سفينة القلب

لماذا لم تتكلم..؟!
كان عليك أن تقول حكايتك..، أن تسرد أوجاعك..، أن تبوح بسرك..، أنت ضحية صمتك الأمس، واليوم، وغدا. صحيح أن كل شيء تحالف ضدك، لكن صمتك اللعين شيد أبراج الهزيمة. كانت كل أسوار المدينة ترجو كلامك، تتمنى أن تحرك شفتيك، لكنك ظللت تعتقل كل شيء في صدرك، ولا تتكلم إلا مع أوراقك، بعد التأكد من إغلاق باب الغرفة جيدا..!!
ظللت تحبس الأوجاع والأسرار في حنيتك، والمعشر تحصده السنين إلى أن أتت عليه. وأكلته كما تأكل الكلاب الميتة..!!
فكان الشتات
كان الفراق
وبدأت المتاهات
كل حقيبة امتطت حافلة، واختارت طريقا من الطرق المؤدية إلى بحر الهلاك، ووقفت، أنت، بلا ظل أمام أطلال العشق، والشعارات، والأحلام..
هطلت عيناك
عصفت زفراتك
واهتزت حناياك
حملت هلاكك بيديك كما فعل طرفة قبلك. وارتميت في حضن قاتلك..!!
قالت لد دروب المدينة: تكلم..، قل أي شيء..، أخرج ما في صدرك من داء، وهاك الدواء لكنك لم تتكلم..!!
فقصفتك الأيام بغضبها
وتركك الخلان
وصاحت الطريق ساخرة منك: أنت قفة بلا أذنين..!!
وقالت لك همسات هربت من عين تهطل بالجنون: تعال تتعلم السباحة في بحر الكلام..
أردت أن تتكلم، فجرك الصمت بقوة إلى غرفته، وأغلق عليك الأبواب. كل شيء رحل الآن..!
لن تعود تلك الأيام أبدا، لن تجتمع تلك الوجوه، ولن تستدعي المدينة أحدا من خلانك الصعاليك، بل لن تسمح لأي منهم بالدخول إليها، ولو جاء راكعا مستنجدا
لن تعود تلك الأيام أبدا..
ولن تغني، هناك، تلك الكؤوس أغانيها
كل شيء رحل..!!
وأغلقت المدينة أبوابها
جمعت كؤوسها، وطوت لياليها
ما تبقى الآن إلا الرماد، وصور ألبوم عجيب تسبح في الذاكرة ليل نهار، ورسائل متعبة تطل حينا، وتغيب أحيانا:
«لم أكن أنوي الكتابة إليك، لم أفكر في هذا تماما، لكني فجأة، وجدت نفسي أنساق وراء قلم اختار أن يقصدك أنت بالذات..
لا أدري لماذا..؟!!
أين أنت الآن..؟!!
وفي أي صف تقف..؟!!
هل مازلت معتقلا، تذوب خلف قضبان الصمت والخجل..؟! أم أن الأيام حولتك على مقاسها..؟!
كان عليك أن تتكلم، أن ترسم جملا جميلة على وجه تلك المدينة، التي هيأت لنا مواعيد جذابة، وأهدتنا هدايا ملغومة، وألبستنا أرقاما، ثم طردتنا لا نحمل في جباتنا غير قلق، وذكريات، وأناشيد، ووجه أنثى أحببناها كلنا..؟!
أين أنت الآن..؟!
وفي أي صف تقف..؟!
أي لغة تكلمت كؤوسك خارج المدينة..؟!
وأي لحن عزفته زفراتك، وأنت وحيد تتجرع مرارة النهاية..؟!
أحببناك جميعا، استطعت بطريقة عيشك أن تشيد حبك في كل الصور، وقصد الجميع غرفتك المزركشة بفوضاها العارمة، وبالكتب، والجرائد، والأوراق..، كنت تستقبل كل الوافدين، وتغرقهم في البسمات العريضة، لكنك كنت أخرس..؟!
لا تتكلم إلا مع أعقاب السجائر حين ينهض الخلان، ومع الورق، والمداد..!
آه منك أيها الصموت الجريح..!! أتذكرك الآن، وأنت تسير سيرك النحيل المعوج، تزرع البسمات في كل مكان، والجراح ترقص في صدرك على إيقاع أحزان صدئة..
أتذكرك بسروال وجاكيته «ادجين» تحمل الدفاتر، والكتب عارية لا تلبس أي غطاء..
أتذكرك الآن، وأتذكر ذاتي الجريحة، التي تركتها مقيدة داخل كهف تلك المدينة العاقة..
آه أين رست سفينتك يا رفيقتي..؟!
وأين وضعت ابتسامتك..؟! في ثلاجة..؟! أم في فرن ساخن..؟!».
