تقدم أضمومة “وقّع امتداده.. ورحل” الصادرة عن منشورات الصالون الأدبي سنة 2009 للمبدعة السعدية باحدة ، مشاهد عديدة تعبر عن الوهن والقنوط والإحباط والمرارة والضياع ،كما تعبر عن الزمن العبثي المغلق ‘واليأس المستشري في أوصال المجتمع جارفا مع أمواجه الملوثة الناس والأيام ؛
هذا العبث الذي يطل برأسه من أبدان الشخصيات ،في رحلتها باتجاه الضياع … إننا أمام لوحات تعبر عن مصائر إنسانية و صراعات مريرة تخوضها شخصيات نكرة ،تكافح من أجل مبادئ ما فتئت تمحي ، وكرامة باتت تداس ومشاعر صارت تفتقد ..وأمام مشاهد لأرواح في عراكها اليومي مع الواقع واللاواقع .علما أن العلاقات الفاشلة غالبا ما تقود إلى توليد تيمات أخرى بؤروية تتمثل في البحث عن الهوية وسط عالم تداعت أركانه ورموزه وقيمه .. عالم مسكون بالالتباس ، وموسوم بالاندحار والتراجع.
واشتغالنا سيتمحور حول تحليل عنوان الأضمومة باعتباره يساهم في بناء المتخيل، وإثراء الأبعاد والمستويات السردية عبر تكثيف الجمل وإغنائها بتوهج حسي مرفوق بانفتاح على الموقف الذي يراد تبئيره أو إبرازه.
وسنقوم بإنجاز مقاربة شاملة ومفصلة، لهذا العنوان، مع الإشارة إلى ميزة استفردت بها الأضمومة. وهي أن العنوان الرئيسي للمجموعة ــ التي تضم ثلاثة وثلاثين نصا ــ مستمد من قفلة قصة (غصة) ص45؛على خلاف ما هو سائد حيث يكون عنوان المجموعة في نفس الوقت عنوانا لقصة ضمن هذه المجموعة .
يمتلك عنوان “وقع امتداده..ورحل “سمكا دلاليا، فهو يتضمن العديد من الدلالات ، بالإضافة إلى أنه يمثل المجموعة، كما أنه يمتلك وجوده الخاص، وكينونته المتميزة. فقد أتى جملة تامة بالرغم من غياب بعض العناصر التي يمكن إبرازها ليصبح على الشكل التالي: “وقع الرجل امتداده في المرأة لفترة من الزمن ورحل “.
تمنحنا الجملة الممتلئة بفعل التأويل ، فرصة القبض على ما تختزنه من دلالات ؛إننا أمام جملة :
ـ ذات فعلين متلازمين ، يرتبط كل منهما بالآخر ارتباطا وثيقا ، ولا يحصل على كينونته وامتلائه إلا
بهذا الارتباط ؛
ـ أن الفعلين لا يملكان إلا فاعلا واحدا ،ينهض بالفعل ولا يتأثر به؛
ـ أن المفعول به واحد ؛
ـ أن الرجل هو الفاعل (الضمير المستتر)، وأن المرأة هي المفعول به الذي لم يكن لا ظاهرا ولا ضميرا متصلا ؛
ـ أن الرجل موجب وعنصر ذو تأثير، وأن المرأة عنصر سالب يتأثر فقط ؛
ـ أن الفعل الأول جاء مضعفا ،مما يؤكد على قوة تأثيره وعنفه، فالتضعيف ومخارج حروف الفعل تمتلك هذا الجرس، وتمنح الأذن إيقاعا شديد الوقع.
وإذا أضفنا أن التضعيف طال المفعول به ،تبين لنا ترسخ العنف المنطوي عليه.
زد على ذلك أن فعل”وقّع”، يحمل أيضا طابع السلطة والتسلط وطابع إيقاع العنف ،عنف الفعل في المفعول به ، يسمه بميسمه ، ويجعله يحمل أثره ، أما المفعول به ، فيشتمل على تاء المطاوعة التي
تبين مدى الاستعداد لقبول الفعل القوي، واستضماره.
