يقحمنا الشاعر الزجال عادل سليماني في عالم أول أعماله الزجلية “ما غاديش تموت” منذ عتبة العنوان الذي يشي بالانتصار للحب والحياة سواء في صورته التشكيلية الفنية التي يغزو فيها اللون الأبيض السواد الحالك لصفحة الغلاف، أم في صياغته التركيبية التي تعلن عن نفي صريح للموت. وبهذه الصورة الجامعة بين الشكل والمضمون يكون العنوان في هذا الديوان حالة من حالات الابداع الخاصة عند عادل سليماني. ولا يقف هذه الانتصار عند حدود عتبة العنوان وإيحاءاته، بل يستمر وبصورة أوضح عبر باقي مكونات الديوان وأجزائه، بما في ذلك عتبة الاهداء الذي حرص فيه الشاعر على ألا يكون عتمة أو مكونا فارغا كما في كثير من الأعمال الابداعية، وإنما جعله مقلادا من مقاليد القراءة، ينفذ من خلاله القارئ إلى أغوار المتن الشعري. وقد توجه الشاعر بإهدائه “إلى أرض المحبة إلى أمينة الإدريسي والصديق سليماني إلى الواحات الأخرى…” ص: 3 فقد اختار الشاعر أسماء بعينها، ولولا الحب الذي يعمر قلبه اتجاهها لما تفضل بإهدائها هذا العمل الابداعي الذي يشكل في الغالب لدى المبدع فلذة من كبده. هذا بالإضافة إلى النصوص السبعة عشر المؤلفة للديوان، فكلها تنضح حبا وحياة نكاية في الموت بجميع أشكاله الذي يتربص بالإنسان. ولإبراز هذه التيمة واستجلائها سنتتبع نصوص الديوان من الناحية الدلالية ثم المعجمية
المستوى الدلالي المضموني:
تشكل تيمة الحب والحياة والاحتفاء بها بؤرة الديوان الزجلي “ما غاديش تموت” والخيط الناظم لنصوصه، فبالرغم من بعض الروح التشاؤمية المتسربة إلى النص الافتتاحي والمنطبعة على عنوانه “ما تسناونيش” فإنها لم تكن مثبطا على ارتياد الأفق وبلوغ الأفضل، كما أنها لم تكن تشاؤما من المستقبل بقدر ما هي تأسف على الحاضر المفتقر إلى أسباب تحقيق الذات، هذا الحاضر الذي ليس بالضرورة أن يمتد في الزمن، وإنما يكون خاصا بالذات الشاعرة وما يماثلها من ذوات وحالات ومقتصرا عليها، وهذا ما يحيل عليه تساؤل الشاعر في أولى قصائد الديوان: “علاش يا نحيلتي ملي نويت/ نكمل شهدتي/ طار/ العسل وبقى القريص؟/ طار حقي ف الجنة” ص: 4-5.
وفي قول الشاعر “طار العسل” و”طار حقي ف الجنة” اعتراف وإقرار بأن الحياة في زمن من الأزمنة كانت أفضل وأجمل، فقد كانت جنة وعسلا فتحولت بعد ذلك من الأفضل إلى الأسوأ “القريص” فكان طبيعيا أن تتلبس الذات الشاعرة بهذا الوضع وتتأثر به، وتفقد بذلك كل طاقاتها، وتحس بشيء من العي والعجز على السير في درب البناء كما في هذا البوح: “كنت جنان/ و/ وليت رويحة بلا لون” ص: 6 وهو بوح يعطي تصورا عن وعي بالذات، لأنه يكشف عن ماضيها وحاضرها، ويرصد تحولاتها في الزمن، وهذا الوعي هو الذي كان وراء اتخاذ الشاعر هذا القرار “تسناوني؟ ما كاين لاش” ص: 7 لأنه مدرك أن الذات غير مؤهلة، في هذه اللحظة على الأقل، بخوض غمار أي معركة في الحياة.