كانت الشمس تتأهب للغروب خجولة صامتة، والشارع يراقب غزاته بأعين خائفة، والخريف يرسل قهقهاته العالية في المدى كله، وكانت المدينة تلبس هموما غريبة، وتملأ كؤوس أبنائها و زوارها أحزانا، وتهديهم تذاكر سفر نحو جزر يطوقها الرماد، ويلتهمها النسيان.
غرست عينيها في عينيه، وقالت: أمازلت مصمما على المضي في طريقك؟؟
أمازلت تعتقد أن المدينة ستشفى من مرضها العضال..؟!
لم يجبها..!
ظلت خطواته تمتطي صهوة عمياء، وذهنه مفقودا بين عباب بحر من حميم..
ضغطت على معصمه، وتابعت حديثها: هذه المدينة ألفت كآباتها، ورضيت أن تحتضن هزائمها، قبلت أن تظل في بحر الهوان، تسقي عشاقها الموت سلسبيلا، وتسقي قاتليها الخير والنعيم..!!
صفعها ببسمة خرساء، ولم يتكلم، فقط قال في قرارة نفسه، وجبال الأحزان تقف شامخة في صدره: «أجل إن المدينة كلها تئن تحت أكوام الرداءة، وتشيخ وهي في ربيع عمرها، خلف قضبان الهزائم، وإننا ألفنا وجهها العبوس، وجراحها المخضرة هنا، وهناك، لكنني واثق أنها تخبئ شيئا جميلا داخل صدرها، تخبئ بسمات عزيزة، وأعيادا، وطيوراً حرة، وبساتين مخضرة..».
«والآن هل أدركت أنك كنت مخدوعا، ساذجا، أو قل بليدا، قفة بلا أذنين..!!
لم ظللت تتشبث بالسراب..؟! وظل خيالك المجنون يهطل بالأحلام الغزيرة..؟!
الحلم شيء، والواقع شيء
الحلم رفرفات
وحرية
وجداول عدل تطفئ ظمأ الملايين
والواقع سياط
وجوع
وعصي غليظة
و سجون تعتقل شهية الفرح
الحلم شيء، والواقع شيء
الحلم خدعة
والواقع يقين».
ظلت الخطوات شاردة، والمدينة خلعت ثياب النهار، لترتمي في يم الليل، والشمس ولجت بيتها، وأغلقت أبوابها، والشارع انتصب أمام مرآة، وصار ينظر في وجهه، ويمعن النظر كرجل فاجأته الشيخوخة، وهاجمت وجهه التجاعيد..
الشارع جحيم
أو كلب مسعور يعضُّ بعض القلوب
لكن المرآة لا تعكس كل شيء، لا تستطيع التوغل في الحنايا، ولا تقدر على الخوض في أعماق الليالي.
توقفا خلف السور الحديدي، وبعثا النظرات بعيدا، تبحث – في ثنايا المستحيل- عن بسمة تزين وجه المدينة، وتعيد إليها نضارتها التي سرقت منها…
كان يقفان بجانب النهر على رصيف الطريق الآتية من البحر والسجن، وكانت كوكبات العمال والصيادين تمر على متن دراجات هدها الإرهاق، والقلق… يقصدان المكان، يتنقلان بين صمت كثيف، وكلام قليل، تهرب منهما النظرات لتطوف عبر مويجات النهر، وأسوار السجن، ووجه البحر المطل من هناك.
يسافر الذهن في أسرار هذا الجوار العجيب، وتثور الاستفهامات، ترسل رياحها العاتية، فتغرق شراع الغريبين الآتين من بعيد يبحثان عن الهلاك…
كلاهما قصد طريقا أوصلته إلى هذه المدينة، هي جاءت من مدينة عانس، حفرت التجاعيد في وجهها، الأزقة. ولم تتزوج، وهو جاء من مدينة تحسب نفسها شابة، وقد انقض عليها الهرم في المهد، وظلت لعبة بين أيادي السماسرة، والغشاشين…
كلاهما تبع طريقا، وجاء إلى هذه المدينة، كما جاء آخرون هاربين من القحط وجفاف الإحساس…
جاءا كما جاء الآخرون: عبد السلام، وأحمد، وعلي، ومريم، ورقية، والمحجوب، وحياة… واللائحة تمتد طولا وعرضا..
جاؤوا جميعا هاربين من الفقر، واللاجدوى، فارتموا في أحضان الهلاك… ووأدوا أحلامهم حية، في واضحة النهار.
«كل شيء رحل يا فاطمة..!!
والطاعون أكل المدينة، وحصد الأحلام، وقتل العاشقين..!!
لا تقصفي صدري المكلوم بسهام اللوم والعتاب، ولا تحرثي جلدي بسياط السخط، فجلدي محفور بسياط الوقت المجنون.
