تغدو الكتابة الشعرية تعبيرا عن لحظة تأمّلية في الذات والكون ، بحثا عن المفارق والمغاير في سيرورة وجودية من سماتها التحوّل والتغيّر، مما يحوّل هذه الذات إلى مستنقع مترع بالرغبة في التطهّر والاغتسال بغية الشعور بنقاء الروح وصفاء الرؤية. ونعتقد أن هذا الأمر يتحقق في تجربة الشاعر حسن نجمي الشاعر الذي يحفر مجراه الشعري بتؤدة وعمق في الإدراك الواعي بقيمة الإبداع والأحقية في القول الشعري النابع من التجربة في الحياة والكتابة ، ويؤسس لخطاب شعري خلّاق انطلاقا من الاحتفاء بالذات في الحياة وبالحياة ؛ ومن خلال ، الإصغاء لنبض العالم. هكذا تتحول الكتابة الشعرية إلى فضاء ممتد في الذات والمتخيّل تجرّب فيه الكينونة تمرّدها ضد كل أشكال التحنيط في نصية شعرية ترتضي الإقامة في التوابيت ، لتخلق شكلها الذي يستطيع احتضان هذه الرجّات العميقة التي تصيب الذات والعالم، وفي هذا انتصار للحياة بتجلياتها المختلفة.
إن نثرية القصيدة نابعة من نثرية وتشظي الحياة، وبالتالي هي دعوة أكيدة للاستحمام في بحيرة الشعر الناضح بنشيد الذات وكورال الكون، فالذات تربط صلات شعرية مع ذوات شعرية لها بصمة إبداعية في تاريخ الإبداع الإنساني، وكينونات انتصرت للحب والجمال والإنسان. إن هذا الانتصار هو احتفاء بالحياة كأفق ممتد في الحلم الذي يعتبر ملح الخيال، وتجسيد لرغبة الذات في قول الكينونة بلغة شعرية تسترفد وجودها من ينابيع الحياة اليومي ، هي لغة متخيّل ذاتي وواقعي تعبّر عمّا يرعش الكوامن ويجعلها رهينة رحيل سرمدي في نتوءات الذات الداخلية التي تمارس عملية المحو والكتابة كتعبير عن مكابدة الشاعر في القول الشعري ، أي اليقين بأن اللغة تقف عاجزة عن إبراز وتصوير ما تمور به هذه الذات من ارتجاجات نفسية وروحية واجتماعية ، من هذا الإصرار في إخراج هذا المولود اللغوي الممزوج بمتخيل ذاتي وحياتي يسعى الشاعر حسن نجمي أن يميط اللثام عن هذه العوالم المنسية من الروح وتعريتها قولا شعريا تطهيريا ، ذلك أن فعل القول الشعري مرتبط ارتباطا جدليا مع الدواخل الدفينة والمكتنزة لأسرارها وغوامضها ، هكذا تعثر الذات عن وجودها منهَدّا مما يحتّم عليها البحث الدؤوب عن الكينونة في رمل الواقع كدليل عن هشاشة الكائن في مجابهة مصيره . فرحلة الذات هي رحلة في الذات لكشف عمق التشظي والتمزق ، وأيضا في الوقوف على حقيقة صحراء العالم ، هي صحراء موغلة في العطش والتيه والفزع الباطني الذي يسري في كوامن الروح ، وهذه الرحلة رحلة جماعية تؤكد المشترك بين الذوات والمتمثلة في الآخر الذي يخاطبه الشاعر بلغة القلب ، وعليه فالشاعر وهو يخوض غمار التجربة ينطلق من وعي بقيمة الآخر كمرآة تنعكس عليها صورة ذات الشاعر ، فالتساؤلات المطروحة من قبل الذات الساردة وهي تحكي سيرة الرحيل نابعة من هذا القلق الوجودي المساور للذات يقول:
