمن فيهم أنا الذي أتواجد معك في هذه اللحظة وأقدم يد المساعدة للجميع دون استثناء أو تمييز»، جواب كان له وقعه في نفس السيدة التي أصّرت مع ذلك على تسديد مبلغ الركوب، لكن إصرار زاهر كان أكبر الذي عاد وخاطبها قائلا مرة أخرى» سيتحدثون عنا غدا وبعد غد بكلام غير صحيح، كلام بالضرورة سيؤلمنا، سننعت بأقبح النعوت، أرجو أن تكوني شاهدة على الحقيقة وأن تبلغيها للآخرين، أرجو أن تشددي على أننا لسنا متشابهين».
التدوينة الحدث
غادرت الراكبة سيارة الأجرة مودعة زاهر، وهي متأثرة بموقفه النبيل، وبالمنزل أخبرت ابنتها بالقصة وبفحوى الحوار الذي دار بينهما، فعملت على تضمينه لتغريدة على حسابها بـ «تويتر»، التي انتشر صداها، مخلّفة نقاشا واسعا، تقبّله البعض بصدر رحب وبقلب مفتوح، في حين لم يصدّقه آخرون واعتبروه مجرد قصة مختلقة، إلى أن بادرت بعض وسائل الإعلام للقاء السيدة الإسبانية ونشرت حوارا معها تضمن تفاصيل الرحلة ومسارها، في وقت لم يكن زاهر على علم بالضجة التي رافقت تغريدة ابنة زبونته، التي لم يفطن لها إلا بعد أن تابع الحوار في إحدى الجرائد كغيره من القراء، وبوقوفه على تفاصيل الحوار اكتشف أنه المعني بـ «الحدث».
حوار دفع صحافيين بقناة تلفزية إسبانية إلى ربط الاتصال بزاهر، وإجراء حوار معه، الأمر الذي جعل موقفه وصورته يصلان إلى عدد كبير من الأشخاص داخل وخارج إسبانيا، فتبيّن بالفعل أن الأمر ليس مجرد حكاية تم نسجها من مخيّلة السيدة وإنما هناك بالفعل شاب مغربي، يفتخر بمغربيته، آثر أن يكون إلى جانب الضحايا وعموم الأشخاص الذين كانوا يتواجدون بالساحة الكطالونية، وأن يظل في خدمتهم تلك الليلة وألا يدخل إلى منزله إلا في الخامسة صباحا.
في مقدّمة المسيرة
موقف زاهر وزملائه، كان له وقعه الطيب في النفوس، مخلّفا أثرا جميلا وإشادة كبيرة، يقول زاهر، «إن ردود الفعل الإيجابية تغطي على أي أمر قبيح كيفما كان، وأنا أفتخر وأعتز بكل المواقف الحضارية التي عبّر عنها الإسبان، الذين أصروا على ألا تكون مواقفهم مبنية على تمييز أساسه اللون أو الدين، ورفضوا كل أشكال العنصرية».
حكاية زاهر مع التضامن لم تنته بانتهاء ليلة الخميس الجمعة، بل أنها تواصلت بتصدره مسيرة السبت التي شارك فيها عشرات الآلاف من الإسبان الذين أكدوا خلالها على أنهم لايخشون الإرهاب، وبأنهم موحدون في مواجهة كل أشكاله. موقف شاركهم فيه العرب والمسلمون، مغاربة ومن جنسيات أخرى، وكان زاهر أحدهم، إذ تم منحه اعتماد التواجد في مقدمة المسيرة إلى جانب ممثلين عن الأمن والوقاية المدنية وغيرهم.
انتهت المسيرة ولم تنته معها رغبة زاهر وغيره في أن يعم السلام وأن يتم القطع مع كل أشكال الإرهاب. زاهر المغربي المفتخر بأصوله المغربية، الذي قدّم وجها آخرا لهذا الانتماء، الوجه الغالب على أي شائبة عابرة، مؤكدا أن الحياة استمرت بسرعة وأن الساحة الكطالونية استرجعت عافيتها في ظرف زمني وجيز، مشددا على أن برشلونة هي مدينة للحياة، متميزة واستثنائية، تحتضن جنسيات مختلفة كثيرة، من مختلف قارات العالم، وهي عنوان على التآخي والسلام وبأن من سعى بفعله إلى المساس بهذه الصورة لم يفلح ولم يتمكن من تحقيق مبتغاه، موجها في نفس الوقت تحية خاصة إلى زملائه في المهنة وإلى كل محبي السلام ليس في إسبانيا لوحدها وإنما في العالم أجمع.