يتألف نص “النظر في وجهكم العزيز”- وهو نفسه، تقريبا، عنوان المجموعة القصصية “النظر في الوجه العزيز” – من أربعة فصول، فضلا عن كونه من أشد نصوص المجموعة قصرا، حيث لا يتعدى أربع صفحات من الحجم المتوسط. وإذا كان أول ما يبديه النص هو تصميمه وهندسته القائمتان على إعادة توزيع مكونات العنوان على عناوين الفصول بشكل متتابع، فيبدو أن القارئ سيلاحظ أن الأمر يتعلق بتوزيع لا يخلو من دلالة قد تكون لصيقة ” بطبيعة هذه الكتابة ذاتها من حيث خصوصيتها الأسلوبية، واستثماراتها البلاغية، الشيء الذي يحفر مسافة قرائية بين”( ) بناء النص وحضور الشعري بين فصوله، بلغتها المكثفة والمفعمة بذاتية قد لا تعزى إلى السارد الذي يحضر من خلال ضمير الغائب وحسب، ولكنها ستتجه نحو “الأنا الذاتي” للقارئ، ومن ثم، ستخاطب طبيعة رؤيته أو نظره، فلربما ليس كل من يرى- يمتلك نظرا حادا، ولربما خاطب المرء من خلال نظرة بما لا تسعف به عبارة.
إن اعتماد السارد على عملية إعادة توزيع مكونات عنوان النص على عناوين فصوله يشير إلى رؤية تروم تجسيد فلسفة ما للترابط، والاستعاضة من خلالها، عن منطق الحبكة والتتابع، بغية إضفاء منطق ما للترابط بين الفصول من جهة أولى، و”(بين الأحداث في ما بينها، أو بين الأحداث والشخصيات، أو بين الشخصيات في ما بينها، أو بين الشخصيات والزمان والمكان)” من جهة ثانية. وفي ضوء ذلك يستهل السارد نص “النظر في وجهكم العزيز” بهذه الصورة الوصفية:
“السماء بعيد الفجر، رحابة زرقاء مغسولة، الشمس لم تشرق بعد، الصوت طفل يحبو والكون مشروع حلو يغمز بكل الإمكانات، وعلى سطح الدار كان يمشي، السطح أزرق طويل، والقط أسود أغر تياه يرى تحته النهر والأشجار والحقول تبايعه فيومئ لها بنظرته البراقة ويتابع خطوه الثابت التياه غير مبال”.
والحالة هذه، فبصفتها مقطعا استهلاليا يمكن للقارئ أن يلاحظ أن هذه الجملة الطويلة نسبيا، وهي نموذج لجمل النص الطويلة، ستشير إلى سارد بضمير الغائب يتوسل، وفق ما يبدو، بعدد من الحواس : النظر، السمع، الشم، النطق، الإيماءة، أي أن هناك ثمة ” تراسلات بين معطيات الحواس، وامتزاج الألوان والأصوات والروائح […] فهي موسيقى بوليفونية متعددة الأصوات، عميقة النغمات، وليست عزفا محدودا على آلة وحيدة الوتر”( ). إنها جمل ستتيح لهذه التراسلات الحسية، التي تشبه الشعر الرمزي، التعبير عن حس السارد الشعري، وستشتغل قناة وظيفية لرؤية شاملة تعتمد المزاوجة بين العالم الخارجي والعالم الداخلي للسارد، وخلافا للأحاسيس المركبة التي تنتشر أفقيا وتغوص عموديا في آن واحد، أي استثمار أسلوب القط في النظر إلى المكان والتصرف في لحظات الزمن.
لذلك، فإن الإيماءة ومتابعة الخطو المسبوقين بالمشي جميعها حركات سترتبط بموقف ما، بمعنى إن القط الذي يتميز بحدة النظر ليلا سيتسلل بعيد بزوغ الفجر من سطح البيت نحو الفضاء الطلق، وسيتطلع إلى نور الأفق بنظرة وحركة واثقتين نحو الحرية. لكن عملية اختزال مضمون نص “النظر في وجهكم العزيز” ستبدو عملية مستعصية لا تخلو من افتراضات للقراءة، سيفصح خلالها التعبير الرمزي عن حضور الشعري وهو يجاور الواقعي في رصد حركة تسلل القط وانفلات اللحظة الزمنية دون رجعة، لذلك ستتبدى أمام القارئ أهمية الحوار في الفصل الثاني في الكشف من خلال حوارات بين أم وأب في مرحلة أولى، ثم وجهات نظر لشرطي وأستاذ وخطيبة ورفيق أول ورفيق ثاني، عن هذا الحدث وأبعاده في مرحلة ثانية.
