أعطى الدستور الأمريكي مجلس النواب حق اتهام رئيس الجمهورية والوزراء «السكرتيرين» وجميع الموظفين الفدراليين المدنيين وذلك في تهم حددها الدستور. هذا الإجراء الذي أخذ عن العرف الإنجليزي يطلق عليه اسم impeachmentوكان من الممكن أن يساعد على تحويل
النظام الأمريكي إلى نظام برلماني لو تطور بنفس الصورة التي تطور بها في إنجلترا.
أعطى الدستور الأمريكي مجلس النواب حق اتهام رئيس الجمهورية والوزراء «السكرتيرين» وجميع الموظفين الفدراليين المدنيين وذلك في تهم حددها الدستور. هذا الإجراء الذي أخذ عن العرف الإنجليزي يطلق عليه اسم impeachmentوكان من الممكن أن يساعد على تحويل
النظام الأمريكي إلى نظام برلماني لو تطور بنفس الصورة التي تطور بها في إنجلترا.
أثارت التطورات الأخيرة في ملف روسيا غيت ردود فعل كثيرة، وزادت نقاط الاستفهام حول المستقبل السياسي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حجما.
ومن الواضح، أن نية إلحاق الضرر بالمرشحة الديمقراطية السابقة هيلاري كلينتون، تثير تساؤلات حول المسؤولية الجنائية للرئيس الأمريكي، واتهامه بالتواطؤ والتآمر مع دولة أجنبية من أجل التأثير على العملية الانتخابية الأمريكية ، و في الوقت الذي يتحدث الديمقراطيون عن خيانة المعسكر الرئاسي، ينتظر الجمهوريون أدلة دامغة قانونيا لبلورة موقفهم.
الرئيس ترامب: أخطاء بالجملة
توقع العديد من المسؤولين العسكريين قبل انتخابات الرئاسة إلي أن المرشح الجمهوري «يجهل مبادئ الدستور والقوانين الأمريكية»، وأن تصريحاته تقوض الأمن القومي الأمريكي، لاسيما خطابه المعادي للإسلام، والذي من شأنه -حسب المسؤولين العسكريين- تعزيز قدرات تنظيم «داعش»، كما أنها تقوض من فرص الولايات المتحدة في التصدي للأيديولوجيات المتطرفة.
وكانت قد وقعت مظاهرة لأنصار اليمين في مدينة شارلوتسفيل بولاية فيرجينيا تحول إلى ميدان للمواجهات بين أنصار اليمين والشرطة، وقد دافع عن أولئك المسؤولين عن أعمال الشغب الدامية في تشارلوتسفيل، ورحّب بتلك المجموعات العنيفة مثل (كوكلاكس كلان) والنازيون الجدد، الأمر الذي زاد من المطالب بعزل ترامب. حيث ناشدت عضو مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي، غوين مور، زملاءها الجمهوريين إلى العمل معًا لإزاحة دونالد ترامب من منصب رئيس البلاد.
وتثير تصريحات ترامب ومواقفه من قضايا السياسة الخارجية غضب النخبة الجمهورية، حيث وقع خمسون جمهوريا من خبراء الأمن القومي خطابا، جاء به أن ترامب سيكون «أكثر رؤساء الولايات المتحدة تهورا»، وأنه «يفتقر إلى الشخصية والقيم والخبرة ليكون رئيسا للبلاد»، كما أنه سيعرض الأمن القومي الأمريكي وازدهارها للخطر. ومن بين الموقعين على الخطاب مسؤولون عملوا في البيت الأبيض، ووزارتي الخارجية والدفاع في إدارات جمهورية على مدى عقود من ريتشارد نيكسون إلي جورج دبليو بوش.
ومنذ تولى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة في يناير 2017، لم تتوقف الاتهامات حول الطريقة التي فاز بها في الانتخابات والدور الذي لعبته روسيا واستخباراتها في تلك الحملة، خصوصاً من خلال الاتصالات السرية مع مسؤولين في حملة ترامب الانتخابية، واختراق البريد الإلكتروني للحزب الديموقراطي ومرشحته هيلاري كلينتون.