( ثم فجأة انهددت . سألته: أين سنعثر على ظل في هذا الرمل الممتد ؟ لا مكان للتفكر والوحشة. لا مكان. كنا نمشي ومن حولنا نبات الشوك، والصخور صدئة. والأحراج. وقشور الملح والأودية ضحلة . والرمل عنيد في كثبانه)
إن أوج مأساة الذات تبدو جلية تعرّي عمق المعاناة الجحيمية وهي تجابه مصيرها أمام عناد الرمل كمدلول على التيه الإنساني في صحراء الوجود . بل هي رحلة سيزيفية لذات تشكّل وجودها عبْر اللغة، والبحث عن ذلك بالنّهل من رافد شعري له بصمته الإبداعية في الشعرية العربية ، ويتعلق الأمر بالمتنبي الشاعر الذي قوّض معمارية البلاغة الكلاسيكية ، بالخرق الجمالي والفني، ولعل هذا التعالق النصي يبرز أن الشاعر حسن نجمي يؤسس لمشروع خطاب شعري ينحت هويته من سلالة شعرية نفضت يدها من أساليب بلاغية لم تعد قادرة على احتضان التحوّلات التي مسّت جوهر الحياة العربية، وبهذا فهو يبتدع نصية تخترق القائم وتعانق أفق كتابة شعرية تستقي وجودها من الذات كحاضنة للحياة والرؤية والحلم والقلق بمستوياته الأنطولوجية ، فبحوارية جدالية ذات سمات شعرية تمكّن الشاعر من بسط حقيقة الذات، من خلال ، التماهي مع الآخر في رحلة وجودية في مسارب صحراء الحياة الممتدة بظلالها على ذاكرة شعرية ، ومن تم فهو يقرن محنة الذات بمحنة المتنبي الشاعر الذي مات وترك القصيدة تنزف غربة واغترابا لذات مكتوية بالليل والغبطة والحب والبيداء والسفر، الشيء الذي جعل الذات الشاعر تشعر بفراغ روحي وتحوّلت إلى صحراء يقول:
( أنا صحراء
أنا الآن صحراء في صحراء…)
فمعالم الموت والفناء بادية على المستوى العميق إذ نجد الذات تركن إلى عطشها متسائلة عن المصير الذي ينتظرها بعد أن غادر الآخر ووضع يده على باب القبر يقول:
(وضعت يدك على مزلاج الأرض … فجأة .
وانصرفت )
إن الملفوظ الشعري خطاب مفعم بهذه المحنة الوجودية للذات التي تم تسريد حياتها في علاقتها بالآخر في أساليب قولية متجددة تعتمد التصوير والتشكيل كمقومين من مقومات الكتابة الشعرية لحسن نجمي ، مما بصم تجربته الشعرية بدينامية جمالية تعتمد المجاز الموحي الحامل لمداليل مختلفة تمنح للتجربة بعدها الجمالي والفني..
إن الذات ، وهي في أوج الإحساس باللاجدوى ، تلوذ إلى التقية التعبيرية – إن صح التعبير – عبر الكتمان على الآلام والعذابات التي تعيشها هذه الذات في هاوية الواقع ، حيث الغرق والعطش والسراب وترميم الزمن بوساطة الإبداع الشعري كوسيلة لقول الكارثة الوجودية وتجسيدا لموقف الرفض ، إذ الذات تمضي إلى هذا الأفق المجهول المتّسم بالضياع والامّحاق في ضاحية الحياة يقول:
(كأنني أتقدّم لأندثر. كأن الله تخلّى عن هذه اليابسة. كأن ؟
أمضي فوق هذا المجهول. ولم أعد أقرأ ما أدوسه.
