بغداد تنبعث كطائر الفينيق من رماد الإرهاب والحرب المجنونة : حين تواجه الثقافة الإرهاب

الصحافيون العرب يعلنون القدس عاصمة أبدية للإعلام العربي

 

الطريق إلى بغداد غالبا ما تكون مسكونة بالهواجس والترقب، فمن غير المتوقع من مدينة عاشت، دوما، الدمار والموت الرهيب، أن تعيد، على مر التاريخ، كينونتها، لكن بغداد تنبعث من رمادها كطائر الفينيق إلى أوج الحياة والفكر الإنساني، وقبل الهواجس تعيش هذه المدينة البعد الجغرافي وكذا الاغتراب، رغم أن بغداد هي بغداد والجغرافيا هي الجغرافيا.

الطريق إلى بغداد غالبا ما تكون مسكونة بالهواجس والترقب، فمن غير المتوقع من مدينة عاشت، دوما، الدمار والموت الرهيب، أن تعيد، على مر التاريخ، كينونتها، لكن بغداد تنبعث من رمادها كطائر الفينيق إلى أوج الحياة والفكر الإنساني، وقبل الهواجس تعيش هذه المدينة البعد الجغرافي وكذا الاغتراب، رغم أن بغداد هي بغداد والجغرافيا هي الجغرافيا.
حين أنهينا إجراءات السفر إلى العراق لحضور اجتماع الصحفيين العرب حيث الاجتماع الدوري للأمانة العامة والمكتب الدائم، كان هاجس الطريق يغمرنا، حيث برمجت الرحلة على متن خطوط عربية ممنوعة من التحليق في كثير من أجواء الخليج العربي، من مطار البيضاء إلى مطار مراكش إلى مطار حمد الدولي بقطر، مررنا عبر عواصم ومدن وبحار، وكان لابد لنا من رؤية شيراز الإيرانية على خارطة الطريق المبثوثة عبر شاشة صغيرة أكثر من 8 ساعات طيران.
في مطار حمد كان من الضروري لي ولمرافقيّ يونس مجاهد، عضو الاتحاد الدولي للصحفيين، وعبد الله البقالي، نائب رئيس اتحاد الصحفيين العرب، من الحكي الكثير والمناقشة المستفيضة حول الوضع النقابي المغربي والعربي، تزجية للوقت الميت بمطار حمد، حيث سبع ساعات بيضاء عشناها لحظة بلحظة وأعيننا على ساعة الانطلاق إلى بغداد، ولكل منا حكايات قريبة وبعيدة عن العاصمة العراقية، حيث كنت هناك شخصيا قبل سنة ونصف، تقريبا، ذات رمضان حارق وأوضاع أشد احتراقا، مع تمدد كيان»داعش» الذي رفع شعار «باقية وتتمدد»، حل الوقت ووصلنا بغداد، هنا مطار بغداد الدولي والذي كان يحمل اسم مطار «صدام الدولي» وكان من أيقونات مطارات الشرق الأوسط، هناك وجدنا أعضاء النقابة في انتظارنا داخل المطار، وعلى رأسهم نقيب الصحفيين العراقيين مؤيد اللامي، وهو في نفس الوقت نقيب الصحفيين العرب، سجلنا حفاوة اللقاء، فقد استُقبلنا بصالة تابعة للنقابة يوجد بها موظفون وموظفات طيبون، حيث الشاي العراقي وحفاوة استقبال الوفد المغربي وتسهيل كافة الإجراءات، ثم بعد ذلك كان علينا أن نعود من نفس الطريق التي سلكناها مرات أخرى، حملتنا سيارات رباعية الدفع في اتجاه فندق الإقامة المحاذي لفندق فلسطين بحي الكرادة وسط بغداد.
في الطريق كان الحديث عن الوضع الأمني وقرب الإعلان الرسمي لنهاية ما عرف بالدولة الإسلامية، التي احتلت، قبل سنوات، مناطق شاسعة في العراق وسوريا، وأعلنت دولتها الخاصة بقيادة البغدادي الذي اختفى عن الأنظار وبات مجهول المصير إلى إشعار آخر.
