مناسبة كتابتنا لهذه الورقة تأتي تكريما لروح الفقيدة الأستاذة والكاتبة زهرة زيراوي، معلمتنا الأولى. غير أن غيابها بفعل الموت يبدو كأنه حضور قوي، هي ليست كالأموات، سرعان ما يطويهم النسيان. لأن “أخطر ما في الموت أنه قد يحول فكر يقظا إلى مجرد جسد محنط بلا عنفوان، فيغدو الغياب أقوى من الحضور، وتتحول المناسبة إلى ما يشبه المجاملة والتنميط، من باب اذكروا أمواتكم بخير” . غير أن الكاتبة زهرة زيراوي لم تمت بالمعنى العادي العامي للكلمة، وإنما هي حيّة ترزق، تطالعنا في كتبها الغزيرة، نحن إليه كلما قرأنا مجموعتها القصصية “حنين” ، وقد استهلت هذا العمل البديع بإهداء للعالمين أجمع تقول فيه: “إله هذا الكون.. امنحني القوة على تأمله. إله هذا الجمال.. امنحني القدرة على أن أبتسم في وجه الرعب. إله هذا المكان.. امنحني القدرة على العزلة فهي حبر كتاباتي”. نعم، لقد أخذت الكاتبة بعد أن وافتها المنية عزلة، لكنها لن تكتب بأناملها، بل بأناملنا.
عُرفتْ كاتبتنا بكونها ذات أخلاق نبيلة، وخصال حميدة، وهي فوق كلّ ذلك أستاذة مثقفة، وباحثة رصينة في الثقافة، تنظم صالونات في الشعر والقصة، تحضر لقاءات فنية متنوعة. وأكثر من ذلك تحتضن الكتابات الجديدة، خاصة كتابات الشباب وتوجههم، تقترح عليهم، وتقوم اعوجاجاتهم المنهجية والمعرفية واللغوية. وحسب تواصلي الشخصي مع المرحومة، فإنها لم تبخل عليَّ بتوجيهاتها السديدة، ومناقشتها لأيّ فكرة أو جملة ليست في محلها.
فقد أرسلت لها روايتي الأخيرة “لا تجرب حب امرأة” التي نشرت في دولة مصر الشقيقة، وأرسلت لي عبر بريدي الالكتروني الشخصي تصويبات جمة، لكن للأسف لم تتم تصويبها لعملي نظرا لكونها تعاني من ربو حاد، وربما كان ذلك إشارة إلى قرب أجلها، وفعلا لم تطل المدة فغادرتنا سريعا.
وقبل أن تغادرنا بقليل أرسلت لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي أن روايتي قد نشرت بالفعل في مصر، فكانت فرحتها لا تصدق، وقالت لي “هنيئا أيها الأديب الغالي والشكر لله تعالى أن متعنا جميعا بهذه الإضافة الممتعة لعالم الأدب، أقف لأعانقك، وأهنئك، واسلم أديبا ممتعا، آميـــــــن”.
ها أنا ذا يا أستاذتي، أعانق روحك بعد أن خطفك الموت، أعانقك في كلّ لحظة، وفي كلّ زمان وفي كلّ مكان. ذهب الجسد فعلا، ولم تذهب روحك، فأنتِ كطائر فنيق، ولادتكِ متجددة. فقد قال عبد الفتاح كيليطو “الأموات عادة ما يكونون مصدر معرفة”.
امنحني يا رب القوة حتى أكون كما أرادت معلمتي الأولى، واجعل روحها تنفخ في حروفنا فتتشكل المعاني، فكل شيء يذهب ويزول ويبقى المعنى.
أخيرا، لا تتوخى هذه الورقة الإحاطة بكل مزايا المرحومة زهرة زيراوي، لكنها – على الأقل- تكريم لروحها. إننا نروم من هذا كلّه، السعي نحو ثقافة الاعتراف، وترسيخها لدى القارئ العارف العالم بحق كلّ من علمونا، وكرسوا حياتهم لخدمة الإنسان.
لا يسعني أيضا، إلا أن أقول، لقد فقد المشهد الثقافي في المغرب كاتبة رصينة، ومبدعة لامعة، ساهمت بكتابتها في ترسيخ قيم ثقافية، وكان لها دور فعال في تطوير السرد القصصي والروائي بالمغرب والعالم العربي. فلترقد روحك بسلام، يا معلمتي الأولى زهرة زيراوي. فعلا نحبك، وبشدة، وهنا أعترف أقول لك كلمتين: أُحبّكِ جدًّا.
– هشام الهداجي: “الجابري… كبيرنا الذي علمنا النقد”، مجلة أفكار، عدد 15 أبريل 2017. ص 28.
– زهرة زيراوي: حنين، مجموعة قصصية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة 1، سنة 2007.
– عبد الفتاح كليطو: الكتابة والتناسخ، مفهوم المؤلف في الثقافة العربية، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، ط 2، دار توبقال للنشر والتوزيع، ص 62. سنة 2008.