عبد الناصر لقاح .. بلاغة الشعر و انزياحات الحياة

سعيد سعادة غامرة و أنا أعد هذه الشهادة(*)، التي عُهد لي بتقديمها في الأمسية التكريمية، التي نظمتها شبكة تنمية القراءة بصفرو احتفاء بمنجز شعري ماتع وتجربة إنسانية طاعنة في الاستثناء..لمبدع منذور لفردانيته، ولصوت مغرد أصيل متنوع المقامات وبديع السوناتات ضمن الجوقة السمفونية للشعر المغربي المعاصر.. هو الصديق الشاعر عبد الناصر لقاح.
لن أدعي في هذه الورقة الإحاطة الممنهجة بما تستدعيه من حصافة أكاديمية ومران إجرائي، كما أني ـ بكل تأكيد ـ لن أزعم البتة بهتانا المقاربة النقدية الرصينة للمتن الشعري الباذخ والممعن في الفوضى الجميلة للشاعر الألمعي عبد الناصر لقاح، وإنما هي نأمة اعتراف وهسيس محبة، تنشد استدعاء بعضِ تجليات العلاقة الحميمة، التي ربطتني بالرجل شاعرا وإنسانا وصديقا صدوقا طالما اعتززت بمتانة الوشائج الإنسانية العميقة التي طبعت علاقتنا بميسم المودة والتقدير المتبادلين منذ لقائنا الأول .
من هنا ـ دون شك ـ تأتي هذه الشهادة..شهادة العرفان الصادقة في حق هذا الرجل الذي عرفته ـ قبل أن أراه رؤية العين ـ طائرا غريدا وصوتا صدّاحا ، و سيرة ثرية بالبذل والعطاء.. عرفته غير بعيد عن محيط العائلة، إذ ربطته بشقيقي الأكبر الشاعر علال الحجام صداقةٌ حميمية، اشتدت أواصرها عميقا بفعل المشترك الثقافي والإنساني، والزمالة المهنية التي استمرت بينهما طويلا .. وقد كنت أتطلع دائما بفضول المتأدب الغريرـ في ذلك الزمن البعيد ـ ما سيحمله علال من أخبار و قصص ونوادر عن الملتقيات والمهرجانات الشعرية ، التي كانت تنظم داخل الوطن و خارجه.. فكان الشاعر عبد الناصر لقاح ـ دائما ـ في مقدمة المبدعين المغاربة الذين كانوا يستأثرون بحديث الشاعر المكناسي ـ بكثير من الإعجاب والمحبة.. عرفتُ عبد الناصر بعد ذلك ـ كما عرفه الكثير من قرائه في أواخر الثمانينيات، وذلك من خلال نصوصه الشعرية المنشورة بالملاحق والمجلات الثقافية، والتي أومأت بملامح تجربة إبداعية متفردة، شقت طريقها في إباء وعنفوان وسط الأصوات المغربية المنبجسة من جلد الحساسيات الشعرية الجديدة، والمُحمّلة بالزخم السياسي السبعيني وفورة التجريب الحداثي.. في معمعان كل ذلك برزت التجربة الشعرية لعبد الناصر لقاح متنا إبداعيا موسوما بالتميز والفرادة الخلاقة.
ولعمري أن الانطباع الأول الذي خلفته قصائد عبد الناصر في وجداني ـ كقارئ للأدب آنذاك ـ استقر رأسا في اللغة السلسة التي وظفها الشاعر، مادة طيعة لإبداع رؤاه الشعرية العميقة، علاوة على آثار الدُّربة الإيقاعية والالتزام العروضي الذي أفصح عنه لقاح عنوانا بارزا لمعمار نصوصه الشعرية، ومكوّنا أساسيا في بنية قصيدته.. نصوص كان قد رصّصها عبد الناصر بأناة ، وطوّر أدواتها بصبر الناسك المتعبد لتستوعب باستمرار تجربته الحياتية، وتستجيب راضخة لمخياله الإبداعي ورؤيته الفنية.. صفات قصيدة تنم عن قناعة الشاعر الراسخة أن ثمة للشعرما يميزه عن النثر، وهي قدرته على اجتراح الصورة المتحركة من الشريان النابض للإيقاع.. لم يؤمن عبد الناصر قط أن الشعر مجرد متتاليات فونيمية، وبهرجة لفظية تلهث وراء المعنى، و إنما هو بنية إيقاعية متكاملة، و تكثيف دلالي بالأصوات للأسئلة المؤرقة ،حيث يتحول الإيقاع في النص الشعري إلى صدى للمعنى .. ولأن الشاعر ضمير أمة كذلك ، ينهض من أعماق أعماقها.. يُصيخ السمع لنبضها، ويجأر بلواعجها وآلامها ، فضلا عن دوده الدائم عن القضايا العادلة لأبناء بلده و أمته.. فإننا نجد لقاحا ، بالإضافة إلى غزارة نصوصه الإبداعية المتغناة بحب المرأة ـ الأم. الحبيبة. الزوجة . الابنة… فهو أيضا العاشق المتيم بحب الوطن، وهو الدائد المنخرط قلبا ووجدانا وفكرا في المعارك المصيرية للأمة. هو الشاعر إذن بامتياز، كائن الانضغام و سيد التماهي، إذ تتفاعل في كينونته كيمياء الذات والوعي الشقي بقضايا الإنسان والأرض.