ولعل ما يحسب للذات الشاعرة في هذا الاطار، إلى جانب هذا الوعي المعبر عنه، هو عدم انهزاميتها وانتظاريتها، فرفضها للانخراط في الحياة بشكل عام، كان مرتبطا بلحظة زمنية محددة تراءى لها فيها أنها ما زالت تفتقر إلى الوسائل والأدوات اللازمة، وهذا ما ستؤكده النصوص الموالية التي ستنفتح على الحياة في أبهى صورها، والتي سيعلن فيها الشاعر عن ولادة جديدة كما في قصيدة “تولدت مرة أخرى” وهي قصيدة تعضد ما قلناه سابقا بخصوص لحظة العجز، وتفسر بعضا من أسبابها، فقد حدد الشاعر هذا الزمن ما بين 1980 و1997 في قوله: “اتزاديت في 1980/ وف 1997 أول مرة شفت النهار/ آخر مرة شفت الليل” ص:9 فإذا كان الليل رمزا للأزمة فإن النهار رمز لانفراجها، وإذا ما تأملنا هذا الزمن الممتد بين الولادة وسنة 1997 اكتشفنا الأسباب التي كانت وراء إعلان الشاعر عن اللاجدوى من انتظاره “ما تسناونيش” وهي أسباب في مجملها موضوعية ترتبط بمرحلة عمرية تكون فيها الذات في حاجة إلى استكمال نموها البدني والفكري المؤهلين الرئيسين لها على الانغماس في معركة الحياة، وأخرى ذاتية مرتبطة بالشاعر نفسه وما عرفه خلال هذه المرحلة من نزق واندفاع وشيطنة وافتتان بالمغريات، يقول: “كنت مفتون ب أم كلتوم وعبد الحليم” ص: 9.
إن الشاعر وهو يبدي تحسره على هذه المرحلة المنصرمة من عمره، يجعل منها في الآن نفسه لحظة للتأمل في الماضي والحاضر، ويأخذ منها الدروس والعبر، ويتعلم منها أبجديات الحياة، إنه يتزود من ماضيه بما يجعله ينطلق في المستقبل بكل ثقة. ولعل أبلغ درس تعلمه الشاعر هو ذاك الذي صاغه في قوله: “تعلمت ب اللي أرض المحبة واسعة وعريضة” ص: 11 وبهذا الدرس يكون الشاعر قد وضع الأسس الكبرى للحياة وأرسى دعائمها التي لا يمكن أن تقوم بدونها، إنها، بكل بساطة، الحب باعتباره قيمة إنسانية عظمى، فبإمكان هذا الحب إذا فاضت به قلوب الناس، وانتشر أريجه في المجتمع أن يحوله من السلب إلى الإيجاب، وأن يسعد الانسان، بل إنه بمقدوره أن يحقق المستحيلات في مجتمعاتنا، وهذا ما عبر عنه الشاعر في قوله: “رمشت واشحال من دهشة احييت!/ رمشت واتعانقت الجبال/ رمشت وصفا الحال: البحر ولى ابتسامة../ الريح ولات حمامة..والشتا ولات نوطات/ جديدة ف كوكب الموسيقى..” ص: 13 ، وبما أن للحب كل هذا التأثير وكل هذه الفعالية فالإيمان به حتمي والإقبال عليه ضروري “مومنين بالحب:/ يبيض لينا الغراب/ يغسل ذنوب الشمس”ص 49. فبالحب نقارب بين المتضادات ونؤالف بينها، وبالحب نقضي على كل السلبيات، سواء في ذواتنا أم في المجتمع، وهو ما عبر عنه بقوله: “نهار جيت/ حييت/ حبيت/ تحبيت/ وبيدك/ دفنت الموت” ص: 16 فتبادل عبارات الحب بين الناس، قادرة على أن تضخ دماء جديدة في الفرد، وأن تفتح أفقه على حياة أفضل.
