المنظومة التربوية التكوينية وأزمة وظيفة المدرسة

من البديهي القول، إن الوظيفة الأساسية للمنظومة التربوية ببلادنا باتت تتخبط في العديد من الإشكالات الجوهرية التي تشل حركتها وتكبح نهضتها وتؤجل فرحة نجاحها في سياق الإصلاح المنشود، هذا الإصلاح الذي عانى من ويلات التذبذبات بين الرفض والقبول ثم الإعلان وبعدها الإلغاء.. هو إصلاح بئيس ما انفك المتتبع للشأن التربوي يترقبه كأنه هلال الشهر الثالث عشر!

ولا غرو أن أبرز هذه الإكراهات التي تلازم أزمنة الإصلاح التربوي تتلخص في صعوبة منح الأفراد فرصة اكتساب القيم والمعارف والمهارات التي تؤهلهم للاندماج في الحياة العملية؛ تساوقا مع أفكار (جون هوساي Jean Houssaye) عن المدرسة والحياة العملية، إذ لا يختلف اثنان في كون إصلاح النظام التربوي يرتبط ارتباطا وثيقا بإصلاح المجتمع، وهناك إجماع شبه تام في كل المجتمعات بشأن قيمة المدرسة اعتبارا لوظيفتها التربوية والتعلمية، ولكونها أيضا « قناة للمعرفة ونقيضا للأمية» 1 والجهل كما تقول الباحثة السوسيولوجية (رحمة بورقية)، وطبعا، لن تستقيم الحياة المجتمعية عامة والتربوية خاصة في غياب إصلاح جذري لوظائف المدرسة راهنا.
لكن الرائي المتفحص لهذه الوظائف يلحظ بالملموس أنها تنصهر في بوثقة واحدة؛ ألا وهي تلقين المعلومات وتخزينها وحفظها في الذاكرة إلى حين استظهارها يوم الامتحان، أو ما ينعته المُنظّر البرازيلي (باولو فريري) ب «التعليم البنكي» الذي يقوم فيه المعلم بإيداع المعلومات التي تحتويها المقررات «سابقة التجهيز» 2 في أدمغة المتعلمين الذين يقتصر دورهم على التلقي السلبي لتلك الإيداعات، لا أقل ولا أكثر. وصار المجتمع المدرسي بجميع مكوناته يؤمن بهذه «الوظيفة الكلاسيكية اليتيمة» للمدرسة وهي أضعف الإيمان في الفترة المعاصر للتعليم المغربي، بل ويركز عليها أيما تركيز. فلا نستغرب، والنتيجة هذه، من أول سؤال أو استفسار يطرحه زائر رسمي لمؤسسة تربوية عندما يدلف حجرة الدرس، مفاده «وريني الجذاذات» أو ذاك السؤال الذي لا يحتاج إلى جواب في منطقه الداخلي والذي يصوغه أب منفلت للتو من قبضة تعب العمل اليومي، يطرحه على مضض أمام ولده « أش قراوكم في المدرسة؟؟»، أو تلك النصيحة المبتذلة التي ترشق بها أم غارقة في دهاليز العمل المنزلي ابنتها على هذا المنوال :»هزي كنانشك أوحفظي» .. رغم أن البنت ساعتئذ تستمتع بأغان، مع الأسف شرقية تارة وغربية، تشنف آذانها عبر «الكيت» الذي لا يفارقها.. كل هذه الممارسات النشاز تضرب بالجوانب الخفية من شخصية الطفل/المتعلم عرض الحائط، في غياب موحش للمصاحبة الأسرية الإيجابية، وانعدام بيّن للتوجيه البيسكواجتماعي بالمدارس العمومية بوجه التحديد، فضلا عن اندثار معالم ما كان يسمى بالأنشطة التربوية الموازية؛ كالمسرح على سبيل المثال لا الحصر.