“الأب : أنت امرأة عاقر، هذه هي المسألة، لماذا تحيطين نفسك بهذه القطط السوداء المرمدة وتطعمينها من قوتك ؟
الأم : من يطعهما إذن ؟ ومن يدفئها من البرد ؟ البكماء المسكينة.
الأب : غدا تكبر وتهاجر هي الأخرى، تصبح برية متوحشة إذا كلمتها خمشتك.
الأم : كل الناس تهاجر… لم يهاجر هو وحده، فلماذا تحقد عليه كل هذا الحقد ؟ أليس ابنك ؟ […].
الأب : كفى كفى … لماذا تبكين ؟ هل يرده بكاؤك؟ عودي إلى قططك وأطعميها”.
وبما أن هذا المقطع الحواري يشير إلى حالة أب وأم مكلومين من هجرة ابنهما وانقطاع أخباره عنهما، ودون أن يكلف نفسه عناء السؤال عن حالهما، فلا غرو أن يلاحظ القارئ رغبة السارد في اتخاذ العلاقات القائمة بين أب وأم وابنهما إطارا سرديا للكشف عن حضور الشعري في نص ” النظر في وجهكم العزيز” وأهميته السردية في إدراج قصة مدسوسة تشتغل بالتوازي مع الحدث الرئيس، وعبر توظيف تقنية الإيهام بهيمنة السرد الواقعي. وتبعا لذلك، سيتيح للسارد خيارات سردية في “أن يروي القصة من وجهة واحد أو أكثر من شخصياتها، وأن يعرض هذه القصة من خلال وجهة نظر هذه الشخصيات أيضا”( ). .
“الشرطي : شعره غابة كبيرة يرعى فيها القمل الأسود، ونظرته عكرة، لم يكن من الممكن تركه يزرع جسمه الوسخ في الشوارع النظيفة.
الأستاذ : القط حيوان أليف، فكيف تقولون إنه متوحش، أعرف أنه يتوحش أحيانا ويعيش في الغابة، ولكنه حينئذ لا يعود قطا، يصبح حيوانا آخر.
الخطيبة : “… وبعد … لقد توصلت إلى أننا من طينتين مختلفتين، لم تتنازل قط ولا مرة واحدة كما أذكر، فتعمل برأيي […] كلا أيها الصديق، أنت عدو الأعشاش الهادئة، وأنا أبحث عن عش هادئ، وفقك الله وهداك… والوداع”.
الرفيق I: تنطع سخيف، هروب أحمق إلى الأمام، مغامر لا يوثق به.
الرفيق II : تردد مريب، هروب أحمق إلى الوراء… محافظ لا يعول عليه”.
أن يكون القط حيوانا أليفا، فهذا كلام مألوف، وأن يكون عدوا للأعشاش الهادئة، فليس بالأمر الغريب، لكن الجمع في سياق واحد بين الهروب الأحمق إلى الأمام والهروب الأحمق إلى الوراء، هو جمع أضداد متنافرة ومتنافية، وكل طرف يعارض الآخر ويحاول شحن سياق النص، بمزيد من التوتر. لذلك، يبدو أن تتبع حركة الألفاظ (قط – حيوان – لم تتنازل قط – كلا أيها الصديق)، ستترك لدينا الانطباع بصعوبة “التسليم بأن هذا البطل حيوان حقيقي، [ومن ثم سـ] نعطي لكلمة [القط/الهر] معنى مجازيا يدل على شخصية إنسانية” .
وإذا كان التوتر الذي يقيمه السارد، في سياقنا هذا، بين وجهات نظر الشخصيات القصصية المتنوعة والمختلفة (الشرطي، الأستاذ، الخطيبة، الأب، الأم، الرفيق I والرفيق II)، فيبدو أنه سيشكل عنصرا شعريا هاما في تأثيل رؤية النص، وستغدو الدلالة بدورها توترا معادلا لعلاقات الحوار القائمة بين الإنسان ومحيطه ووجوده معا. ولعل ذلك يتضح من خلال توظيفه موضوعات الإنسان في علاقاته بالطفولة والطبيعة والمرأة والحب والمدن والزمن والانفلات والاغتراب والوفاء والغدر والحرية، وتضافرها في مساعدة القارئ على افتراض “الدوافع الحقيقية وراء الحدث القصصي”( )، حدث الهروب، وسيكسب رؤية النص دلالاتها العميقة، حيث تحاول الانطلاق بداية من لقطة فما تلبث أن تحفر وراءها عن سلسلة المعاني المتوارية خلفها.