إن انتصار الشاعر لقيمة الحب، وإيمانه القوي بفعاليتها وجدواها في بناء المجتمعات وإسعاد الانسانية، حدا به إلى إعادة صياغة قانون البشرية في صورة شعرية بديعة، تجعل من نهاية الإنسان ومآله إلى محطة واحدة هي الجنة، وأما نقيضها النار كما نصت على ذلك شريعة السماء، فلا وجود لها في عالم الشاعر، فقد أطفأها ماء الحب المتدفق بين المتحابين، كما في هذا المقطع: “نهار جيت ودن الودان:/ما كايناش جهنم/ طفاها الحب .. طفاها الإيمان” ص: 14
وأما عن مصادر هذا الحب وطرق إشاعته بين الناس، فإن الشاعر يجعل له منابع عدة، فقد تكون أمرة تغدق بمشاعرها على الرجل كما تحيل على ذلك استعمالات الشاعر الفعل مسندا إلى التاء الدالة على المؤنث كما في قصيدة “أمانة عليك” مثلا… ولكن من غير أن يكون هذا الحب هياما وداء يقطع حبل صاحبه بالحياة ويسلمه إلى الردى كما نقرأ في قصص شعراء العربية المحبين الذين ألم بهم داء الحب بعد أن أصابهم بما أصابهم به من سقم وهزال وذهاب عقل، إنه عند عادل سليماني سبيل إلى الحياة في مباهجها ومسراتها، وطاقة خلاقة لنبض القلوب وتآلفها. كما يمكن أن يكون سلوكا إنسانيا يوقظ في الآخر مشاعر الحب، أو عملا بسيطا يشعره بالأمان، أو حتى ابتسامة تزرع الأمل في النفس وذلك أضعف الإيمان، وقد عدد الشاعر بعض هذه السلوكات في قوله: “اشعل شمعة/ مسح دمعة/قول ف الحق كلمة/ قول شي حاجة/ قول السلام/ قول صباح الخير/ دير ف راسك الخير/ لعب اليوغا/ حيد من الطرق شوكة/ اقرا رواية/ هز من العقل حجرة واضرب شي خرافة…إل آخر ما جاء في هذا المقطع” ص: 20
وبهذا يكون الشاعر عادل سليماني قد أسس للحب مفهوما خاصا ومنحه بعدا كونيا، فهو عنده مرادف للحياة ونقيض للموت، إنه دين وإيمان يتغلغل في في ذات الانسان، فيجردها من كل السلبيات التي يمكن أن تعلق بها وتعيقها عن إشاعة القيم الإنسانية كالتسامح والتضامن…في المجتمع. فحين يتشبع الفرد بالحب ينعكس ذلك على ذاته، فتصبح هذه الذات مؤهلة للقيام بدورها كاملا في المجتمع وذلك من خلال البناء العلمي والفكري لها “اقرا رواية” والبناء الجسمي “لعب اليوغا”، ثم من خلال تمتين روابطها بالآخر “قول السلام.. قول صباح الخير” “مسح دمعة”. والحب في مفهومه كذلك باب لكل الفضائل والخيرالت، ومعبر نحو عالم الصفاء والنقاء، وهو ما عبر عنه الشاعر بلفظ الجنة “شفايف المحبة BAR وهو ف الأصل باب الجنة”ص:30
وحين كان الحب يؤهل الذات الإنسانية ويبعث فيها روح العمل والانخراط في الأوراش المجتمعية الكبرى، وجدنا الشاعر عادل سليماني يحرص عليه، ويدعو إلى سلك السبل المؤدية إليه في غير ما موضع من الديوان كقوله: “كون/ نسمة ف هبة ريح/ قطرة ف غصين يتيم/ ندى سبولة ف فدان/ كون/ زغبة الرضى إلى شاب الوقت ف شعر الميمة/ كون فال الخير ف جناح بشار الخير” ص: 28- 29. فالإنسان عليه أن يبادر إلى كل الأعمال التي من شأنها أن تمد حبل المودة إلى الآخر وتمتن الروابط بينهما، ولكن قبل ذلك لا بد أن يروي هذا الإنسان نفسه ظمأه بهذا الحب، حتى يتمكن من إغداقه على الآخرين، لأن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه، وهذا ما تختزنه عبارة “كون/ زغبة الرضى إلى شاب الوقت ف شعر الميمة” التي تجعل من الفضاء الذي يشب فيه الإنسان مصدرا من مصادر هذا الحب، بما في ذلك الفضاء الأسري بالدرجة الأولى والفضاء المدرسي وغير ذلك من المؤسسات التي تسهر على تنشئة الفرد منذ طفولته. ولهذا السبب شدد علماء النفس على التنشئة الاجتماعية للطفل لأنها الينبوع الذي يمده بالشحنات الإيجابية خلال المراحل الأخرى من عمره، ومقابل ذلك كلما عاش الطفل الحرمان وبخاصة العاطفي انعكس ذلك سلبا على مستقبله، وليس مستقبل الأطفال غير مستقبل الأوطان التي إذا ما افتقرت إلى الحب هانت وهوت، وقد أجمل الشاعر أهمية النهل من ينابيع الحب والارتواء من مائه في قوله: “اشرب كاسها (أي المحبة) وتدفق ف جميع الكيسان” ص 29.