في الصحراء – وكأنني في ضاحية الحياة )
فالذات تمعن في الإيذاء كبرهان ساطع على هذه الفراغات المتوّجة رأس العالم ، لتكون شجرة الحيرة عنوان تجربة شعرية تصوغ وجودها الشعري بلغة مفعمة بالغور في متاهات أزمنة مريبة ، مما حتّم على الذات الإيمان بصداقة امرأة / حبيبة / أنثى متسلقا سلالم ضوءها ، وعبْرها يحقق وجوده بعد أن فقد الشعور بالأمكنة وبالجسد ، لتكون الأنثى الروح التي نفخت في رمل جسد الذات، لتحيا ثانية بتحقيق التماهي أو الوحدة يقول:
(اتّحدنا. لم يعد في لمعان المساء عيْرُ ظلّك
في دفء روحك انصهرتُ –
انكسر ظلّي. وأحببتك)
فالتوحد انصهار روحين متماهيين في المكان والزمان ، إنه توحّد حلولي رغبوي أي المزاوجة بين الجسد والروح كمقومين من مقومات الموجود في وجود تصير فيه الذات غريبة وفي عزلة لذلك تبقى القصيدة المنقذ الوحيد لها يقول:
(كم صرنا غرباء
نغضب فلا نصرخ
ونبكي فنخفي الدمع
آه .. بدون عزلة لا حاجة إلى سرير. بدون هذا النزيف لن تنهض قصيدة)
فصيرورة الذات منبعها هذا الألم الباطني النابض بالقلق والحيرة والشكوك في عالم العدم والخوف والرهاب من الصمت، والناتج عن عوامل وجودية فرضت على الذات الانكباب على ترميم الأعطاب ؛ وتجسير علاقتها بعوالم الدواخل ،حتى تنهض القصيدة من صلب الاحتراق الإبداعي ، الذي يشكّل عصب كتابة تجربة شعرية محتدها البحث عن كينونة هشّة
تواجه واقع الكارثة بمفهومها الفلسفي ،فتحوّل الذات تحوّل في الرؤية للذات والعالم ، مما جعل مخاطبة المرأة عملية تخصّب الكلمات ، وتطعِّم الخيال حتى تغدو اللغة الشعرية ذات مناخ جمالي فنّي، ومن تمَّ تتولَّد من رَحِمِها القصيدة المبتغاة ، يقول:
( أغطس روحي في جدولك. وأتبلّل
ويفيض ماؤك في كلماتي )
فالغطس والفيض دالّان لمدلول تطهيري تعويضي عن المرارات والأرق الوجودي ، الذي يسوّر الذات الشاعرة ، ولعلَّ دال «الماء « يؤكّد هذا المنحى التوليدي التخصيبي في اللغة والمتخيّل ، فتحقّق التجربة مائيتها الشعرية ، فيغدو الحنين بلسم الجراحات النازفة ببصاق القلب ، كتعبير عن السأم من الذات والوجود ، يقول:
( دوختي بلا كأس وأشرب مراراتي. وأنام يقظا. أكتب بلا شهود. ولكنّي أغنّي أرتجل من عظامي نايا. (آه. كم تعذّبني كلماتي ! ) . كلّما باشرت قصائدي. يجتاحني السعال. ومثلك يخرج من حنجرتي شيء. وأبصق قلبي )
إن الشاعر حسن نجمي يُبئّر تاريخ الحضور والغياب، منطلقا من كون التجربة في الوجود، هي تجربة الموجود الملتصق بانشغالات العالم، بالاحتفاء بعلامات إنسانية خلّدت وجودها بالشهادة، ولعلَّ صوْغ استشهاد عمر بن جلون الحامل لذاكرة النضال السياسي بالمغرب، بلغة شعرية تستقرئ الزمن وتوقظ ذاكرة التاريخ السياسي المغربي، بوساطة التركيز على ساعة الشهيد، دليل على أثره وتأثيره في الزمن الإنساني يقول:
( في الشارع
كان على ظهره. على الإسفلت : يلمع في العين
قميصه الدّاميفكّرت في شكل المدية التي عبثت بالقلب
وارتجلت وجوها للقتلة )
ففي سردية مشحونة بشعرية تصويرية ، تقدّم الذات لوحة تشكيلية مرسومة بأنامل المجازات والاستعارات الفيّاضة بمخيّال جماعي لشهيد توقّف الزمن بموته، لكنّ امتداده الأنطولوجي مازال ساري الأثر ، فالشهيد ممتدّ في الزمان وفي الذاكرة الجمعية ؛ وإن التركيز على ساعة الشهيد يدلّ على تجذّره في الزمن والمكان . هذه السردية المهيمنة على الخطاب الشعري في هذه التجربة ؛ لم تأت من فراغ ، وإنّما من تصوّر يثبت حقيقة العبور النوعي بين الأجناس الإبداعية ، وفي هذا إيذان بتكسير تابوت نقاء النوع الإبداعي ، وخلق نصية هجينة تتعايش فيها كافة التعبيرات القولية و الأسلوبية ، وتستطيع تحقيق الفاعلية الشعرية.