وفي ضوء ما سبق، سيلاحظ القارئ أن استثمار السارد عنصر الحوار تقنية سردية ودرامية، قد ألجأه إلى الاستعانة بالشعري وتوظيفه في خلق مزيج بين السردي والشعري/الغنائي، بمعنى أن هذا “المزج بين آليات السرد (كالوصف والحوار والتسميات والتزمين وتعيين الأمكنة …)، وبين الغنائية في وضوح معانيها ودلالاتها والإكثار من ضمير المتكلم [رغم تولي ضمير الغائب زمام السرد] ومباشرة الموضوع ومعاودة معالجته، سيترك تجلياته ومظاهره( ) في “الفصل الثالث”، حيث نسمع نداء السارد:
“يا ألـوان الخوف وألـوان الحب وألـوان الحقـد
يا أصوات الخوف وأصوات الحب وأصوات الحقد
في أيـة بوتقـة أضعـك
وبأي مقاديـرْ
حتى أستقطر منك الماءين الأبيض والأسود
لو أعرف كنت أنا الإكسير”( ).
إن هذا المقطع الشعري الذي يغطي مساحة الفصل الثالث المعنون بـ “وجهكم” إذ سيتطلع إلى الإمساك بإكسير الحياة “رمز الخلود”، خارج الحوار والوصف والشخصيات والأحداث وغيرها من المكونات القصصية التي تصنع الحكي وتنسق العلاقات من خلال تشخيص موضوعاتها، فضلا عن قيامها بتوجيه التخييل في الزمان والفضاء معا، سيبدو، وكأنه بقدر ما يتضمن من نداءات وتساؤلات إنكارية مفعمة بأحاسيس وجدانية عميقة، بقدر ما سيشتغل “عنصرا تكوينيا” أساسيا في بناء النص، وفي كسر رتابة السرد، حيث ستغيب فيه عناصر سردية هامة، وسيمحى إيقاع الزمن، لتحضر هذه العبارات الشعرية بديلا للحركة السردية، عبر جمعها بين الأضداد، القائمة على “تداخل الحواس وتجاذب معطياتها على النمط السوريالي، فما هو بصري يقود إلى المسموع، وانعدام الحركة تتولد منه أنصع الألوان”، بل أليس ” اللون هو البداية وهو النهاية، هو الأمس وهو الغد”المرعب، ربما، لكنه المجهول الذي لم يعرف بعد.
بيد أن إحساس القارئ بهذه العاطفة الغنائية الجياشة، لن يلهيه عن التساؤل: “من أين يرد الملفوظ السردي ؟ من السارد، من الشخصية (بضمير المتكلم أو ضمير الغائب حيث حضور الثاني مفضوح) أم مباشرة من المؤلف ؟ “( ) الذي يحرك الضمائر والتلفظات فيقف في مقابلة القارئ للتدليل على رغبته- أي المؤلف- مشاركة القارئ له في ألمه ولذته معا. ولأجل ذلك، نلاحظه– أي السارد- يوظف “”أنا” البطل الغنائي، أو “أنا” السارد الوهمي، [فـ] هناك “أنت” و “أنتم” المخاطب الذي تفترضه المونولوجات الدرامية والتضرعات والرسائل. إنهيمنة الوظيفة الشعرية/الجمالية لا تطمس الإحالة، وإنما تجعلها غامضة – ويناسب الرسالة ذات المعنى المزدوج مرسل مزدوج ومتلق مزدوج وأيضا إحالة مزدوجة”.