إن دعوة الشاعر إلى الانغماس في الحب وسلك سبله، من خلال اعتباره بابا من أبواب الجنة، وإكسيرا للحياة، تقابلها دعوة أخرى إلى أخذ الحيطة والحذر من الاكتواء بلظاه، فهو نور ونار حسب الشاعر “حتى تعرف الفرق بين قريص المحبة وعسلها”ص 31، فأما الجانب المنير منه والحد الموجب فيه هو الذي تحدث عنه سابقا وحرض عليه، وأما الجانب المحرق والحد السالب فقد اكتفى الشاعر بالإشارة إليه في قصيدة “بوسات لفياق”ص30 حينما دعا إلى التمهل والتريث في إظهار الحب وإعلانه في قوله: “ب المهل/ بوس المحبة بالمهل”ص: 30. والسؤال الذي يعتصر ذهن القارئ وهو يقف عند هذه الثنائية الضدية التي تم الجمع فيها بين الدعوة إلى الإقبال على الحب والدعوة إلى التريث فيه، هو كيف يمكن أن نتريث في الحب؟ وهل الحب شيء مادي يمكن أن نأخذ منه أو نعطيه بمقادير معينة؟ إنه السؤال المحير الذي أخذ حتى لب صاحب الديوان، ويمكن مقاربته انطلاقا من سطرين شعريين متباعدين، قوله: “اغسل روحك عاد نوي” ص: 30، وقوله: “كون ما زربت ف النية/ كون حسيت فاش تحرقت/ كانت صلاتي تقبلت ف الجنة” ص: 31، وليست النية هاهنا إلا عقد العزم على الإقبال على الحب في طهارته ونقائه. وإخفاق الشاعر في حبه لم يكن إلا نتيجة تعجله، لأنه لم يستعد له بما فيه الكفاية، ولم يتهيأ له بالقدر الذي يليق بهذا المقام السامي، فهو لم يطهر روحه على حد تعبيره، فما دام الحب بابا من أبواب الجنة، فدخوله مشروط بالاغتسال والطهارة حتى تقبل صلاته، يقول الشاعر: “كان علي نتوضي بالعسل/ نسكر بالنور/ وب المهل نبوس” ص: 31، وبهذا يتحول الحب عند الشاعر إلى مفهوم صوفي ويرفعه إلى منزلة عظمى، فلا يمكن أن يتاح لأي كان، فالحب له قواعده وشروطه المؤدية إليه وثماره لا يجنيها إلا من التزم بهذه القواعد وإلا كان وبالا على صاحبه.
