«نيوم» .. حلم ولي العهد السعودي: مدينة، عملاقة بـ 500 مليار دولار ، واحة لمشروعات تقنية وحياة عصرية 

 

المدينة العملاقة التي تخطط السعودية لبنائها باستثمارات تبلغ 500 مليار دولار هي واحة من المنحدرات المذهلة والشواطئ الرملية والمشروعات التقنية التي تعمل بطاقة الرياح والطاقة الشمسية.
فيها تفوق أعداد الإنسان الآلي (الروبوت) أعداد البشر وتتنوع مظاهر الحياة المدنية الحديثة بين الرياضة والحفلات الموسيقية والمطاعم الراقية.
وليس في تلك الرؤية التي طرحها مقطع فيديو ترويجي عرض في مؤتمر استثماري عالمي في الرياض الأسبوع الماضي أي وجه للشبه بحاضر المملكة الذي أدى فيه «إدمان» النفط إلى اعتماد أفراد الشعب على منح وعطايا الدولة ويحرص فيه رجال الدين الأصوليون على فرض أعراف شديدة التحفظ.
تمثل المدينة أحدث أحلام الأمير محمد بن سلمان( 32 عاما) ولي عهد المملكة الذي ارتقى القمة قبل عامين بعد أن كان شخصية غير معروفة نسبيا في دهاليز السلطة ليصبح وليا للعهد في يونيو .
والأمير صاحب رؤية التحديث شخصية طموحة ومجتهدة يدفعه إحساس بالأسف لأن المملكة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم العربي وأكبر دولة مصدرة للنفط في العالم تخلفت عن ركب جيرانها الأصغر.
وعقب تولي الأمير محمد ولاية العهد طرح خطة لانتشال المملكة من هذا السبات بعد أن ظلت طوال عقود تخضع لحكم ملوك طعنوا في السن.
غير أن طموحاته مطلب صعب في بلد تحكم فيه الأسرة الحاكمة من خلال ميثاق مع المؤسسة الدينية الوهابية شديدة الصرامة وصاحبة النفوذ الواسع التي يقلقها الحديث عن التحديث.
وتلخص خطته الأخيرة لبناء منطقة اقتصادية مساحتها 26500 كيلومتر مربع، أي ما يقرب من مساحة بلجيكا، باسم «نيوم» مدى طموحاته وحجم المخاوف التي تكتنفها.
بعض المديرين التنفيذيين الذين حضروا المؤتمر، الذي وصف بأنه «دافوس في الصحراء»، ظلوا متشككين في قدرة الرياض على تنفيذ مخططها العملاق في ضوء النظام القانوني الذي لا يواكب العصر والبيروقراطية.
ويسلم الأمير الشاب بالصعوبات لكنه عاقد العزم على مواصلة المشوار.
ويصف المشروع بأنه تحد ويقول إن الحلم سهل لكن تحقيقه في غاية الصعوبة.
سلاح ذو حدين

وصف الأمير محمد الشباب السعودي الذين يعول عليهم في تحقيق رؤيته بأنهم سلاح ذو حدين.
وأضاف أنهم إذا اجتهدوا وساروا في الطريق الصحيح فسيجعلون من السعودية بلدا آخر مختلفا تمام الاختلاف، أما إذا ساروا في الطريق الخطأ فسيكون ذلك وبالا على البلاد.
ويخطط الأمير محمد بموجب رؤية المملكة 2030 التي طرحها لخصخصة حصة في شركة «أرامكو» عملاق صناعة النفط وخصخصة أصول أخرى مملوكة للدولة لخلق أكبر صندوق للثروة السيادية في العالم، من أجل الاستثمار في البنية التحتية والمشروعات الصناعية.
وتحت وطأة انخفاض أسعار النفط لجأت الرياض إلى تخفيض إنفاقها ومحاولة إيجاد مصادر جديدة للدخل بعد أن منيت بعجز في الميزانية بلغ 98 مليار دولار عام 2015. وبالفعل انزلقت إلى الركود.
ومن المتوقع أن تؤدي إصلاحات مستقبلية إلى خفض الدعم وزيادة الضرائب وإصلاح نظام التعليم الذي عفا عليه الزمن وتقليص حجم القطاع العام ومنح المرأة دورا أكبر في المجتمع.
ويمثل ذلك تحديا للمؤسسة الدينية المحافظة التي تشكل أكبر خطر على حكم آل سعود منذ تأسيس المملكة قبل ما يقرب من قرن من الزمان.
وقد أصبح رجال الدين أكثر تحفظا في ما يتعلق بانتقاد الأسرة الحاكمة علانية، ففي الشهر الماضي تم احتجاز حوالي 30 من رجال الدين والمثقفين والنشطاء فيما وصفته جماعات حقوقية بأنه «حملة على المعارضة».
وأشادت هيئة كبار العلماء في المملكة بخطة «نيوم» التي طرحها ولي العهد وتعليقاته عن الاعتدال في الإسلام.
تمويل التحديات