تصرفات سيئة متنوعة لدونالد ترامب، منذ تنصيبه في البيت الأبيض، كانت مفيدة لروسيا في حين تلقت العلاقات الدبلوماسية مع بعض الحلفاء التاريخيين للولايات المتحدة، ضربة. في مايو الماضي، لم يتردد في تمرير معلومات سرية إلى موسكو، وهذا الموقف الطائش من القائد العام قد يتسبب في خسارة الأمريكيين لمصادر هامة للمعلومات ترتبط بالأمن الخارجي والداخلي للولايات المتحدة.
من جهة أخرى، يواصل الرئيس الأمريكي، باسترخاء كبير، الخلط بين شؤون الدولة ومصالحه الخاصة، فبعدم قطع علاقته كليّا بمنظمة ترامب، فإنه ينتهك بندا دستوريا يحظر على أعضاء الإدارة الفيدرالية تلقي رواتب من أموال أجنبية. ولئن حوّل السيطرة على مصالحه والإدارة اليومية لشركته إلى ورثته، فإنه مع ذلك يبقى المستفيد الأول.
وقد تقدمت مقاطعة كولومبيا بدعوى قضائية، تتهم فيها ترامب بتقاطع علاقاته مع مصالحه الشخصية واستغلاله للثقة الممنوحة له، وخرقه لنصوص الدستور التي تمنعه من استغلال منصبه. وحسب الصحافة الأمريكية، فان بعـــــض الدول الأجنبية بـــاتت تبدي ميلها إلى فندق تــــرامب الـــــدولي. ويبقى أن نرى إلى أي مدى يمكن لخطوة مقاطعة كولومبيا أن تؤدي إلى احتمال عزله.
بداية الاتهامات كانت مع تقرير أجهزة الاستخبارات الأمريكية الذي أطلق الشكوك حول الجهة الروسية التي قامت بالقرصنة المعلوماتية على بريد الحزب الديموقراطي، والتي قال التقرير إنها تلقت الأوامر من أعلى الهرم في الكرملين، أي من بوتين شخصياً. أما لماذا يفعل الرئيس الروسي ذلك؟ فيجيب التقرير بأن هدف بوتين كان تشويه سمعة هيلاري كلينتون والتأثير في احتمال توليها السلطة، بسبب انتقاداتها لسياسات بوتين الداخلية وموقفها الحاد ضد ضم شبه جزيرة القرم. تم عرض نتائج ذلك التقرير على ترامب.
وبدل أن يدعو إلى التحقيق في الدور الروسي، حوّل الاتهام باتجاه أجهزة استخباراته، معتبراً أنها غالباً ما أخطأت في تقاريرها في الماضي، كما اتهم الحزب الديموقراطي بعدم الحرص على حماية مراسلاته عبر بريده الإلكتروني. ومع تتابع التحقيقات، أخذت رؤوس تسقط من حول الرئيس في إطار هذه الفضيحة، التي ذكّرت كثيرين من المعلّقين الأمريكيين بفضيحة التجسّس الشهيرة على مقر حملة الحزب الديموقراطي سنة 1972 لتسهيل فوز الرئيس ريتشارد نيكسون على المرشح الديموقراطي جورج ماكغوفرن، وهي الفضيحة التي صارت معروفة باسم «ووترغيت»، وانتهت بإطاحة الرئيس نيكسون.
تجاهل ترامب كل الاتهامات وانشغل بالتغريد على «تويتر» والهجوم على الصحافة بحجة تلفيقها «الأخبار الكاذبة»، وبالإساءات العنصرية إلى المسلمين وأصحاب البشرة غير البيضاء. لكن القضاء الأمريكي لم يتوقف. وبعد إقدام ترامب على طرد مدير مكتب التحقيقات الفيديرالي “أف بي آي” جيمس كومي بعد أن طلب منه عدم ملاحقة مستشار الأمن القومي الجنرال مايكل فلين في قضية التدخل الروسي في الانتخابات، ها هو فلين الآن يتحول إلى صيد ثمين في شبكة المحقق الخاص روبرت مولر، بعد أن اعترف بأنه كذب أمام محققي «أف بي آي» عندما نفى اتصالاته مع روسيا قبل تولي ترامب الرئاسة، من خلال سفيرها في واشنطن آنذاك سيرغي كيسلياك. بل إن فلين أضاف إلى ذلك أنه تلقى الأوامر لإجراء تلك الاتصالات من «مسؤولين كبار» في حملة ترامب الانتخابية. وبين ما قامت به موسكو آنذاك تجاوباً مع اتصالات فلين هو عدم الرد على قرار أوباما بطرد 35 دبلوماسياً روسياً من واشنطن، رداً على اتهام موسكو بالتدخل في الانتخابات. واعتبر ترامب آنذاك قرار بوتين بعدم الرد «قراراً حكيماً».