المستوى المعجمي:
إن وقوفنا عند المعجم الشعري المعتمد في الديوان، ينطلق من إيماننا بالعلاقة الوطيدة التي تربطه بالنص الشعري، فهو بمثابة اللبنات الصغرى التي تقيم صلبه وتحدد هويته، وتكشف عن مقصديته، ولعل قول الكاتب الفرنسي ملارميه الشهيرة “الشعر لا يكتب بالأفكار ولكن يكتب بالكلمات” أكبر دليل على ذلك. لهذا فلا غرو أن نسائل هذا الجانب من مكونات النص الشعري ونحن نبحث دلالاته، ونستنطق مضامينه. فلم يجد الشاعر بدا، وهو يعالج تيمة الحب والحياة، أن يمتاح من معجم خاص بهما، ذلك بأن لكل نوع من النصوص معجمه الخاص، بل إن هذا التواؤم بين النص ومعجمه علامة من علامات الشعر المطبوع، وسمة من سمات جودته وإجادة نظمه، وهذا ما عبر عنه المرزوقي قديما في تحديده لعمود الشعر ب “مشاكلة اللفظ للمعنى”. والمتفحص لنصوص الديوان سيقف عند سيل من العبارات والألفاظ ذات الارتباط القوي بموضوعة الحب والحياة إما باستعمال اللفظين أنفسهما، أو باستعمال مرادفاتهما، أو ما يؤدي إليهما من معنى قريب أو بعيد، مثل: تولدت، تزاديت، نبتت، ابتسامة، حمامة، أحلام جديدة، دم جديد، نبغيك، نبض واحد، الورد، الفرح…وأحيانا أخرى باستعمال أضدادهما مثل: دفنت الموت، ترجع الموت حفيانة، ما كيناش جهنم/ الموت يتيم، ندفنوه، الليل…
واللافت للانتباه أن الألفاظ المكونة لمعجم الحب والحياة في الديوان وردت مرتبطة وجاءت متتالية، ففي مواضع كثيرة تتصل الألفاظ والعبارات بعضها ببعض كقول الشاعر: “نهار جيت/ حييت/ حبيت”ص: 16، “الموت تموت والمحبة/ تعيش” ص: 43، وكأن بالشاعر يؤكد ارتباط الحياة بالحب، وينصص على تلك الوشيجة القائمة بينهما، وهو ما أكدته المعاني العامة للنصوص كما سلف وأن ذكرنا، فلا حياة بدون حب، وحين يشع الحب يندحر الموت.
والشيء نفسه نلفيه بالنسبة لمعجم الموت، فقد شكل منه الشاعر ثنائية مع الحب والحياة، كما في قوله: “نتاقمو للموت وا حنا والشجر خوت” ص: 54، فقهر الموت هو انتصار للحب “خوت”، وقوله: “كل شوفة تفتح للروح باب/ تسد على الموت بيبان” ص: 26، فالحب ينعش الروح ويهبها الحياة، وفي المقابل يضع المتاريس أمام الموت ويبعده، وقوله: “دخلت للجنة وخرجت/ حيت معاي ما كنتيش” ص: 41، فبمجرد فقدان الحب يفقد الانسان رغد الحياة “الجنة” ويعانق في المقابل الجحيم، غير أن هذه الثنائيات الخاصة بمعجم الموت هي ثنائيات ضدية، خلافا لما وجدناه من ترابطات في الحقول الدلالية المشكل لمعجم الحب والحياة، وهذا يؤكد توجه الشاعر ورؤيته في هذا الديوان القاضيان بالاحتفاء بالحب والحياة لارتباط بعضهما ببعض، وتكاملهما في خلق سعادة الفرد، ورفض الموت الذي ينغص حياته بشتى أشكاله، فحين يعيش الانسان سعادة فإنه ينتصر بشكل ضمني على الموت المعنوي الذي ما فتئ يتعقبه في جميع مجالات الحياة.
وبهذا يمكن القول: إن ديوان “ما غاديش تموت..” تؤطره ثلاثة معاجم كبرى، وهي الحب والحياة والموت، فالأول مطلوب، وهو مؤد إلى الثاني ومرتبط به، وأما الثالث فمرفوض، يناضل الشاعر من أجل دحره وهزمه.