كان موضوع المناقشات الساخن في دهاليز المؤتمر هو ما إذا كان الأمير محمد سيحقق رؤيته في تحديث المملكة والتي تعتمد على القطاع الخاص في تحفيز النمو وتوفير إيرادات جديدة للدولة.
وقال رضا أغا كبير الاقتصاديين بشركة في.تي.بي. كابيتال «من المؤكد أن المشروع فكرة مبتكرة. فكرة تنطوي على إمكانيات كثيرة لكن تفاصيل كثيرة مازالت بحاجة للتوضيح».
وأضاف « بخلاف تحديات تمويل وإقامة مشروع بهذا الحجم، فإن طبيعة هذا المشروع الخاصة وغيره من البيانات لا تحقق شيئا سوى زيادة صعوبة التنبؤ بالسياسات السعودية».
وقال شتيفن هرتوج أحد الباحثين المرموقين المتخصصين في الشأن السعودي لرويترز إن المستهدف هو جذب استثمارات مماثلة من القطاع الخاص «حتى تصبح المخاطر المالية على المال العام محدودة إذا لم تحقق تلك الاستثمارات المرجو منها لسبب أو لآخر».
وقال «مخاطر المشروع الرئيسية هي على الأرجح احتمال عدم وجود كبار المستثمرين من القطاع الخاص. فالقطاع الخاص المحلي والدولي سيرغب في سماع تفاصيل أكثر بكثير مما نشر حتى الآن».
جيل أصغر

يؤكد صعود نجم الابن الشاب للملك سلمان تحولا جذريا صوب قيادة أكثر تماشيا مع احتياجات البلاد التي تقل أعمار 70 في المئة من سكانها عن 30 عاما.
فهذه هي أول مرة تنتقل فيها السلطة من حكام في الثمانينات إلى الجيل الثالث من الأسرة التي أسسها ابن سعود الجد الأكبر للأمير الشاب. ولا تزال الكلمة الأخيرة للملك سلمان لكنه منح ابنه سلطات لم يسبق لها مثيل.
وفي أقل من عامين أدخل الأمير محمد الذي يتولى إدارة الاستراتيجيات الدفاعية والنفطية في المملكة تغييرات اجتماعية حقيقية كانت تعتبر من المحظورات حتى عام واحد مضى.
فقد قلص سلطات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كان رجالها يجوبون الشوارع لفرض الفصل بين الجنسين وضمان ارتداء النساء من الملابس ما يغطي الجسم من الرأس إلى القدمين في الأماكن العامة.
كما رفع حظرا على قيادة النساء للسيارات وسمح بإقامة حفلات موسيقية ومن المتوقع أن يعيد فتح دور السينما التي أغلقت قبل 40 عاما.
وفي ظل العاهل الراحل الملك عبد الله شهدت المملكة أيضا حركة بطيئة الخطى نحو تخفيف القيود.
غير أن الجو السائد في العاصمة السعودية الرياض تغير بشكل ملحوظ منذ صعود نجم الأمير محمد، إذ بدأ اختلاط الشباب في الشوارع والمطاعم حيث تنطلق الموسيقى من مكبرات الصوت وبدأت بعض النساء يكشفن شعرهن ويرتدين أثوابا زاهية الألوان.
في السابق كان رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتدخلون لوضع حد للأمر، لكن يبدو الآن أنهم يحجمون عن ذلك.
تعزيز السلطة