فالفاعل يوقع ويمد توقيعه ، والمفعول به يستجيب، ويستقبل التوقيع الممتد، بكل طواعية واستسلام، في غياب أي رد فعل يظهر المقاومة والرفض. وعليه فإن الامتداد المرتبط بضمير الغائب، العائد على الفاعل المستتر، الذي هو هنا ، الرجل، لن يكون إلا البذرة التي قذفها في رحم المرأة؛ هذه الأخيرة التي استقبلتها وحضنتها حتى استوت شبيها لفاعلها لا لمفعولها. وهكذا ستصبح أداة إدانة ستحملها أمام الجميع في لحظة غياب الفاعل الإرادي والحقيقي.
وهنا، سندرك أسباب غياب هذا الفاعل في الجملة ــ العنوان ــ وكأن الفعل أتى من مجهول، ويتضمن رغبة في إدانته لكونه قد يكون فعل أي رجل يرتكب جريمته ويتوارى عن الأنظار خوفا من التبعات ،خاصة وأن الفعل الثاني في الجملة “رحل” قد أتى للتعبير عن شجب الهروب وإدانة الفعل المهين.
إنه فعل مخفف من كل علامات التضعيف أو المد الحاضرين في الكلمتين اللتين تسبقانهما؛ وبناء على ذلك، نجد الفاعل يحاصر الجملة بفعلين، هما المبتدأ والمنتهى. أضف إلى ذلك ،أن فعل “رحل” أتى لازما، بخلاف الأول المتعدي، ف”وقّع” جاء متعديا لأنه في حاجة إلى مفعول به ليتحقق، وبه تحصل الرغبة ويتم الفعل ،إن كينونته بحاجة إلى طرفين، لا يمكن أن يكون إلا لهما؛ أما الثاني فهو لازم لأنه مرتبط بالفاعل فقط، في غير ما حاجة إلى مفعول به ،قد يعيق قيامه بحركته التي ينبغي أن تكون خفيفة.
كما أن الفعلين معا يرتبطان بالمكان ،إلا أن الأول يرتبط بمكان واحد ضيق ،لا يمتلك امتدادا كما الدلالة، لأنه مقتصر على الرحم كفضاء أنثوي خاص، في حين ، أن المكان الثاني قد ارتبط بالرحب الواسع، رحابته تمكن الفاعل من حرية الحركة ومطلق الفعل ،بانتظار توقيع آخر بمكان جديد. إنه مكان جغرافي طبيعي غير مقيد بحدود، مما يسمح بالتنقل الحر والفعل غير المشروط .
بناء على ما سبق، نجد أن العنوان قد قدم لنا ثلاثة مشاهد، وهي كالتالي:
ـ مشهد توقيع الامتداد.
ـ مشهد حصول الامتداد.
ـ مشهد الرحيل.
ويترك لنا حرية بناء المشهد الرابع المضمر، ألا وهو حيرة المرأة أمام أنظار المجتمع ،لحظة غياب الجاني.
إن المشاهد السالف ذكرها تؤكد لنا حضور جدلية الاتصال والانفصال، اتصال الذاتين في لحظة عبور، وزمن عابر يتحقق بواسطته التوقيع وتسجيل الامتداد؛ ولحظة الانفصال الذي يشير إلى الغياب الماثل في فعل الرحيل. إنه انفصال عن الجسد الذي التحم به ،أولا، والرحيل عن المكان الذي يعبق بالفعل الإجرامي ،ويشير بأصابع الاتهام له. إنه يبتعد عنه لكسر أصابع الاتهام بجعلها تمتد إلى الضحية التي تحمل علامة إدانتها ،في مجتمع ذكوري لا ينظر إلى الجاني قصد محاكمته، بقدر ما يتهم المرأة لأنها الأرض الخصبة التي تحمل أثر الفعل.وهنا نواجه بصرخة قوية يرسلها العنوان ،صرخة إدانة للمؤسسة والمجتمع والثقافة التي تدين الضعيف وتقف إلى جانب الجاني لقوته وجبروته،فطالما بقيت هذه الثقافة باسطة سلطانها على المجتمع ،ستبقى المرأة ضحية تحمل وزر وتبعات أعمال مشينة ،لجناة أحرار يوقعون امتداداتهم ويتباهون بفتوحاتهم بطلاقة وحرية دون حسيب ولا رقيب ،أمر سيؤثر لا محالة على حاضر ومستقبل المرأة والمجتمع.