وارتباطا بالمعجم الشعري دائما وبمبحث الدلالة، يمكن الارتكان إلى خاصية التكرار التي تميز هذا الديوان، وسنفتح قصيدة “نهار جيت” ص: 12 نموذجا لتوضيحها، فقد عاودت بعض الألفاظ الظهور مرات عديدة، فورد لفظ “جيت” سبع مرات، ولفظ “الحب” خمس مرات، و”رمشت” خمس مرات، وبنفس العدد ذكر لفظا “درنا” ورسمنا”…وهي في مجملها أفعال، مما يؤكد تنفيذ الحدث والقيام به، وهو حدث مرتبط بالحب والحياة، لأن سياقات الأفعال المكررة كلها تصب فيها وتؤدي إليها، وهذا يفيد في إغناء دلالة النص الشعري، ويؤكد انتصار الذات الشاعرة لما سطرته أفقا ضمن نضالاتها. كما أن توظيف الشاعر لخاصية التكرار يحيل على رغبته في تبسيط المضمون الشعري والخروج به من الغموض والتعمية إلى دائرة الوضوح، دون أن تخل هذه البساطة بالمستوى الفني للقصيدة، وتذهب بجماليته. فالشاعر حريص على تجزيئ الكليات وتفكيكها كما في هذا النموذج: “نهار جيت كلشي درناه ولقينا راحة البال” ص: 15، فتبقى عبارة “كلشي درناه” غامضة غائصة في العموم محمولة على كثير من من المعاني والدلالات، تحتاج إلى تفصيل أجزائها، وتبيين مغلقاتها، وهو ما لم يتوان الشاعر في إتيانه، مكررا بذلك فعل “درناه” في جزء من أجزاء هذا الكل، كما يلي: “درنا يدينا ف يد كلمتنا الحبيبة/ درناها ف اليد البيضا(ء).. درناها ف يد الله” ص 15.
إن الشاعر يباشر عملية التفكيك والتحليل بنفسه وكأن به يستحضر المتلقي لحظة البوح الشعري، فهو لا يتركه منشغلا بالبحث عن الأسباب والمسببات، ويعفيه مغبة الأسئلة المؤرقة الباحثة عن العلل الكامنة وراء القيام بالفعل، ففي قصيدة “كنبغيك” يقول: “كنبغيك/ حتى أنا كنبغيك/ حوار بسيط دار بين زوج نغمات.. كان كافي” ص: 17. فهذه الأسطر الشعرية تستفز ذهن المتلقي للتساؤل حول جدوى هذا الحوار الدائر بين النغمتين الرامزتين في القصيدة إلى الحياة في بهائها وصفائها، فيأتي الشاعر فيما تبقى من القصيدة ليضع حدا لهذا السؤال، فيجيب: “باش ترجع الموت حفيانة لدارها القديمة.. باش/ تولد أحلام جديدة.. ودم جديد يتدفق ف عروق/ الشمس.. باش الزمان ما يغملش ف القلب../ وما توقفش الحياة ف نص الطريق”” ص 17. وهكذا يجد الشاعر نفسه مضطرا إلى توظيف التكرار باعتباره صيغة فنية تفيد من جهة في إغناء الدلالة، وتسهم من جهة أخرى في إزاحة السجوف عن النص الشعري.