امنحيني فسحة وحيدة داخل جحيم رسائلك، اسقي عطشي بكلمة ممطرة، تنصفني، ثم اقتليني باللوم والعتاب.
لم أنس شيئا يا فاطمة..!!
واسألي – إن لم تصدقي- ليلي، وصمتي، وزفراتي، وكؤوسي..!!
لم أنس المنطقة
والعين التي طوحت بي في بحر الهلاك
ولم أنس المدينة، وجغرافية الأيام، ووجه الأحلام..
أنا لا تطوقني، الآن، إلا تلك البصمات التي حفرناها هناك، ولا يحاصرني، إلا شوق عنيد، لا تهدأ رياحه.
قولي ما شئت من كلام..
مزقي الألبوم، واحرقي السطور، لكنك لن تستطيعي – مثلي- تقتلعي جذورا تتوغل في أعماق الذاكرة.
لن تستطيعي محو صالح الخجول من ذهنك، ولا «عبد السلام» السكير، ولا «مريم» ولا «علي» اللص المختص في سرقة الكتب من المكتبات، ولا «حياة» بنت الإقطاعي، التي أعجبها فقرنا، أو كانت تتسلى بهمومنا..؟!
لن تستطيعي نسيان أحد من أولئك الصعاليك..
كلهم يسبحون، الآن في خيالك، وسيظلون..!!
هيهات..!!
تكسرت المجاديف، وغرق المركب، وابتلع العباب الأحلام، فوقفنا نرثي أنفسنا، ونبكي حجر أساس لم يلد إلا الخراب، رغم أنه كان حلما رائعا.
كل شيء رحل يا فاطمة..!!
وكثيرون هم الذين قلبوا الفيسته
كثيرون جدا..!!
لكن لنتمسك بالأناة
صحيح أننا فشلنا في تضميد، ولو جرح بسيط من جراحنا المزمنة، ولم نستطع مواصلة السير جنبا إلى جنب، وفي طريق واحدة، ولم يقدر مركبنا على مواجهة أمواج الكآبات، والانكسارات، فغرقت أحلامنا، وذابت كقطعة سكر في مستنقع عريض.
صحيح أننا الآن، نتخبط في ظلمات اللاجدوى، وتاهت رحلاتنا في بيد الفراغ القاتل، وجحيم اللاشيء..
لكن علينا أن نطرح الأسئلة، وأن نهجر – ولو لوقت وجيز- ضفة الأجوبة.. يجب أن نؤجل اللوم والعتاب، ونبدأ من جديد، لا من أجلنا نحن، لأننا لا يمكن أن نشرب من النهر مرتين، ولا أن نسير، من جديد نفس المسير، ونقول نفس الكلام…، ولكن من أجل غدٍ يضحك في وجه الجميع، وأغنية جميلة تطرب كل الأذواق..».
سارا في طريق يطوقها الصمت، ويجري فيها الخريف حرا طليقا، ويضحك فوق أغصان الأشجار، عبرا الشارع النهري، وتوغلا في ضلوع المدينة اليسرى، تجاوزا مركز التكوين المهني، وحديقة صغيرة، ومقر جماعة حضرية، والكوميسرية صونترال، وولجا شارعا تصطف فيه المقاهي والحانات يمينا وشمالا، وتقعد على أرصفته عاهرات ينتظرن الزبائن. هذا الشارع سلمهما صامتين إلى الشارع الكبير، وتابعا المسير وسط أمواج بشرية هائجة إلى مقهى شهرزاد حيث تجتمع الجماعة حول طاولة عليها كؤوس، ومنفضة وجرائد..
«كيف أبدأ الحكاية يا علي…؟!!
كيف أركب صهوتها الرعناء..؟!!
ومن أين أبدأ، إلى أين أصل..؟!!
الحكاية فرس جامحة، تكر وتفر في أزقة الذاكرة والخيال، وهي أيضا مدٌّ وجزر، وذهاب وإياب..!! فكيف أمتطي مطيتها..؟!! وكيف أتنقل بين تضاريسها الملونة بألوان قزح كلها…
أنا محتار يا علي..؟!!
لكني أريد أن أنسف عاريا ما تبقى من مساحة العمر..!! فهل أستطيع..؟!!
أين أنت، الآن، يا علي..؟!!
وأين أخذتك سفن عنادك..؟! وأين طارت بك صهوة الكؤوس..؟!
اجتمعنا كلنا في محطة الوداع، وكنت أنت الغائب الوحيد، تمنيت أن أراك تبكي – مثلي- أطلال الأيام، فرأيتك في صمت «حياة» تتخبط في الخراب، وتبكي الحبيب والمصير..
لماذا انقطع الحبل يا علي..؟! وجفت الرسائل بيننا..؟!
