بأصوات متعددة .. سبيل الشعر

 

يورد الشاعر رشيد قدوري في مقدمة ديوانه (سُمَيْمِيعُ النَّدَى) أنّ ثمة مواصفاتٍ ينبغي لشاعر الهايكو أن يتحلى بها هي: قوة السمع، رهافة الإحساس، حدّة النظر، وهذه المواصفات، لأهميتها، تكاد لا تقتصر على شاعر الهايكو وحده، وإنما هي أعمّ، تشمل كلّ شاعر حقيقيّ معنيّ بمعرفة ما يحيط به من أشياء، ومخلوقات في العالم. ولعلّ ما يوحّد الشعراء هو هذا الاقتراب من محيط كلّ واحد منهم لا الابتعاد عنه، رغم ما يفصلهم من مسافاتٍ في المكان واللغة والأساليب، ورغم اختلاف الرؤى في التعامل مع هذا المحيط. وكلّما كان الشاعر قريباً من هذا الواقع، كلّما كان أكثر استيعاباً له، وتمثلاً له بموروثة وعاداته، محيلاً كل ما يفكر به إلى حسّ قد يقترب من الحس الشعبي وقد يكون تجاوزاً وامتدادا له في آنٍ واحد:
عَلى شَطّ البُحَيْرَة،
القافلةُ تَسير
والظلُّ يَسْتَحِمّ
في سير القافلة على اليابسة وظلها المستحم في الماء ثمة مفارقة، وخيال، واستيحاء موروث يحضر بغرائبيته، لا بوقائعه، رغم واقعية المشهد.. غرائبية ليست وليدة مخيلة تضفي على الواقع ما لا يُرى في الواقع، وإنما هي وليدة زاوية نظر حادّة ترى الغرائبية في الواقع ذاته.. في عناصره، وليس خارج هذه العناصر.
هل هناك أشد واقعية من هذا المشهد؟:
منحَدَر .. منحَدَر
بِكُلّ الثقَة
أقتَفِي أَثَرَ الجَدّ
طفلٌ يقتفي أثر جدّه واثقاً، رغم وعورة الطريق. ليس هناك ما هو أبسط من هذا المشهد ولكنّ مجيء كلمة منحدر المألوفة وتكرارها أضفيا عليه غرائبية، وأشاعا ابتسامة لدى القارئ، على طمأنينة الطفل التي يمنحها للجدّ.
ليس ثمة ما هو غريبٌ في هذا المشهد الآخر أبدا،رغم ما يمنحنا من إدهاش:
سِبَاقٌ نحوَ الماء
عَنْزَةٌ تَشْرَبُ
مِنَ الغيمِ مُباشَرة
أو هذا الهايكو:
مِنْ مِنْقَارِ مَالِكِ الحَزِين
تُلْقِي سَمَكَةٌ
نَظْرَةَ الوَدَاعْ.
وهو في التقاطاته لا يفارقه حسه الشعبيّ وليد هذا الاقتراب الشديد من محيطه، بما فيه من حس بالسخرية لازمَ رشيد في كتاباته السابقة التي ضمّها كتابه (هكذا جُنّ قلمي):
رَاجِعاً من السُّوق
لا فَرقَ
بَيْنِي وبينَ حِمار
وقد تكون السخرية مبطنة:
رُغْمَ أنَّ طرَقَاتِي
عَلَى هَذَا البَابِ مَعْرُوفَةٌ
لَمْ تُجِبْنِي أُمِّي ..
لماذا لا تردّ الأم؟ موقفٌ يحتمل تأويلاتٍ شتّى ساخرةً وغير ساخرةٍ أيضاً.
وإن لم تكن هناك سخرية فثمة مرحٌ يعوّض عنها:
تَمَامَا كَجَدَّتِي
تَفْتَحُ شَجَرَةُ البَلُّوطِ
ذِرَاعَيْها لِي.
بسبب هذا الاقتراب من المحيط يلتقي الشعراء البعيدون وقراؤهم.
يقول رشيد قدوري:
«كيف سأدهش القارئ و العالمُ قد كاد يستنفد مواضيعَه العامة وكتب فيها الناس شرقا وغربا وشمالا وجنوبا؟! .. لهذا كان سبيلي الوحيد هو محيطي وأرضي وقريتي العذراء التي مازال بها كثير من الأشياء لم ينتبه لها الناس بعد»
أجل هذا هو سبيله إلى الالتقاء بالآخر قارئاً أو شاعراً، وفي هذا السبيل لاغيره سيدرك أن الألفة والغرابة التي جمعته بناسه، هي التي ستجمعه بالآخرين أيضاً، وإن مارآه قد لا يجهله الآخر، وإنما رآه بصورة أخرى.. صورة لن تُستنفد، ما دام هنالك شعر وعينان جديدتان أبداً.
لا تزال أمام الشعر قاراتٌ تمتد .. ولا يزال الواقع أغنى.
يقول رشيد:
مِدْخَنَةُ البَيْتِ المَعْزولِ،
تُعْلِنُهُ
عَلَى قَيْدِ الحَيَاةْ…
ويقول بريخت:
المنزل الصغير القابع بين الأشجار عند البحيرة
من سقفه يتصاعد الدخان
من دون هذا الدخان
يا لوحشة المنزل،
والأشجار،
والبحيرة
ما الذي يجمع الشاعرين؟

كتب عن ديوان ديوانه (سُمَيْمِيعُ النَّدَى) لرشيد قدوري

* (شاعر وناقد من العراق)


الكاتب : عبد الكريم كاصد *

  

بتاريخ : 30/10/2017