بعد سقوط نظام القذافي، ترك المجتمع الدولي الليبيين في دوامة الصراع وتُركت الساحة لدول تصفّي حساباتها على الأرض الليبية
بعد مرور ست سنوات على انهيار نظام القذافي في ليبيا، وبعد موجة التطاحنات و الصراعات المناطقية والقبلية وفي ظل تحلل الدولة المركزية و أجهزتها وانتشار السلاح وسيطرة المليشيات المسلحة على المشهد الليبي، علاوة على تحول البلد الى حاضنة للإرهاب خاصة بعد تفكك وبداية انهيار تنظيم الدولة الاسلامية بالعراق وسوريا وما يشكله هذا من تهديد لدول الجوار خاصة، أصبحت ليبيا في مفترق طرق خطير يهدد بنسف كل جهود التسوية السياسية التي تقدمت بها الاطراف الدولية أو الوطنية. وما يزيد من صعوبة الوضع النزاعات والانقسامات بين الاطراف الفاعلة اليوم في الساحة الليبية والتيارات السياسية، سواء منها الداخلة والفاعلة في مربع القرار السياسي أو التي اتخذت مسافة مما يجري بالرفض أو بالصمت، وهو ما يزيد من غموض ملامح المستقبل السياسي للبلد .
حول الوضع في ليبيا وأسباب الأزمة وعناصر الحل، والصراع الدائر اليوم وامتداداته الإقليمية، وباعتباره أحد الفاعلين الاساسيين خلال ثورة 17 فبراير وبعدها، التقينا على هامش موسم أصيلة الثقافي 39 ، رئيس الوزراء الليبي الأسبق ورئيس تحالف القوى الوطنية، الدكتور محمود جبريل الذي كان لنا معه الحوار التالي الذي لم ننشره حينها لأسباب خاصة.
قلتم إن الصراع في ليبيا ليس إيديولوجيا بقدر ماهو صراع على المال والمصالح، وأن الحل اقتصادي بالدرجة الاولى هل من توضيح؟
من المشاكل الرئيسية في المشهد الليبي أن الصراع على سلطة لم تخلق بعد وأن كثيرا من الأطراف التي وقعت الاتفاق السياسي ليس لها تمثيل حقيقي على الأرض، ولم يتم إشراك القوى الفاعلة في الاتفاق بشكل مباشر وتم تجاهلها ولم ينظر لتواجدها وقوتها وتأثيرها النابع عن مدى مصلحتها ومخاوفها ودورها في تطبيق هذا الاتفاق ، لأن لهذه المجموعات قد حققت مصالح كثيرة طول مدة وجودها منها اجتماعية والتي حققت لها مكانة اجتماعية، ومنها اقتصادية وهي الأهم بحيث راكمت هذه المجموعات المسلحة أموالا وثروات من وجودها ونفوذها ، وبالتالي سوف ترى أي تغيير بمثابة نهاية لهذه الامتيازات .
بالإضافة الى ذلك وفي ظل غياب الدولة، أصبح الحديث عن المحاصصة والتي هي في ظاهرها جهوي وقبلي ومناطقي، إلا أن حقيقته هي صراع للحصول على نصيب من الثروة والموارد والميزانيات عبر الطرق والآليات التي تخضع للمصالح الضيقة، جهوية كانت أم قبلية أو مناطقية أو حتى شخصية تحت غطاء العدالة في توزيع الثروة مع غياب تام للأجهزة الأمنية والرقابة والقضائية. ومع تفشي الفساد في المؤسسات يصبح الأمر أشبه بالغنيمة ، وكرس هذا منهج الحوار الذي تم اتباعه في الصخيرات وهو ( تقاسم السلطة ) الذي تحول لمدخل للحصول على حصة من (الكعكة) عوضاً عن شراكة حقيقية في وضع حلول وطنية والتوافق على برنامج وطني يضع أسس بناء الدولة ويزيح المعوقات التي تحول نهوضها وتحقق إدارة جيدة لموارد الدولة، وتحقق العدالة في التوزيع ويمهد لمرحلة مستقرة أمنيا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا.
وتصورنا كتحالف أن يتم الاتفاق على الحقوق الاقتصادية على صعيد الفرد ـ والعائلة ـ والمنطقة ـ الأجيال القادمة ـ حقوق الحكومة المركزية منصوص عليها في الدستور على أن تكون هذه الحقوق حوافز للانخراط في أنشطة اقتصادية تدعم الاقتصاد الوطني وحتى لا تكون مرسخة لثقافة الريع .