طريق المطار لا تشبه باقي مسارات المطارات الأخرى، فهنا، وعلى طول الطريق، كثافة أمنية وعسكرية ومختلف أنواع الأسلحة والمسلحين التابعين لوزارة الداخلية والجيش وقوى أمنية مختلفة ترابد على جانبي الطريق مع نقط تفتيش مدججة بآليات الكشف عن الألغام والأسلحة والمخدرات وكذا الكلاب المدربة، ولا يستثنى أحد من التفتيش، بتوجيهات صارمة لحفظ الأمن وهاجس الخوف من تسلل بقايا المسلحين اليائسين والفارين أفرادا، والذين قدر مصدر مسؤول أن « اليأس قد يدفعهم إلى محاولة التشويش على النصر بأي ثمن، لذلك تجدون إجراءات صارمة كهذه لأن لا عبث مع أمن العراقيين والضيوف «.
صرنا حوالي ثلاثين دقيقة لنجد أنفسنا وسط بغداد بعدما مررنا قرب مقر رئيس العراق، حيث الحراسة الخاصة به، والتي تتألف من الأكراد الذين يسيطرون على الطريق المحاذي له، ولم نعرف باقي تركيبة الأمن داخل المنطقة إلا أن تنسيقا يجري بين باقي الأجهزة كما شاهدنا معاينة.
تغيرت معالم بغداد التي زرتها قبل سنة ونصف تقريبا، حركة مرور كثيفة والمحلات التجارية تشهد حركة تجارية وتكاد تكون الحياة عادية، ولكن في عيون العراقيين ترقب لإعلان نصر هم في حاجة إليه، وبحاجة إلى لحظة من أجل أخذ نفس من حرب استمرت عشرات السنوات، وكانت حرب داعش أخطرها، حسب صحفي عراقي « حرب داعش ليست كباقي الحروب النظامية، هذه حرب استهدفت كل الطيف العراقي وحاولت قتل تنوع العراقيين، مسيحيين أيزيديين مسلمين كرديين سنة وشيعة ..لا أحد خارج دائرة القتل والاغتيال، فكل عراقي متحرك هو هدف للموت …» مردفا: «عشنا أخطر أنواع التقتيل، وسجلنا وجود ترسانة إعلامية واكبت داعش، باستعمالها وسائل دعاية ربما غير مجربة وغير مسبوقة في التاريخ …» ويضيف:» تابعنا تحركات داعش، إنها كالأفعى تظهر وتختفي ولا يدل عليها سوى ركام الدم ودم الشهداء» .
دلفنا الفندق لنجد من سبقونا من الصحفيين العرب وممثلي الاتحاد الدولي، حيث وجدنا الزميل جيم بوملحة، أمين عام الاتحاد الدولي وممثل النقابة البريطانية والشغوف بأرض أجداده هنا بالمغرب من حيث ينحدر، والحديث الجميل معه عن دكالة مسقط رأسه واهتمامه بتطور الإعلام المغربي، حيث الرجل يقبض على التفاصيل ويشيد بأهمية تطوير الإعلام في المغرب وبناء الديمقراطية، فرغم الغربة والشغف بالعمل النقابي، دوليا، إلا أن الرجل لم ينس شرف الانتماء لبلده الذي يصر على زيارته في كل وقت ممكن، ولا يخفي جيم حبه هذا أمام الجميع حتى خُيل للآخرين أنه ممثل المغرب.
في الفندق، تحولت وضعية بغداد والنصر، إلى نقطة ثانية في نقاشات الصحفيين العرب، حيث كان القرار الصادم لرئيس أمريكا بتنفيذ القرار المتخذ قبل 22 سنة بنقل سفارة بلاده إلى القدس واعتبارها عاصمة للصهاينة. لقد كانت صدمة كبيرة، وفي كواليس المؤتمر الذي لم يكن قد انطلق بعد، تقرر تسمية الدورة بدورة القدس، واعتبار القدس عاصمة للإعلام العربي، وفي الكواليس أيضا كان الوفد المغربي لاعبا أساسيا في هذه القرارات قبل الاجتماعات الرسمية لاتحاد الصحفيين العرب.
