صدر قبل ثلاث سنوات ديوان شعري للراحل هيثم أشتيب تحت عنوان” إن سألوك عني”.
الديوان يقع في مئة وثلاث عشرة صفحة، أما عدد القصائد فتقع في ثلاثوعشرين قصيدة، تدور مضامينها في سياقات مختلفة (الموت، الحكمة، اليأس، الأمل…). وقد أشرف على إخراجه إلى الساحة الأدبية أفراد عائلته وبعض المحبين للمرحوم، والذي ترجل شابا يافعا نحو السماء. وهو عبارة عن ديوان كتبت قصائده على مراحل، جسدت تجربة الشاعر الوجودية، وعثرات الزمن التي غلفت مساره. والأسئلة التي أحاطت بتأملاته.
صورة لديوان الشاعر الأول “إن سألوك عني»
اعذرني يا أخية
فإني ذاهب
كانت هذه الكلمة، إيذانا صريحا من طرف المؤلف بقرب الرحيل، فكانت الهمسات المقبلة عزفا على قيثارة الرحيل أيضا، فرغم الانزلاقات المستمرة نحو كسر حتمية القضاء، إلا أن العودة للنقر على وتر الفناء كانت مصاحبا له، فنجده يقول:
أرحل
أرحل
أوظب حقيبة السفر
لقد رحل الشاعر وحمل همس المرايا العاكسات لشحنة التأثر التي ساقها معه في إطار انكبابه على قراءته للشعر، فساق سؤالا من حقل نزار للتعبير عن مكنون عجزت لغته عن نقله، فأخذ همس نزار وتساءل: «أعدل في هذا القضاء»، فلم يستطع حقل نزار الواسع المتشابك حل المعادلة، فأرجع الهمس إلى السياب، فردت الإرسالية ببصمة أزلية قائلة، قل لهم «إن سألوك عني»، وها نحن الآن نسأل عنه لكن بقدر مشترك، فقد سأل هيثم عن السياب وهو في مرثاه، وسألنا نحن عن هيثم وهو في مرثاه، كأن القدر شابك بين العصفورين وغرد.
لقد كانت علاقة الشاعر بالشرق علاقة وجودية ملتحمة، جسدتها قصائده التي تعزف دوما على مراثي المشرق وعبق رجالاته ونسائه، فتمنى لو كان بوده أن:
أشتري سريرا جديدا
يتسع لكل الشرقيات.
إن علاقة الشاعر بعالم الشرق وافتتانه بالصور الشعرية المشرقية المرموقة التي صار الشاعر عليها في نسج معالم قصائده، جعلته نسخة من واقع الأمس لكن بجسد وروح اليوم، فرغم أن دواخله كانت في توق للرحيل نحو جنة المراثي:
سأرحل
فالريح من ورائي
انكسرت
إلا أن تعلقه بواقع الأرض والتربة (الغرب) لم يكن ليفارق روحه الهائمة في قلب عواصف الزمن، وتغيرات المحيط، فالشاعر على موعد، إلا أن الحنين يكسر تنهيدة جرأته باعتراف:
أحبك أنا يا سيدتي
في سري وجهري
تميزت الأفكار المرسلة بين السطور المتناسقة الدقيقة المبنى، والقليلة الكلمات، بحمولة تعبيرية قوية، مزجت بين الطموح المأمول والواقع المرسوم. فأثثت لنوع من التضاد القائم في الصورة المرسومة:
يصلي ست مرات
ويؤدي زكاته «بسرية تامة»
إن هذا التضاد عكس لنا الطموح المرسوم لدى الناس «أداء الناس للصلاة، إعطاء الزكاة»، وتجسيده المعكوس على أرض الواقع من طرف البعض «بسرية تامة، ست مرات»، فكأن الشاعر يحيل إلى ظواهر كبيرة عبر ضغط المعاني في قوالب صغيرة صغيرة.
فأنا قلق من أن يعرف الحاكم الجديد
أنني سفاح
كان القلق والخوف واليأس التيمة الغالبة على المضامين، سواء ارتبط الأمر بما يتعلق بكوامن بالشاعر «أنا قلق»، «أمضي»، «أرحل»، أو ما في ما يتعلق بالقيم والمجتمع والمحيط «غزة»، «مقصلة»، «أعدموها»، «اعذرني»، كأن الشاعر من خلال هذه الدفقات يثيرنا إلى عدم رضاه بالواقع، ويتمنى أن يكون:
فمن ذا الذي لا يريد
مشاهدة سناء القمر نائما
أما على مستوى المعجم المكاني، فإنه توزع على ثلاثة حقول رئيسية، الشرق: القدس، الشام، غزة، المسيح؛ الغرب: إسحاق انيوتن، روما؛ المغرب: عباس ابن فرناس.
تطغى الألفاظ الدالة على المجال المشرقي في القصيدة، لتحيل إلى ميول كبير نحو عالم الشرق بل وتؤكد إلى تأثر كبير به.
أما في ما يخص معجم المشاعر والانفعالات، فقد انحصرت في معجمين رئيسيين، اليأس: اليأس، تهجريني، النحيب البكاء، واقعي، تيه، حاكم…..؛ الأمل: الصبر، اللقاء، أبني، حلمي، سأولد…ويطغى معجم اليأس على الديوان، ليؤكد حالة الشاعر المنكسرة الحزينة، الرافضة لما صار عليه الواقع والقيم، والمتأملة لميلاد غد جديد، ولو قلت فيه آمال الميلاد.
أرحل في ليلي هذا
عائدا إلى منفاي
لم يخطئ القدر، بل كان الموت متربصا بشاعرنا كما شعر وأحس، وهل له من بعد الإحساس مفر؟ أيقن شاعرنا المصير الذي ينتظره، فأثث لهذه المراثي، وترجل:
عائد إلى منفاي
المعلق
اعتمد الشاعر لغة رمزية بسيطة، ذات إيحاءات عميقة، ومعاني سلسلة مدركة، ناقدا فيها للواقع المعكوس، إلا أنها بالرغم من ذلك تميط اللثام عن معان لا تدرك إلا بالقراءة العميقة، بل النظرة الشمولية.
هذا هو هيثم أشتيب، الطالب بجامعة عبد الملك السعدي كلية الحقوق بتطوان، الطالب المجد الذي غزلت أنامله مراثي أكبر من سنه، وسمحت له فطنته المبكرة في نقد واقع أكبر من أفقه، فلم يمهله القدر في المزيد، بل أوقف عبقه المُرَاقي سنة 2011م، كما أحس هو بلا نظر.