قصة : الليل لم ينته بعد

 

وخلت المدينة إلا من الكلاب، وشيء ما يحثك على المسير. لم تكن تجري رغم شعورك أن شيئا ما هناك قد انقضى ولم تصدقه الكلاب. وفي الأفق البعيد كأن هناك حريقا. لابد أن هناك حريقا.
وكما في الأحلام أحيانا لست أنت الذي تسير، العمارات والأرصفة والأشجار تطوى لك. وصوت أغنية حزينة عن فراق يعلو شيئا فشيئا.
الكلاب في كل مكان، ليس فقط حول صناديق القمامة؛ بل وحول الأشجار؛ وفي الدروب المقفلة؛ وفي أدراج المحكمة؛ وأبواب مكاتب المحامين والأطباء والمهندسين؛ حتى بأبواب المدارس والكليات.
كلاب كبيرة جدا يمكن أن تهاجم فيلا؛ وأخرى صغيرة جدا يمكن أن تتسلل من شقوق الأبواب، وبين هذه وأخرى أصناف رومية وبلدية، بعضه سمين جدا يكاد ينفجر من الشحم  وبعضه هزيل جلد فوق عظم. لكنها كلها خبيثة تتدلى ألسنتها وتتوثب لتنال أي شيء بأي وسيلة كلبية.
هذه الجماهير من الكلاب لا تثير فيك شيئا لأن أمرا ما يحثك على المسير، يجب أن تستمر في السير يقول لك صوت باطني لا تدري من أين يأتي.
المسير يستهويني حتى وأنا طفل، المسير علمته لي أمي، وكذلك عدم الالتفات إلى الوراء. لابد أن يستمر المسير والدروب قد خلت من الآدميين واستوطنها الكلاب. اللحن القديم يزداد قربا والأشباح هنا وهناك تسبح في الفضاء. في كل ليل تخرج الأشباح تنتقم من الخونة ومجرمي الغدر ولصوص الأمانات.
أنت في هذه المدينة اللعينة منذ بداية الليل الذي طال أياما وربما سنوات، في هذا الليل لم يغب المتغيبون من تلقاء أنفسهم، بل غيبتهم وأرسلتهم ليستلذوا بهلوساتهم ويبعدون عنك الأحقاد والمنافسات الغبية والحسد. لكنهم ما يلبثوا يعودون على هيئات رؤوس الشياطين.
رؤوس الشياطين ترقص في كل مكان، والمصابيح الحزينة تخرج ألسنتها الصفراء حينا بعد حين متناوبة على السخرية هي والأشجار المريضة. لابد أن أصل إلى العمارة قبل الاحتراق الشامل.
وسرت وأنا أشعر أن شيئا ما قد انقضى تحرس مؤخرته الكلاب والأشباح، وأن شيئا مثل الحريق لم أتبينه. أمشي الآن على رصيف مرتفع بجنبه الأيسر يمتد طريق مثل ثعبان، وعلى اليمين مجرى الأمطار، لا بد أن سماء هذه المدينة، التي تبدو بئيسة، جد ممطرة وإلا لماذا حفروا هذا المجرى بهذا العمق. «هي حفر للدفن وليست مجاري مياه» أسر لي أحد أولئك الذين ينبشون في القمامة كل مساء.
وصلت إلى الطرف القصي من المدينة، هناك وجدت زرافات أخرى من بني كلبون واقفة وتمشي على رجلين، لكنها هذه المرة عارية تماما سوى من ربطات عنق وأحذية ملمعة وجوارب بالنسبة للذكور، وبعض القماش المطرز وسط الجسم للإناث. لعنت الشيطان في نفسي وصممت على الوصول إلى العمارة المحترقة.
ثم بدا لي قمر كبير يكاد يلمس الأرض، ربما هو قمر الساحرات ينزلنه بإعداد طعام ملوث ببقايا عظام الموتى، ينزلنه ليعم الظلام ويختلط كل شيء بكل شيء وينفذن إلى عمق العلاقات الطيبة ويمزقنها.
وفجأة سمعت زغاريد وانتشيت وأسرعت الخطى لأطل على جرف سحيق اصطف فيه آدميون هذه المرة، يرقصون حول عروس وعريس، يرقصون وأمامهم العمارة تحترق.
ودنوت لأتبين الأمر: صحيح هم آدميون لكن بذيول تخرج من السراويل.


الكاتب : بن محمد قسطاني

  

بتاريخ : 08/09/2017