ولما كان من الغني عن البيان القول إن القائم بأعمال السرد في نص “النظر في وجهكم العزيز” هو “السارد”، فإن “جيرار جنيت” يلح على الدارسبضرورة “التفريق بين المنظور والصوت في الدراسة النقدية. فقد لا تكون العينان اللتان نرى بهما، والصوت الذي نسمعه للشخص نفسه في السرد بالضرورة”( ). ومن ثم، سيختار القاص أحمد بوزفور “ما يسميه جنيت بالبؤرة الداخلية الثابتة، أي أن كل الأفكار تمر بالمصفى الذهني”( ) للسارد نفسه، وتصلنا عبر لغة تشبه إلى حد كبير لغة الشخصيات “نحوا وأداء (برغم أن هذه، من الناحية الفنية، قضية صوت أكثر مما هي قضية منظور، أو بالأحرى، إن قضيتها” قضية منظور، أما لغته” ، أي الراوي، فقضية صوت)”( ). الأمر الذي سيولد في القارئ رغبة جامحة في “تخصيب هذا الإزدواج”( )، عبر كتابة قصصية “تستعير الصوت الشعري وتشوش العلاقة المحسوبة بين الدال والمدلول”( )، كما تستضيف أشكال التوازي التعبيري التي تتخلل نسيج السرد وتستند إلى أهمية الحدث واحتمالاته. ومن ثم، فهو الأمر الذي سيجعل كذلك من جهة أولى، ” العنصر الغنائي المندرج في السياق الدرامي يكتسب بدوره فعالية درامية مثل النجوى في قلب الموقف المأساوي” ( )، وسيتيح، من جهة ثانية، للتناوح القائم بين الإيقاعات اللغوية توليد كثافة دلالية، سيطرحها الفصل الرابع المعنون بـ “العزيز”، والذي سيروم السارد من خلاله أن يجمع – كما فعل في الفصل الأول: “النظر””بين المنظورين الزمني والمكاني من خلال صورة ستوحي بعقم هذا البحث وبالعودة إلى لحظة البداية”.
هكذا، سيفاجئنا السارد بانعطافه نحو حركة الزمن التي تم توقيفها في الفصلين الثاني والثالث، ومعه، طبعا، قرينه المكان الذي يثبت أن محتوى الزمن وحقيقته تنعكسان على سطحه. وليعيدنا إلى حركة السرد التي ضمنها تقنيات شعرية ستعرض للحظة زمنية جد مكثفة، لحظة الانقلاب المفاجئ لحركة الزمن المتراوحة بين انبلاج الفجر وطلوع الشمس، داخل كون تخييلي يقوم على “بناء الوحدات السردية بطريقة شعرية تتجاوز مستوى الحكاية ببنيتها السببية والمنطقية لتقيم بينها تفاعلا ديناميكيا عبر بناء المنظور بحدقة الشاعر لا القصاص، وهي حدقة سريعة في تحديد البؤرة”.
لهذا، سيلاحظ القارئ أن انتقال السارد بضمير الغائب من استعمال الفعل الماضي في الجملة الافتتاحية للفصل الرابع والأخير، إلى استعمال الفعل المضارع في الجملة التي تعقبها، فاستخدام فعل الأمر، بحمولته المستقبلية، في الجملة الأخيرة، يهدف إلى إبراز العلاقة بين هذه الأزمنة الثلاثة. غير أن الأخيرة وإن كانت تشير إلى خط الزمن وتشابه الأزمنة، على الأقل في صلة الفصل الأول بالرابع، إلا أن محاولة رصدها، في سياقنا هذا، تشبه مطاردة شيء ينفلت منا باستمرار. يقول السارد:
“الأم تبحث عن قطها الأسود الأغر وتناديه. لا جدوى أيتها الأم الصغيرة المسكينة. لا جدوى، القط الأسود الأغر هاجر وتوحش، عودي إلى قططك الصغيرة الأخرى وأطعميها وادفئيها، فإذا أذن الفجر فدعيها تتسلل إلى السطح الأزرق لتشيم البروق المقبلة”.
إن صلة هذه الصورة المتراصة من مفردات وعبارات وجمل متكررة في النص (القط الأسود الأغر – لا جدوى- عودي إلى قططك… وأطعميها) “بصورة الهر [التي] تحيل على فكرة “الزمان” الذي يكر على ما أصلح فيفسده” ( )، ستقوم على توجيه “انتباه القارئ إلى ما وراء المعنى”( ).
وفي ضوء ذلك، ستتجلى أمامنا أهمية حضور الشعري في نص “النظر في وجهكم العزيز” من خلال توظيف السارد – بضمير الغائب – عنصر التكرار وتصييره تكرارات تتراوح بين اللازمات والبؤرة السردية التي ستلج بالقارئ عالم سرد مفخخ خاص تتم شعرنته وتنظيمه وفق صور قصصية يغذيها” سيل من الشعور المتداعي على الشخصية في لحظة من الزمن معتمدة على التشخيص والتجسيد وتراسل مدركات الحواس”( )، بغية إبراز أهمية التماسك النفسي الذي تعاقد عليه المؤلف والقارئ من جهة وعناصر الترابط النصي بين فقرات النص ووقائعها من جهة ثانية.
عمى الألوان في نص «النظر في وجهكم العزيز »للمبدع أحمد بوزفور
الكاتب : الباحث عبد المجيد صديقي
بتاريخ : 08/09/2017