لعل أول باب يُفضي إلى تلك الحديقة الغناء التي برعمت فيها أزهار الشاعر مُخصبة لقاحاتها، يشرعُ دفتيه بداية على عتبة نشأته الأولى في رحاب أسرة عرفت بالشعر.. أرضعته الأبجديات الضرورية للقول الشعري ..ألقمته البلاغة وجنّحته ببهاء البيان.. أسرة شاعرة، فتحت أمام لقاح ـ الطفل واليافع ـ كوّة للتحليق في فضاءات القصيد الشاسعة .. حيث تفتقت ذائقته الشعرية وتشكلت بجناحيه زغيبين سرعان ما غطاهما ريش الدربة والمران، بفضل المشارب الثقافية والمعرفية المتعددة والثرة التي عبّ منها الشاعر النهلان صنوف الأدب والفن العربي والفرنسي والإسباني، بالإضافة إلى التأثير الكبير الذي أحدثته الدينامية الأدبية والحضور الشعري البارز الذي زخرت بها الجهة الشرقية، والتي تخلّق من رحمها فحول الشعراء المغاربة في مرحلة السبعينيات كمحمد علي الرباري ومحمد عمارة وحسن الأمراني ومحمد لقاح …مدرسة أصيلة في الالتزام الشعري والأخلاقي كان أثرها جليا على المسار الإبداعي لعبد الناصر إن على مستوى الانضباط الصوتي وكذلك على المستويين الرؤيوي والتخييلي الذي يجعل من الشعر أداة للتأمل والحلم ومشروعا للرفض والممانعة.
ولقد أخلفتُ موعدا مع عبد الناصر لقاح، بإيعاز من القدر الحرون، عندما التحق أستاذا بكلية الآداب بمكناس عائدا من القاهرة، كان ذلك سنة 1989 وأنا كنت قد غادرتها متخرجا جديدا في نفس السنة.. السنة التي تزامنت مع صدور مجموعته الشعرية الثانية الموسومة بـ «ديوان الأرق».. وهكذا لم تشأ الصدف أن أنال حظوة الاستفادة من دروسه القيمة في اللسانيات وفقه اللغة، وبالتالي لم يكتب لي شرف التعرف عليه عن كثب، والاستئناس بتجربته الإبداعية والإنسانية ، كما قدر لأترابي من دارسي الأدب بالعاصمة الإسماعلية، إذ اضطرتني ظروف العمل آنذاك بالابتعاد طويلا عن أجواء الحركية الثقافية بهذه المدينة الساحرة.. وتشاء الأقدار في الوجه الآخر من إشراقاته النادرة أن يزهر اللقاء ذات ربيع من مطلع الألفية الثالثة بأحد هوامش مكناس، المكتظة بالدفء الإنساني.. تحقق اللقاء المؤجل حول طاولة صديقنا المشترك المسرحي الراحل أحمد بنكيران، حيث كانت المساءات تتورد بانثيال المزاج، والأحاديث الشيقة بمعية ثلة من المثقفين المكناسيين.. قدر لي حينذاك ولأول مرة أن أجالس عبد الناصر لقاح الصديق الذي اكتشفت فيه الشاعر المثقل بالأسئلة القلقة فكرا وإبداعا… الإنسان الذي يمارس غواية الحياة، بكل الغدق العاشق والأريحية الطافحة.. فهو المثقف الشامل الذي يدهشك بنقاشاته المثيرة حول بودلير وارتور رامبو وفدريكو غارسيا لوركا ورفائيل ألبرتي.. هو الشاعر الجوال العاشق للأندلس، الذي ما فتئ يحج إليها تيمّنا بفضاءاتها الثقافية الساحرة، واستدعاء لأرواح شعرائها وفنانيها الأفذاذ.. هو الرحالة الذي خبر حواري القاهرة واشتم عبق التاريخ الطالع من مآذنها وأسوارها ومكتباتها ومقاهيها العريقة هو الشاعر ذو القناعات الراسخة والوفاء الثابت تجاه أصدقائه وأسرته و قضايا الإنسان.. عرفته نصيرا للجمال متعطشا للمعرفة متواضعا حد السُّموق وحكيما حد الجنون… هو الشاعر عبد الناصر لقاح الذي لا يؤرقه المدى.

(*) نص الشهادة التي ألقيت في الحفل التكريمي التي نظمته شبكة تنمية القراءة بصفرو احتفاء بالشاعر عبد الناصر لقاح يوم 18 مارس 2017.


الكاتب : أحمد الحجام

  

بتاريخ : 30/10/2017