تعتبرون ما حدث ليس بثورة بقدر ما هو انفجار شعبي تم استغلاله من قوى الاسلام السياسي ، ما موقع النخب مما جرى ومما يحدث الآن؟
الذي حصل هو انتفاضات شعبية بامتياز ولعب الشباب الدور الأبرز فيها ، كما أنها جاءت كرد فعل على عما يحدث بداخل هذه الدول من فشل الدولة القومية في قضية التنمية مابعد موجة الاستقلال وإلى حينه ، أنتج هذا ارتفاع معدلات البطالة ، وخلل في التعليم والصحة وغيرها من القضايا ، وواكب هذا الفشل تغير كوني ومعرفي « ثورة المعلومات والاتصالات «، بهذا أصبح الفرد مُمَكناً أكثر ومتواصلاً أكثر مع العالم وبشكل غير تقليدي فلم يصبح للحدود معنى ، وأصبحت السياسة تمارس في غير إطاراتها المعروفة ، فأصبحت هناك ثقافة جديدة تتبلور ونسق قيمي جديد يتشكل ، والأنظمة لم تدرك أو لم تستوعب هذا التغير الجذري والرهيب ، ولم تستطع مجاراة ما يحدث واكتفت بتصوير هذه التغيرات على أنها مؤامرة وفق التفكير التقليدي والتعاطي الأمني من الاحداث السياسية.
أما النخب فهي أيضا لم تدرك هذا التغير المعرفي والنسق الكوني بشكل صحيح ، فهي كانت متخلفة عن الشارع بمراحل واكتفت عند اندلاع الأحداث بالمشاركة بشعارات ولم تشارك في وضع تصور (لمشروع نهضوي) يمثل الدليل لحركة الشباب والشارع ، فتحولت حركة الشارع إلى حركة غير منظمة وفوضوية ، واكتفت هذه النخب بالنقد ظناً منها أنها تؤدي دورها وانقسمت إلى عدة أقسام :
مجموعة عاجزة عن فعل أي شيء ،
ومجموعة حاولت أن تفهم ما يحدث،
ومجموعة لجأت لنظرية المؤامرة أيضاً
وهذا فتح الباب على مصراعيه لتغلغل مشاريع أخرى قفزت في المشهد.
كيف تقيمون التدخل الدولي في ليبيا قبل وبعد 17 فبراير : تدخل الناتو، قطر، المبادرة التونسية، اتفاق الصخيرات؟
ما بعد سقوط النظام ترك المجتمع الدولي الليبيين في دوامة الصراع دون مساعدته على وضع أسس بناء الدولة ، حيث كانت هناك أجندات لبعض الدول في دعم تيارات سياسية معينة للوصول للحكم ، وتركت الساحة لدول تصفي حساباتها على الأرض الليبية وأصبح « المجتمع الدولي» يقف موقف المتفرج ، ورغم الادعاءات اليوم بأن ليبيا أصبحت تهدد الأمن الإقليمي والدولي ورغم أن المجتمع الدولي كان يشاهد شحنات السلاح تأتي من دول معروفة ويشاهد تدفق الارهابيين منذ 2011 ولم يحرك ساكناَ ، بالرغم من أن بعثة الأمم المتحدة المكلفة برصد خرق حظر الاسلحة ذكرت في جلسة مغلقة لمجلس الامن رصدها في 2013 أكثر من 21 خرقا من دولة واحدة ولم تصدر أي ادانة او أي أجراء بالخصوص .
دعوتم مؤخراً إلى مفاوضات بين الأطراف الليبية برعاية أمريكية. ألا يؤثر هذا على استقلال القرار الوطني الذي أنتم من أشد المدافعين عنه كثابت؟
بالنسبة لفكرة جمع الأطراف الليبية الفاعلة والمعنية من قبل الولايات المتحدة ، تتمثل الفكرة في أن تقوم الولايات المتحدة من خلال فكرة شبيهة بكامب ديفيد حيث تقوم الولايات المتحدة بدور الميسر الراعي من خلال توفير المكان والمناخ والزمن الكفيل لنجاح المهمة ليأخذ الليبيون فرصة كافية في الحوار المباشر والاستماع لبعضهم، والمشاركة الحقيقية في صياغة اتفاق ينهي الأزمة في ليبيا بعيدا عن تدخلات الدول ذات المصالح أو الأجندات في ليبيا.
هذه الطريقة من الحوار لم تحدث بشكل واضح في الصخيرات لأنهم لم يتحاوروا مع بعضهم البعض بالشكل الكافي، وكانوا يتحاورون مع بعضهم عن طريق وسطاء في أغلب الاحيان سواء من البعثة أو سفراء الدول، ولم يشاركوا في صياغة الاتفاق والحلول جميعا بل كانت البعثة تطرح الأفكار على الأطراف وتأخذ الملاحظات عليها مما زاد في عدم الثقة بين الاطراف وزاد من حجم تدخل الدول في تفاصيل الحل الليبي حتى وصل الأمر الى الأسماء ، ويتضح هذا مما وصلت إليه الامور بعد تنفيذ الاتفاق وتشكيل حكومة الوفاق وما تلاههما من تعقيد وانسداد سياسي.