أثارت التغيرات الاجتماعية بعض المقاومة من رجال الدين والنشطاء الذين يعترضون على تعزيز الأمير لسلطاته على حساب أمراء آخرين من بينهم الأمير محمد بن نايف الذي كان وليا للعهد وحل الأمير محمد محله.
وكشفت موجة اعتقالات الشهر الماضي عن عدم استعداد الأمير محمد للتساهل إزاء ما يعترض طريق رؤيته من عقبات.
ومازال يتعين عليه إصلاح نظام تعليمي يقوم على أساس ديني واجتثاث الأفكار المتطرفة التي ترفض الأديان والمذاهب الأخرى.
ويقف في جانبه في هذه الحرب الثقافية كثيرون من أفراد جيل الشباب الحريصين على اللحاق بالعالم المعاصر الذي يتابعونه على وسائل التواصل الاجتماعي وعبر القنوات التلفزيونية الفضائية ومن خلال السفر للخارج.
وقال هرتوج «توجد رغبة في قطاعات لا بأس بها من المجتمع السعودي للابتعاد عن سيطرة الوهابية الصارمة على السلوك الاجتماعي والجو العام».
وأضاف «ثمة مقاومة من قوى محافظة لكنها حتى الآن معطلة وغير منظمة».
غير أن مشروعات سعودية عملاقة سابقة كانت تستهدف حفز النمو والتنويع الاقتصادي لم تفلح. فمدينة الملك عبد الله الاقتصادية ومركز الملك عبد الله المالي مازالا خاويين إلى حد كبير.
وأحد المشاريع الناجحة التي يحتمل أن يريد الأمير محمد بن سلمان محاكاتها مجمع «أرامكو» على الساحل الشرقي للبلاد والذي تشبه الحياة فيه حياة الضواحي في الولايات المتحدة، حيث تتمتع النساء بمزيد من الحريات وتنتشر المدارس الأجنبية والنوادي الرياضية والحدائق بما يغري أسر العاملين على الحياة فيها.
ويقول الخبراء إن هذه الاستراتيجية تنشئ في ما يبدو مدنا بديلة تأخذ فيها الحياة طابعا عصريا بينما يجري العمل تدريجيا على تغيير بقية المجتمع دون المجازفة برد فعل من المحافظين المستائين.
وقال الأمير محمد إن هذا المشروع ليس للمستثمر التقليدي بل للحالمين الذين يريدون إنجاز شيء في هذا العالم.
مشاريع عملاقة لا تخلو من المخاطر