والغريب في الأمر أنه حتى على مستوى المصالح المركزية في هرم المنظومة التربوية، فقد أصبحت الأجهزة المكلفة بتقييم الأداء العام لمخرجات العملية التربوية برمتها، تربط نجاح المؤسسات التعليمية بمدى امتلاك التلميذ لأكبر قدر ممكن من المعلومات وحفظ المعارف المدرسية عن ظهر قلب، ويتبدى ذلك جليا في اختبار المكتسبات المدرسية التي تعج بالممارسات الديداكتيكية الغارقة مبادئها في النظرية السلوكية؛ حيث تخاطب الذهن وتغفل الوجدان، فنجد أول سؤال تعليمي يتربع على عرش الاختبارات الموحدة للسنة السادسة ابتدائي مثلا هو: ضع وأنجز بلغة الرياضيات، واكتب من قوله تعالى بنفحة الدين، واذكر عناصر الدارة الكهربائية بخطاب علمي، وبماذا تذكرك سنة «كذا وكذا» بتوجه تاريخي… وبالتالي يتحول المدرس من ذلك الإنسان المربي الذي يزاوج بين مهمة التدريس وتربية النشء، وهو ذلك المدرس الممارس_المتأمل الذي يعقلن الممارسة البيداغوجية على حد تعبير (شون Denald Schon)، إلى مدرس منشطر التوجهات، « تتحدد هويته المهنية بالتحكم في المعارف التي يمررها إلى التلاميذ» 3 أو ما أضحى يسمى ب» المدرس الإبستيمي» همه الوحيد شحذ الأذهان بالمعارف والمعلومات والتسابق نحو خط الوصول قبل متم شهر يونيو والانفلات من السجن المهني.
لكن هذه الصورة المقلوبة لأوضاع المثلث الديداكتيكي لا تمنحنا سلطة الجزم بتخلي البيداغوجيا المعاصرة عن مقولة «السلطة البيداغوجية»، رغم قيام طرقها الفعالة على التقليص من دور المدرس ونقل المعرفة. لقد «احتفظت هذه البيداغوجيا لنفسها بنوع معين من السلطة، التي أطلق عليها (أولفيي روبولOlivier Reboul ) سلطة المدرس الخبير Le maître expert 4 الذي يمارس سلطته الديداكتيكية كخبير يساعد التلاميذ ويقدم التفسيرات والشروحات التي يطلبونها، ويقدم المعلومات والمفاهيم الضرورية.. وهي سلطة وظيفية تجد مشروعيتها داخل حاجات التلاميذ ومطالبهم 5 سواء النفسية أو المعرفية.
والمعروف بيداغوجيا أن المدرسة الحديثة لم تعد تقتصر على التلقين المباشر بل يتعداه إلى اكتساب ملكة التفكير الموجه للسلوك والعلاقات الاجتماعية التي ينسجها الفرد مع الآخر، وتمكين المتعلم من تملك القدرة على الاختيار الحر بفكر نقدي وعلى توظيف العقل والحجة بملكة الحكم على الظواهر والأفكار والمعلومات الغزيرة في عالم يشهد حراكا معلوماتيا لا يهدأ… وهنا مكمن الداء الذي يعاني منه جسد المنظومة التربوية والتكوينية ببلادنا. لذات السبب قد نتفق مع الدكتور أحمد أوزي في ضرورة «إكساب التلاميذ المعارف المتسمة بالجدّة والأصالة، لأن ذلك يعد أهم العناصر التي يمكن أن تساهم في إعداد القوى البشرية وتزويدها بالكفايات اللازمة حتى تحتل موقعا إيجابيا وفعالا في مسيرة التنمية الشاملة.» 6 فكيف، إذن، يستساغ لنا الحديث عن تزويد المؤسسات التعليمية المجتمع بالكفاءات من المؤهلين والعاملين الصالحين، مشيا على إيقاع الميثاق الوطني للتربية والتكوين، في ظل الفراغ البيداغوجي الذي تعرفه الساحة التربوية بعد إقبار مشروع بيداغوجيا الإدماج، دون الإتيان بنموذج/بديل آخر يساير أفكار بيداغوجيا معاصرة، نريدها، كمدرسين، أن ترتكز أكثر على الفكر العلمي والتركيبي الذي تحدث عنه الفيلسوف التربوي «إدغار موران» في كتابه ( Introduction à la pensée complexe)، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في عصر العولمة.