والاحتفاء بالشعر احتفاء بالحياة ،بكل تجلياتها الجمالية والفنية، وهو السّراج الذي يضيء العتمات الوجودية والذاتية ؛ ويداعب الحياة بألقها وتوهّجها الآسرَيْن ، و الشعر أيضا غناء الروح أمام هذا الخراب الضارب الجذور في ذاكرة التاريخ المعاصر، ومن تم فالشعر إدانة للموت وانتصار للحياة، وفي هذا السياق نعثر على الذات تكتب سيرة الحياة يقول :
(ها أنا أرقص كي تبتهج شمس الليل ، أتكشّف نقصي الخاصّ وخواء يدي ، وأسمع الكمنجات المزروعة في لحمي …)
فتيمة الحياة بادية الملامح في هذا الملفوظ النصّي، إذ الرقص وسيلة من وسائل لإشاعة الضوء والكشف عن النقصان والخواء الذي يعتور الذات ، وعليه تبقى الكتابة الشعرية هوية كينونة الذات.
وبشذرية شعرية تحاول الذات أن ترسم عوالم شعرية مقتضبة وذات إيحاءات دلالية مشوبة بتآويل مفتوحة على مطاردة الملتبس في الذات والعالم، ذلك أن الذات تبئّر الموت عبْر التلميح الشعري حين الشاعر:
( يد تمسح الأفق
ترتعش قليلا وتضغط على الزناد)
أليس في هذا رؤية شعرية تكتب تاريخ الموت والخراب ، وتناصر الليل وتطرد النهار من سماء وأرض الحياة ، لتقول الفراغ في تشكيلية نصية باذخة الألم يقول:
( هدّمك الفراغ
الفراغ الذي حوّلك
الفراغ الذي بمنأى عنك
الفراغ الذي فيك
كيف ستتعافى؟
كيف ستتماثل لياليك للشّفاء)
بأريحية شعرية يؤثث الفراغ عوالم تجربة الشاعر حسن نجمي ليس كتعبير عن استسلام وجودي ، ولكن كصيحة نابعة من قلق واحتراق لذات تلعن الموت وتعلن الحياة بلغة شعرية تحاول رفع الموت عن الحياة يقول:
( جميل هذا الفراغ الذي يصاحبني
يعلّمني النظر ويدَع يدي باردة
…………
ولأن الموت أضحى بلا معنى-
أحاول أن أرفع الأنقاض عن الحياة )
فديوان «المستحمّات تليها أبدية صغيرة « تجربة تندرج ضمن التجارب الشعرية التي أضفت ووسمت الشعرية العربية بسمات التجديد والخلق ، و إبداع نصية تقول الذات بإيقاعية شعرية تنصت لارتجاجات الوجود وتكتب سيرة الذات كتابة تبدِع عوالمها المتخيلة، بعيدا عن المحاكاتية التعبيرية التي تقتل حياة الإبداع والخلق.