اعترافات مايكل فلين تشكل أكبر تهديد حتى الآن لرئاسة دونالد ترامب: فلين كان أقرب المستشارين من ترامب خلال حملته الانتخابية، ويصعب أن يصدق أحد أنه يقدم على اتصالات مع روسيا من دون علم رئيسه. فلين أقدم أيضاً على هذه الاتصالات في شكل مخالف للقانون الأمريكي الذي يمنع أي مواطن عادي – كما كان فلين قبل تولي ترامب الرئاسة- من إجراء اتصالات تتعلق بالسياسة الخارجية من دون موافقة الإدارة. أما الأهم فهو أن اعتراف فلين بتلقي الأوامر من «مسؤولين كبار» في حملة ترامب يشير بأصابع الاتهام إلى شخصين: ابن ترامب (دونالد جونيور وصهره جاريد كوشنير، وفي الحالتين يصعب كذلك تصديق أنهما يتصرفان من دون معرفة ترامب. هل نحن أمام فضيحة «ووترغيت» ثانية يمكن أن تطيح بترامب وتزيح هذه الإساءة عن جبين أمريكا والعالم؟ الأكيد الآن أن لا شيء سيوقف القضاء الأمريكي عن مواصلة تحقيقاته، والصحافة الأمريكية الشجاعة، عن تقصي الحقائق بشأن الالتفاف الفاضح على العملية الديموقراطية، الذي أتاح لشخص مثل دونالد ترامب تبوء أرفع منصب رسمي في العالم.
العزل بوصفه عقوبة تترتب على إدانة رئيس الجمهورية «بالخيانة العظمى»
نميز بين العزل والاستقالة والإقالة، فالاستقالة هي فعل إرادي يقوم به الموظف العام ذاته. وبينما لا يترتب على الإقالة أي إجراء جنائي ضد الموظف، فإن العزل يكون تمهيدًا لمحاكمة الرئيس أمام المحكمة المختصة بحسب الجُرم الذي ارتكبه.
إنه إذا ما تحركت أسباب الاتهام تجاه رئيس الجمهورية، وأثبتت الجهة المختصة بالتحقيق والمحاكمة أن الفعل المنسوب لرئيس الجمهورية يشكل خيانة عظمى، فعندها تتحقق مسؤولية رئيس الجمهورية، التي في حالة تحققها ليس لها إلا حل واحد، ألا وهو العزل. والعزل في الاصطلاح القانوني هو عقوبة تترتب على ارتكاب الموظف خطأ بالغ الجسامة، يجعل من بقائه في الوظيفة أمرا مضرا بالمصلحة العامة للدولة. وهو أيضا الفصل من الوظيفة بمعنى آخر، وفي حالة عزل رئيس الجمهورية تكون العقوبة ذات طابع سياسي، ويترتب عليها فقدان رئيس الجمهورية لمنصبه وانتقال صلاحياته إلى غيره.
والعزل قد يكون قضائيا، أي يصدر عن هيئة قضائية مُشكَّلة لهذا الغرض، كما في الولايات المتحدة. أو شعبيًّا، من خلال أغلبية الثلثين في المجالس النيابية، كما في ألمانيا ومصر. أوسياسيًّا، كأن يسقط المجلس النيابي عن الرئيس الثقة، بسبب ارتكابه أخطاء في الحكم تجعله غير صالح لمباشرة سلطته؛ إذ يُعد بقاؤه في الحكم مصدرًا للخطورة التامة على سياسة الدولة ومصالح الأفراد والتوازن العام بين السلطات، كما في حالة الدستور العراقي الذي تم إقراره في عام 2005.
خطوات عزل الرئيس الأمريكي
تقتضي السبل التقليدية (إذا صح استخدام كلمة تقليدية هنا) لمعالجة الجرائم الرئاسية، والتي استخدمت ثلاث مرات فقط من قبل في التاريخ الأمريكي، بدء إجراءات سحب الثقة في مجلس النواب وتتبعها محاكمة في مجلس الشيوخ (يصبح فيها أعضاء المجلس بمثابة هيئة محلفين كبرى).