يكفي أن تطل ليلة من ليالينا.. أو تقف صورة من الألبوم، يكفي أن نجالس كأسا، أو نكتب حرفا، يكفي أن ينطق لسان التلفزيون باسم تلك المدينة.. يكفي أي شيء يا صديقي لنتذكر..!!
أين حططت الرحال..؟!! وكيف تمحوك الأيام خارج مدينة الأحلام، وبعيدا عن صالح وحياة وفاطمة…
هل تذكر يا علي..؟!
هل يزورك صمتي..؟!
هل يهاجمك وجه المساء في شوارع الخريف..؟!
في أي اتجاه تمشي الآن يا علي..؟!
وأين سافرت بك المطية..؟!
تطل الأخبار، ثم تختفي.. وكلما أطلت بحثت في دروبها عنك، فرأيتك مهزوما، معزولا، أو أقل مجنونا كسر البوصلات، وانطلق يشق البيد بحثا عن اخضرار العشق…
كل شيء انتهى يا علي..؟!
وتاهت الصهوات
خرجنا من منطقتنا نطأطئ الرؤوس، نجر حقائب الأخطاء والذكريات، فرثت الكؤوس حالنا، وهاجت أمواج الزفير في صدر المدينة، انطفأت شعلة المعشر، وتوزعنا عبر الدروب نبكي المنطقة، والأحلام..!!».
نظر عبد السلام إلى صالح وفاطمة، وقال يخاطبهما:
– بدونكما أرى المدينة تعبس في وجهي، ومعكما أراها تضحك معي.
– لا تبالغ.. (أجابه صالح).
أفرجت حياة عن بسمة صغيرة، وقالت:
– انتظرناكما كثيرا، حتى جرنا تيار النميمة، فهل تغفران نميمتنا..؟!
– لا بأس (أجابت فاطمة) لكن ماذا قلتم..؟!
قهقهت مريم قليلا، ثم قالت:
– قلنا أنكما تعيشان بداية الربيع.
أجابها صالح:
– ولكننا في الخريف..!!
ضحك الجميع، وقال علي:
– وهذه هي المفارقة العجيبة..!!
«لاشك أنك أدركت أخيرا أن تلك المرحلة لم تعد عارية من الخطإ، وأدركت، وأنت داخل جبك العميق هذا، أن لكل مرحلة أسئلتها..، وتضاريسها، وقلقها..!!
أشياء كثيرة سافرت إلى الأبد..
وخطابات حلت محل خطابات
ولفظ الطموح أنفاسه على أسِرّة من وَهَن.
علي غرق في الغياب، وما عاد يتق إلا في الكأس، والليل..
وفاطمة أفقدتها لكمات الفشل المتواصلة صوابها، فما عادت تتقن غير اللوم والعتاب، والنقد الجارح… كانت الأذكى، والأجمل، والأبهى، ولكنها…، آه من جرح الزمن، وظلم الحبيب..!!
وعبد السلام، هذا القادم من أقصى نقط الهامش، عاد كما أتى إلى قريته في أقصى منطقة النسيان، لا يحمل داخل حقيبته إلا الذكريات، وفشلا، وما تبقى من ثمالة رعناء.
أما صالح فبقي وفيا لسكته وحاله، يختبئ خلف صمته وخجله، ويطوي الليالي الباردة سباحة في عباب القلق والذكرى..».
تركوا المقهى، وارتموا في أحضان الشطر الأول من الليل، وساروا يسرعون الخطوات في اتجاه مخابئهم الموزعة على هوامش المدينة، لفهم الصمت، وهم يمشون على شكل صف عسكري في حالة طوارئ.
أخذ الشارع يطرد جمهوره، ويتخلص من الضجيج، وشرع باعة الرصيف يجمعون بضائعهم، وبدأت الدكاكين تغلق أبوابها..، والمدينة تسترجع شيئا فشيئا صمتها الذي ينتزع منها وقتا طويلا..
قبل قليل، كان الشارع عبارة عن سوق تزدحم فيها الأجساد، والبضائع، وتختلط الأصوات إلى حد الاختناق.
حين ولجوا وسط المدينة، أخذت الجماعة تتقلص، وأفرادها يتفرقون عبر الدروب الضيقة، مستنجدين من البرد، والليل بدفء المخابئ..، ضاربين لبعضهم البعض موعدا جديدا مع بداية نهار جديد..
شيئا فشيئا تذوب الجماعة، ولا يبقى سوى صالح وفاطمة كمفقودين في صحراء بلا ضفاف، يصارعان القر ويواصلان المسير في شوارع الليل حيث ترقص المتاهة، وينأى المخبأ، ويرتعش القلبان.


الكاتب : محمد الشايب

  

بتاريخ : 24/10/2017