ولا تقف أهمية دراسة المعجم الشعري عند حدود بسط المضامين وتأكيد المعاني كما اختارهما عادل سليماني، وإنما يفتح أفق القارئ على المادة اللغوية الموظفة في بناء النص الزجلي، ويظهر قدرة الشاعر على انتقاء الألفاظ وتوظيفها التوظيف اللائق، ذلك بأن مهمة اختيار اللغة تصير أصعب وأشق حين يتعلق الأمر باللغة العامية المتداولة بين عموم الناس والتي جمعت أشتات كثير من اللغات العالمة، وعرفت خلطا ومزجا كبيرين بين كلمات وعبارات يتواضعها الناس في كل وقت وحين دون رقيب ولا حسيب، فتصير مع مرور الزمن لغة تواصل. وفي الديوان، قيد الدراسة، يترفع الشاعر عن لغة الكلام اليومي المتداول، ويختار لغة الكتابة، وهي لغة منتقاة بعناية، تجمع بين جمال اللفظ وحسن العبارة في ارتباط دائم باللسان العامي، ففي قوله: “سعدات فاعل الخير/ ف كل شبر يعطس ف النار بير” ص: 5 ترصيف وتنضيد لكلمات عامية أعطت للعبارة قوة في السبك وجمالا في الصورة التي تجعل من فاعل الخير بمثابة من يصب بئرا من الماء على النار، بمعنى أنه يمحو الشرور ويستأصلها، وبهذا الاستعمال يكون الشاعر قد نقل كلمات عامية بسيطة من الاستعمال اليومي، وسما بها إلى مرتبة الشعرية.
كما نجد الشاعر قد ارتبط في توظيفه للكلمات بالسياقات التي وضعت لها في الاستعمال العامي، فالحمامة التي يرمز بها إلى السلم والسلام في كثير من أشعار شعراء العربية نجدها عند عادل سليماني بمعنى المرأة والحبيبة وهو استعمال يتداوله عموم الناس، على عكس الشاعر العربي الذي استعار الريم والغزال والبقرة الوحشية لمخاطبة الحبيبة، وبحفاظ الشاعر على السياقات العامة للكلمات يكون قد ضمن استقلاليته في بناء الصورة الشعرية سواء من ناحية التخييل أم من ناحية الأدوات المعتمدة.
إن الاغتراف من الذاكرة الشعبية والعب من ينابيعها في القصيدة الزجلية، يمنحها اعتبارية خاصة، ويجعلها أقرب إلى المتلقي سواء أكان ذلك عن طريق الالتزام بالسياقات العامة التي استعملت فيها الألفاظ كما أشرنا إلى ذلك أم عن طريق توظيف مسكوكات لغوية تراثية، يعمد الشاعر أحيانا إلى تحويرها وملئها بمعان جديدة كقوله: “طار حقي ف الجنة” ص: 5، “أنت ضيافة النبي وأنا ما عمرني كنت/ من الضياف” ص: 8، “أرض المحبة واسعة وعريضة” ص: 11…وأحيانا أخرى يستعملها كما وردت على لسان العامة كما في هذه الأمثلة: “ما عندناش/ و/ ماخصناش”، “نضربو بها الرش” ص: 48، “سعدات فاعل الخير” ص: 5.
وآخر ملاحظة يمكن تسجيلها حول المعجم الشعري المعتمد في هذا الديوان، تتعلق بتنوع حقوله، فنجد حضورا للحقل الديني “مسلمة، نصرانية، يهودية، بوذية، قابيل، هابيل” والحقل الفلسفي “الميتافيزيقا، أرسطو، الأرغانون” والحقل العلمي “انشطاين، نسبي، مطلق” وهلم جرا، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على انفتاح النص الزجلي على الثقافة العالمة بمختلف مستوياتها، انفتاح تسهم فيه سعة ثقافة الشاعر وهو ما توافر لشاعرنا عادل سليماني الذي ارتوى من معين مختلف العلوم فكون لنفسه رصيدا معرفيا انطبع بجلاء على أزجاله
خاتمة:
تأسيسا على ما سبق، نختم القول بتأكيد ثراء ديوان “ما غاديش تموت” لصاحبه عادل سليماني وخصبه، سواء من الناحية الفكرية أم الفنية، فقد قدم الشاعر رؤيته الحداثية للإنسان داخل مجتمعاتنا في طابق يجمع بين جدية الموضوع وبلاغة التعبير والتصوير، هذا الإنسان الذي ما فتئ يفقد انسانيته في عالم طغت عليه الماديات، واندحرت فيه القيم، وكثرت المآسي، فكان احتفاؤه بالحب والحياة سبيلا لإعادة التوازن لهذا العالم، وضمان سعادة الإنسان.