ما يندى له الجبين حقيقة، وبعيدا عن النموذج البيداغوجي هو شيخوخة المناهج الدراسية وتقادم البرامج والمحتوى أيضا، حيث تعطلت عجلة تأليف الكتب المدرسية الجديدة لأسباب واهية، تترجم بجلاء مزاجية القائمين على هذا الشأن، هذا بالإضافة إلى عقم الأدوات الديداكتيكية التي تعود إلى أزمنة خلت كانت فيها الطبشورة شهرزاد وسواد السبورة شهريار، في الوقت الذي نشهد فيه تطورات مبهرة في دول أخرى من المعمور؛ حيث تكنجة التعليم حاضرة بقوة وبالملموس، وليست فقط في ملفات مزركشة و»سيديهات» توزع على المدرسين كأنها قطع الشكولاطة.
لن نتحدث عن أزمة وظيفة المدرسة دون النبش في مسألة اللغة، حيث تصلنا دوما أصداء الندوات واللقاءات والمؤتمرات التي تخرج في الغالب بالحتمية ذاتها وبالنتيجة المرّة عينها، ألا وهي الضبابية التي تلف اختيار لغة التدريس التي تلائم الطفل/المتعلم المغربي، وهي تلك اللغة التي لم نعد، نحن منفذو المنهاج الدراسي، نعرفها حق المعرفة، لكن، ومع ذلك، فإننا نريدها أن تزاوج بين مبدإ ترسيخ الهوية المغربية الحضارية والوعي بتنوع وتفاعل وتكامل روافدها، وبين مبدإ التفتح على مكاسب ومنجزات الحضارة الإنسانية المعاصرة. وحين ندقق النظر في المبدئين بمسارين متلازمين يتراءى لنا الأفق، أي نعم، لكن بلوغه يبدو عزيز المنال؛ فحضارتنا تنهل من ثقافة أمازيغية ضاربة جذورها في عمق تاريخنا، وثقافة عربية تثوي خلفها عقيدتنا الإسلامية، دون إغفال الدور الحساس لوضع اللغة الأجنبية في خريطة التعلمات المدرسية، وبخاصة الإنجليزية التي فرضت نفسها كقوة اقتصادية لا تزعزعها أي لغة أخرى على وجه البسيطة، وهي التي تفتح، بدون ذرة شك، أمام الطالب آفاقا علمية لا حدود لها، أما اللغة الفرنسية فلم تعد براقة ومبجلة كما كانت في السابق، ولم تعد تعطينا الإضافة اللازمة حتى في سلم الترقي الاجتماعي أما الاقتصادي فحدث ولا حرج.
صفوة القول، للتخلص من شبح أزمة وظائف المدرسة صار لزاما إعادة النظر في مجتمعها، باعتبار أن المدرسة تشكل «مجتمعا فعليا يكفي الشعور فيه بالمسؤوليات وقيمة التعاون لتربية الأطفال دون اللجوء إلى عزل التلميذ لوحده بدعوى تفادي الالزامات المضرة به أو مخاطر التنافس»7 الشيء الذي يزج بالعمليات التربوية في نفق الممارسات الشاذة التي لا تحمد عقباها. كما يجب إعادة النظر في الفضاء المدرسي حيث أصبح من الضروري أن يكون مجالا للكينونة « لا مجال يفرض على المتعلم والمدرس من الخارج، وهذا يعني توفير كل إمكانيات التواصل» 8 الجيد مع أفراد المجتمع المدرسي.
رغبة في أن نكون أكثر أجرأة، أعتقد جازما أن الحل الأمثل للخروج بوظائف المدرسة الحديثة من عنق الزجاجة يكمن أساسا في التركيز على الأركان الأربعة التي نادى بها تقرير اللجنة الدولية لتربية القرن الواحد والعشرين (1996) وهي «نتعلم لنعرف» و»نتعلم لنعمل» ثم «نتعلم لنعيش» وبعده «نتعلم لنكون»، ويكفي أن نخلط العناصر الأربعة جيدا لنستخلص عصارة أشبه بإكسير حياة لمنظومتنا التربوية التكوين العرجاء ووظائف مدرستنا العليلة.
*باحث تربوي –إمنتانوت


الكاتب : ذ /جمال الحنصال

  

بتاريخ : 12/04/2017