ويستدعي البدء في إجراءات سحب الثقة موافقة أغلبية بسيطة في مجلس النواب، لكن الأمر يتطلب موافقة ثلثي الأعضاء في مجلس الشيوخ لإتمام إجراءات عزل الرئيس. وهذا فعل سياسي، كما لُوحظ دائما، حيث تكون حيثيات وأسباب الدعوى هي الأمر الأساسي، مهما كان قرار الكونغرس.
وإذا كان هذا المسار هو ما سيتبعه روبرت مولر المحقق الخاص في قضية تواطؤ الحملة الانتخابية للرئيس الجمهوري مع روسيا، فإن تحقيقه مع الرئيس قد ينتهي بإرسال تقرير إلى وزارة العدل، التي يمكن أن تمرره لاحقا إلى زعماء الكونغرس. ولا توجد أي مواد قانونية ملزمة لجعل تفاصيله علنية، على الرغم من أن الضغط على السياسيين لإعلانها سيكون هائلا.
وسترسم هذه العملية المسار الذي وضعه المدعي الخاص، كين ستار، عندما نظر في أخطاء محتملة من الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في عام 1998، (قضية اتهامه بالتحرش الجنسي بالمتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي). وفي هذا المثال، خلص المستشار المستقل إلى أن الرئيس حينذاك قد يكون ضالعا في سلوك إجرامي وقدم الأدلة التي تدعم خلاصته تلك إلى الكونغرس لاتخاذ ما يراه مناسبا.
وبدأت إجراءات سحب الثقة، لكن لم تتوفر أصوات كافية لإدانته في مجلس الشيوخ (وهي موافقة ثلثي الأعضاء).
اتهام ومحاكمة
على الرغم من أن الدستور الأمريكي واضح في ما يتعلق بسحب الثقة، إلا أنه صامت تماما عن الحديث عن موضوع توجيه اتهامات جنائية ضد رئيس مازال في منصبه.
وعندما كان قضاة المحكمة العليا ينظرون في إصدار مذكرة استدعاء بحق الرئيس الأمريكي الأسبق، ريتشارد نيكسون، بشأن قضية أشرطة التسجيل في المكتب البيضاوي (في فضيحة واترغيت في سبعينيات القرن الماضي)، قال لهم ليون جاورسكي، المحقق الخاص في القضية إن “السؤال الجوهري المطروح حاليا: هل يمكن أن يكون رئيس مازال في منصبه عرضة للائحة اتهام؟”
وقد استقال نيكسون قبل أن يخضع لإجراءات سحب الثقة، ثم حصل لاحقا على عفو من الرئيس جيرالد فورد، لكن المدعي الخاص في القضية قد وسمه بأنه «مشارك في التآمر لم يتهم بعد في قضيته المرفوعة ضد العديد من مساعدي الرئيس.
ويميل هؤلاء الذين يعتقدون أن قرار توجيه الاتهام إلى الرئيس أمر مستحيل إلى الإشارة إلى أنه من غير العملي اتهام شخص ما يمتلك السلطة القانونية للعفو عن نفسه، فضلا عن وجود فقرة في الدستور تشير إلى أن عزل الرئيس من منصبه عبر سحب الثقة لا يمنع توجيه تهم جنائية ضده.
وهذا يشير كما يقولون إلى أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة رأوا بأن أي إجراءات جنائية يجب أن تتم بعد خروج الرئيس من السلطة.
كما أن إعطاء السلطة القضائية قدرة معاقبة الرئيس أثناء حكمه قد تؤثر على المبدأ الدستوري الذي يقضي بضرورة الفصل بين السلطات الثلاث في الحكومة الأمريكية: السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية. والقضاة هم فرع السلطة الأقل خضوعا لمحاسبة الناخبين الأمريكيين، وهذا ما يفسر حجة: لماذا قرر الآباء المؤسسون وضع سلطة عزل الرئيس في يد الكونغرس، بأعضائه الذين يمتلكون تفويضا انتخابيا من الشعب.
* أستاذ القانون العام بالكلية المتعددة التخصصات –الناظور-