المقاربة المفصلة للعنوان
1) أنواع الحذف / الإضمار ووظائفه:
أ / الحذف المضموني:
ونعني بذلك حذف محتوى العنوان وتكسيره ،بحيث إن مضمون العنوان يحقق مضمونا يتراوح بين البوح والكتمان،ورغم أنه لا يمكن لجملة واحدة مهما كثفت من معناها ،أن تعبر عن أحداث وأفعال عديدة؛فقد يوحي العنوان بالاكتمال .. فالفحص يبين أن هناك حذفا مضمونيا، تظهره نقط الحذف الفاصلة بين “امتداده…ورحل”. إن نقط الحذف تخلق فجوة مضمونية تثير المتلقي وتدفع به إلى تخوم التأويل المشبعة لنهمه وإشباع امتلاء الجملة.
ب / الحذف النحوي:
وهو حذف يظهر على المستوى النحوي، فهناك بالفعل ثغرات خلفها الحذف ،أو بشكل أبين الإضمار، أملته ظروف تدقيق العنوان ،وتشذيبه من كافة الزوائد، بحيث إن الفجوات النحوية ،هي شكل لغوي مواز لفجوات نفسية صادمة للمتلقي، ذلك أن إضمار الفاعل والمفعول به والفعل الجامع بينهما يحث القارئ على استبيان الأسباب، والتي ستقوده حتما إلى الإجابة الصادمة بعد القبض عليها خاصة وأن عنوان الأضمومة ماهو إلا قفلة لنص من نصوصها، يدفعه فضوله إلى استعادة النص طلبا لتلك الأجوبة الحارقة.
يقود الحذف إلى نوع من الإبهام والغموض الوظيفي المقصود من طرف الكاتب وهو نوعان:
ـــ لازم: يعدد المعنى ويعطيه فرصا عدة للتأويل.
غير لازم: وهو الذي لا يعطي فرصة للتأويل، ويحصر المعنى، منذ البداية ،في ما حدد سلفا في القواميس.
والعنوان المدروس ينحو باتجاه الغموض اللازم، بقصد استثارة المتلقي وإيقاظ بعد التأويل لديه.
وهكذا، نجد أن الحذف المتحقق هو حذف نحوي ومعنوي من منظور بلاغي، يخلق ثغرة تشع بالغموض ورسم فجوة على المستوى الظاهر، وعلى المستوى النفسي للقارئ الذي تعود أن يجد أجوبة أولية.
2) النمط الجملي:
تميز العنوان بكونه جملة طويلة كاملة تحاول أن تستوفي معنىً تاماً يفهمه المتلقي ،رغم الإضمار والحذف الحاضرين فيها.وقد وسمت هذه الجملة بسمات منها:
ـــ المكون الفاعل :
حيث جاء العنوان حاملا للفاعل الذي قام بالفعل، وبالمفعول به الضحية التي استقبلت الفعل وحملت أثاره. إن الفاعل جاء شخصية مبأرة ورئيسية ارتبطت بها الشخصية الثانوية وانفعلت بفعله وأثاره.
ـ المكون الزمني:
تضمن العنوان معلومات عن الزمن،فالفاعلان الحاضران يبينان ذلك من خلال زمنيهما وهما الماضي ، غير أنه ماض له امتداد في الحاضر والمستقبل، إنه زمن يحيل إلى التأزم ويحبل بتناقضات تمتد وتحول إلى تخييل يظل موسوما بأهم علامات الزمن.
ـ المكون المكاني:
تضمن العنوان المكان كفضاء أو مسرح للأحداث، وقد جاء بصورتين:
ـ صورة المكان الغلق الخاص ،ونقصد به هنا ،الرحم كفضاء أنثوي بامتياز،وأحد العلامات التي ستكون أداة إدانة.