عليه، فدعوة أمريكا لا تعني تدخلها في الشأن الليبي فلا أحد يستطيع التدخل في شؤونك إلا اذا سمحت له أنت بذلك. وبالتالي ففكرة شبيهة بكامب ديفيد ربما تعطي فرصة أكبر في توافق الليبيين توافقا حقيقيا وفاعلا، ودون تدخل سافر.
ملف السلاح كان من بين مؤاخذاتكم علي الاطراف الليبية والاطراف الدولية والاقليمية المتدخلة في ليبيا بما يحمله من تشعبات وتأثير على السلطة السياسية بالداخل وعلى دور الجوار . كيف يمكن السيطرة والتحكم في هذا المعطى الذي يعيق أي عملية لاستتباب الأمن؟
طرح التحالف مؤخرا مبادرة في الحمامات بتونس تمثل مشروعا جديدا وتطويرا لبرنامج التحالف الانتخابي في 2012 ، والذي فاز التحالف بالانتخابات في ذلك الوقت على أساسه . هذا التحديث اليوم يتضمن سبعة ملفات رئيسية معنية بركائز بناء الدولة وخلق السلطة، وهو محاولة لتجنب المعوقات التي تحول قيام هذه الدولة ومؤسساتها، وأهم هذه الملفات هو ملف السلاح ، انتشاره وجمعه ـ نطرح فيه حلولا وبدائل لمشكلة المجموعات المسلحة ـ من خلال إشراك هذه المجموعات في الحوار باعتبارها قوة فاعلة على الارض، وباعتبارها جزءا من الحل وليست هي المشكلة الوحيدة، ومشاركتهم في صوغ الاتفاق ثم طرح الآليات لتنفيذ هذه الاتفاقات والخطط وتوفير البدائل الاقتصادية والاجتماعية التي تضمن دمجهم في الحياة السياسية والاقتصادية وهذا لم يتناوله اتفاق الصخيرات ، ولدينا برنامج مفصل موجود على موقعنا الالكتروني وصفحاتنا الرسمية.
هل من أفق لعودتكم إلى واجهة العمل السياسي باعتباركم من أهم الكوادر الليبية الفاعلة ؟
بالنسبة للتحالف هو كيان سياسي كان ولايزال ضمن الكيانات والاحزاب السياسية في الساحة. ومنذ تأسيسه يقوم بدوره ويسعى لتحقيق ما تأسس من أجله وهو قيام دولة واحدة مدنية ديمقراطية ، دولة القانون والمؤسسات مبنية على التداول السلمي على السلطة وتضمن الحقوق والحريات والعدالة ، والتحالف موجود في كل الاستحقاقات وإن كان غير مشارك في الحكومات الحالية، إلا أننا عكفنا طيلة الفترة الماضية على إعادة هيكلة وتشكيل التحالف من جديد وضخ دماء جديدة وشابة، وتجهيز كوادر للمستقبل وتوج هذا الجهد مؤخرا بمؤتمرنا العام الأخير في 1ـ2 غشت الماضي، والذي أنتج إدارة جديدة وشابة ورؤية ومشروعا جديدين للتحالف ، كما أننا شاركنا في كل جولات الحوار الذي ترعاه الامم المتحدة، وأدلينا بملاحظاتنا عليه ومازلنا ندعم أي جهد جاد لإخراج ليبيا من هذه الأزمة.
مغاربيا وفي ظل الوضعية المتشرذمة والمتوترة هل مازال الحديث عن التكتلات الاقليمية ومطالب الاندماج المغاربي ممكنا وقابلا للتحقق؟
كل التجارب العربية المعاصرة نحو الوحدة كانت تجارب محكومة بعامل السياسة والأمن، ولم يلعب الاقتصاد فيها دورا محورياً ، والتجارب المستقبلية نحو الاتحاد او الوحدة يجب أن يحكمها الاقتصاد بالدرجة الاولي مع إعطاء أدوار أكبر للقطاع الخاص العربي ومنظمات المجتمع المدني بأن تكون طرفاً في أي محاولات للتوحيد أو الاتحاد، ذلك لأن خلق مصلحة مشتركة يخلق خطابا مشتركاً عند التحدث في أمور السياسة، كما أنه يخفف من تأثير الاختلافات أو الخلافات السياسية والمخاوف الامنية على المصلحة المشتركة.
هكذا بدأ الاتحاد الاوربي على سبيل المثال، أما البدايات الفوقية التي عاصرناها منذ منتصف القرن الماضي وحتى الآن، فلم تؤد إلا لمزيد من الفرقة واتساع هوة عدم الثقة بين الاشقاء، وزاد اندماج اقتصاداتنا العربية مع أوروبا رأسياً ،وظلت التجارة البينية العربية تراوح بحوالي 9% على مدى أكثر من أربعة عقود.