من مجسم أسد ثلاثي الأبعاد بتقنية «هولوغرام» إلى روبوتات ناطقة وسيارات أجرة طائرة، أذهلت السعودية المستثمرين بخطط مشاريعها المعتمدة على التكنولوجيا المتطورة، إلا أن المشككين يطرحون تساؤلات بشأن مدى واقعيتها في حقبة تشهد انخفاضا في أسعار النفط.
وكشفت السعودية عن خطط لإقامة منطقة اقتصادية ضخمة أطلق عليها اسم «نيوم» ووصفت بأنها ستكون «سيليكون فالي» على المستوى الإقليمي إضافة إلى مدينة ترفيهية في الرياض على غرار «والت ديزني» ومشروع لتحويل جزر في البحر الأحمر إلى منتجعات فخمة.
وعرضت مخططات المشاريع على 3500 من مدراء الشركات خلال «مبادرة مستقبل الاستثمار» التي وصفت بأنها «دافوس الصحراء» وسعت إلى تصوير المملكة المنغلقة على نفسها بصفتها وجهة للأعمال التجارية.
ولكن تساؤلات جدية تطرح بشأن قدرة السعودية على تنفيذ مشاريع من هذا النوع، الممولة جزئيا من صندوق ثروتها السيادي، في وقت تحاول جاهدة تنويع اقتصادها في ظل هبوط أسعار النفط.
وأفادت مجموعة «يوراسيا غروب» للاستشارات أن «المبادرة طموحة أكثر مما يجب وتنطوي على مخاطر هائلة لجهة التنفيذ ولن تساعد على التعامل بشكل فاعل مع تحديات التوظيف».
وأضافت أن «عرض السعودية المستمر مبادرات وخططا استثمارية جديدة (…) يعطي انطباعا بوجود ديناميكية. ولكن الحكومة ليست لديها القدرة على تنفيذ عدة برامج طموحة في الوقت نفسه».
وقد تمثل المشاريع غير المسبوقة لجهة حجمها ومدى طموحها أعباء تمويلية في وقت تواجه الحكومة عجزا كبيرا في ميزانيتها فيما توقف تقريبا النمو في اقتصاد المملكة غير النفطي.
وأكد آلان لوي من «أميريكان بزنس غروب» أو (مجموعة الأعمال الأمريكية) في الرياض أن الصورة المستقبلية «ضبابية».
وقال لوكالة فرانس برس «لم نر شيئا كهذا من قبل. علينا الانتظار لرؤية إلى أين ستؤول المشاريع».
والمشاريع التي تبلغ كلفتها مئات مليارات الدولارات هي من بنات أفكار ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي برز كرائد لقيادة المملكة نحو توجهات أكثر ليبرالية ومهندس برنامج «رؤية 2030» الإصلاحي واسع النطاق.
وفي محاولته عرض التغيير الذي يتطلع إليه، حمل هاتفا قديما من طراز «نوكيا» بيد وآخر حديثا من طراز «آيفون» في اليد الأخرى خلال قمة مبادرة مستقبل الاستثمار، في مقاربة تلقى صدى لدى جيل الشباب المهووس بالتقنيات الحديثة.
وفي ما يسعى إلى كسب دعم أوساط شباب المملكة، إلا أنه يواجه تحديا حقيقيا في إقناع الشعب بأن إصلاحاته ستؤدي إلى خلق فرص عمل في ظل انتشار البطالة.
وستكون «نيوم» ومعناها «مستقبل جديد» (إذ تجمع ما بين كلمة نيو اليونانية ومعناها جديد وكلمة مستقبل العربية) وتبلغ كلفتها 500 مليار دولار، مركزا للتكنولوجيا الحيوية والرقمية على مساحة 26500 كلم مربع في منطقة مقابلة لمصر والأردن.
وأظهر الفيديو الترويجي للمشروع نساء يركضن بملابس رياضية تكشف بطونهن ويعملن إلى جانب الرجال في مختبرات، في صورة مناقضة للوضع الحالي حيث يفرض على النساء ارتداء العباءات ويحظر عليهن مخالطة الرجال.
وأوضح أن الروبوتات ستسير اقتصاد خدمات المشروع. وفي بادرة تجسد هذا الطموح، منحت السعودية هذا الأسبوع الجنسية لروبوت اسمها «صوفيا».
ولكن شركة «كابيتال ايكونوميكس» للأبحاث أشارت إلى «ضعف» قدرة المملكة على تنفيذ مشاريع كبيرة الحجم من هذا النوع.
وذكرت بمدينة الملك عبد الله الاقتصادية قرب جدة التي كان يفترض أن تنافس دبي كمركز تجاري إلا أن المشروع تأجل عدة مرات.
إلا أن المدافعين عن هذه المشاريع يؤكدون أن الوضع مختلف هذا المرة حيث يشرف ولي العهد الشاب الإصلاحي، الذي بات يمتلك نفوذا واسعا، مباشرة على المشاريع.
وقال الأمير محمد إن القطاع الخاص سيصوغ الإطار التنظيمي لمدينة «نيوم» للتشجيع على الاستثمار، على خلاف مشاريع سابقة لطالما غرقت في البيروقراطية.
وقال الرئيس التنفيذي لشركة سعودية طلب عدم الكشف عن اسمه إن «السعودية اليوم أمام معضلة الدجاجة والبيضة».
وأوضح لوكالة فرانس برس «ما الذي يأتي أولا؟ بالنسبة لنا، إنها الدجاجة،» التي تعني بالنسبة إليه إيجاد البيئة القانونية المناسبة المنظمة للاستثمار.
وسيكون صندوق الاستثمارات العامة في المملكة، الذي يسعى إلى مضاعفة أصوله إلى نحو 400 مليار دولار بحلول العام 2020، المستثمر الرئيسي في المشاريع.
وتعهد مستفيدون من الصندوق من القطاع الخاص مثل الملياردير البريطاني ريتشارد برانسون بالاستثمار إلا أنه لا يزال ينتظر أن يقدم آخرون التزامات ملموسة.
ولكن يعتبر كثيرون أن الطموح الذي يقف خلف المشاريع، التي سعى القائمون عليها إلى لفت أنظار المشاركين من خلال مجسم أسد ثلاثي الأبعاد بتقنية «هولوغرام» ومحاكاة سكة ملاهي سريعة على هامش القمة، على أنه خروج عن المألوف من الناحية الاقتصادية بالنسبة للمملكة.
وقال برايان آكرمان، وهو مهندس مساحات ومصمم أمريكي حضر القمة، «لأول مرة تنظر السعودية ليس إلى ما هو في باطن الأرض وإنما خارجه»، في إشارة إلى ثروة المملكة النفطية.
وأضاف «ليست الجبال والمحيطات والسيارات بلا سائق والروبوتات هي ما يثير فضول ويحفز الإلهام، بل الرؤية. إن القيادة (السعودية) تقول: ‹هيا، استقلوا هذا القطار.› إنها الخطوة الأولى».


الكاتب : الاتحاد - وكالات

  

بتاريخ : 31/10/2017