ـ صورة المكان المفتوح ، وهو العالم بكل رحابته وغياب حدوده،لأن الفعل “رحل” غير مقيد بمكان محدود،ففعل الرحيل سيظل مفتوحا مادام غير مُؤطَّرٍ بحدود تقيده وتعينه.إنه اللامكان؛لأنه ظل بدون تأطير جغرافي …
إن المكان في العنوان شكل أهمية ذات دلالة قصوى، فهو المسرح الذي سيشهد الأحداث ويبين أثرها على الشخصيات .أحداث لا يمكن نعتها إلا بالمشينة والتي ستطبع أحداث الكثير من نصوص الأضمومة.
ـ المكون الحدثي:
يتضمن العنوان أحداثا تطغى على هذا المكون ،فهو يستوعب باقي المكونات الأخرى،وينطوي على حدث في حاجة إلى تحويل أو تأويل،وتنقسم الأحداث إلى:
**أحداث دينامية:
وهي التي تترجم تحولا في الوضعية،أي نوعا من الحركية،ولعل فعل “رحل” خير معبر على هذه الحركية.
**أحداث ستاتيكية:
وهي التي تترجم وضعية أو حالة نفسية،وهي تلك التي ستشعر بها المرأة بعد فعل التوقيع،وستضطر معها إلى التفكير في المآل الذي ستتمخض عنه قضية التوقيع،رغم أن العنوان يوهم بتلك الستاتيكية، عبر ترجمته لوضعيات مختلفة،فإنه ديناميكي، لأن التوقيع سينجم عنه حمل،والحمل يمر بأطوار قد تبدو للوهلة الأولى ستاتيكية، إلا أن لها عمقا ديناميكيا لأنها انتقال من حالة إلى أخرى غير مشابهة ،فضلا
عن أن المشاعر المصاحبة ستتلون بهذا الانتقال وتطبع بطابعه،وستحمل في طياتها الكثير من المشاعر المتضاربة ،الفرح/القرح ــ الإجهاض/الإبقاء …
3) بعض سمات عنوان الأضمومة:
لقد أتى العنوان نوعيا، غير متشابه مع عنوان آخر، وهي مسألة اعتباره اسما دلاليا خاصا، جعله متفردا يحمل سمات الجنس الأدبي، وسمات التحول . كما جاء واضحا دفعا لكل ما يميع الدلالة، وهو وضوح عمودي ،غير متكامل، أي أنه أتى موزعا على مجموعة دلالات وتأويلات تتقاسمه بفعل الحذفين المضموني والنحوي.
إضافة إلى أنه حقق وظيفة نصية ،فهو البهو الأول الذي منه يتم الولوج إلى النصوص،لم يوضع اعتباطا ،وإنما أطرته خلفية ثقافية عامة، تحدد قصديته الحقيقية ،رغم أنها قصدية مراوغة ،وإن كانت ترتبط بوظيفتي الإيضاح والحدوثية. فالمرسل للعنوان ،يقصد في شكله المركب ،وبتلك االهيئة النحوية: إعطاء وظيفة معينة يتوخاها الكاتب الذي لا يضع العنوان إلا وقد حدد له وظيفته المتقاطعة،ورؤيته المؤسسة داخل الأضمومة.
وهكذا يحقق العنوان وظيفة ،من جانب أول ،كوعد ستتكفل النصوص بالإجابة عنه ،ومن جانب ثان، فهو عنصر افتتاحي لأنه مفتاح تأويلي ،يسعى إلى ربط القارئ بنسيج النصوص الداخلية،ربطا يجعل من العنوان الجسر الذي يمر عليه ،ومن هذه الزاوية يقوم العنوان بإبراز الدلالات وتقريب المقصدية وتعريف مرامي النصوص، وإتمام اللمسات الهامة لإكمال تشكيل اللوحة النصية .
إجمالا ،يتميز العنوان بمجموعة من السمات ،لعل أهمها:
ـــ انزياحه عن العناوين التقليدية المباشرة (حيث شكل قفلة قصة في الأضمومة).
ـــ الإيهام الذي يؤسس غواية وتأويلا مغايرا.
ـــ شاعرية تتأتى من صوغ الجملة وما تحمله من اتساع دلالي.
المرجع: هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل – دراسات في الرواية العربية