عند انطلاق أشغال اتحاد الصحفيين العرب، يوم السبت، أعلن رئيس اتحاد الصحفيين العرب، نقيب الصحفيين العراقيين، مؤيد ‏اللامي، رسميا، إطلاق تسمية «دورة القدس» على اجتماع بغداد للاتحاد. ‏وقال اللامي في كلمة افتتح بها اجتماع الأمانة العامة لاتحاد الصحفيين العرب، إن «‏أعمال مؤتمر الأمانة العامة لاتحاد الصحفيين العرب ستكون حالة مفصلية بحياة الأمة»‏، مردفاً بالقول «خاصة بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، نقل السفارة الأمريكية إلى القدس‏‏».‏ وأضاف أن «جدول الأعمال يضم مناقشة التقرير المالي، وعمل لجنة الحريات، ‏وبحث إضافة عضوية جيبوتي وجزر القمر، وتعليق عضوية ليبيا والجزائر إضافة إلى مناقشة ‏القضايا التي تطرح خلال الاجتماع».‏
هذا وكانت الأمانة العامة لاتحاد ‏الصحفيين العرب قد عقدت اجتماعا برئاسة رئيس الاتحاد ونقيب الصحفيين العراقيين مؤيد اللامي بحضور أعضاء ‏الأمانة العامة، وعلى هامش الاجتماع نظم رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي لقاء على شرف الوفود العربية والدولية، وأعلن من خلال اللقاء نهاية» داعش» بالعراق وإغلاق الحدود مع سوريا ونوه بدور الإعلام العراقي الذي أعطى عشرات الشهداء والشهيدات. وقال العبادي في بداية كلمته، «أرحب بالصحفيين والإعلاميين العرب في بلدهم الثاني العراق الذي يفتح أبوابه وأذرعه في كل وقت وزمن، ويصادف وجودكم الانتصارات التي حققها العراقيون على الدواعش».
وأضاف» إن قواتنا انتهت خلال الساعات الأخيرة من تطهير كامل نينوى والأنبار، وسيطرت بالكامل على طول الحدود العراقية السورية، وهذه الانتصارات ليست فقط للعراقيين ولكنها للعرب والمسلمين وللمنطقة والعالم، وقد تحققت بوحدة أبناء العراق، الذين وضعوا أيديهم بأيدي بعض لمحاربة عدو غادر أراد ألا نرى هذا اليوم وأن يقضي على هذه الحضارة ويعيدنا للفترات المظلمة، لكننا انتصرنا بفضل هذه الوحدة والعزيمة وحققنا هذا الإنجاز لجميع الأحرار في المنطقة».
وقال العبادي” إن الأمم يمكنها أن تنجز المستحيل إذا توحدت وتجاوزت خلافاتها، ففي كل شعب من شعوبنا تعدد في الدين والمذهب والانتماء القومي …وبالوحدة يمكن أن نحقق المستحيل..إذ أن الأمة المهزومة من الداخل لا يمكن أن تنتصر على عدو خارجي..واليوم يحاول البعض أن ينقل القدس إلى المحتلين الإسرائيليين ويتصور أنه يستطيع أن ينتصر على هذه الأمة، ولكن لو توحدت دولنا لما استطاعت دول العالم أن تتمكن منا». وأضاف” لا يمكن لأحد أن يسلب هوية فلسطين العربية الإسلامية وفلسطين لكل الأديان، وأدعو إلى التوحد وأن نقوي أنفسنا من الداخل، فلا تناقض بين محاربة عدو خارجي والإصلاح الداخلي، بل لابد من الإصلاح الداخلي للانتصار على العدو الخارجي..فكيف نستطيع أن نحارب وننتصر بأمة مقهورة؟”.
ولقيت كلمة العبادي تجاوبا كبيرا من الحضور في أشغال هذا اللقاء الاحتفالي الذي اختاره لإعلان تنظيف البلاد من فلول «داعش».
وأعلن الاتحاد العام للصحفيين العرب مدينة ‏القدس عاصمة دائمة للإعلام العربي، داعيا وسائل الإعلام العربية إلى اتخاذ إجراءات ردا على إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها. وقال الاتحاد في البيان الختامي الذي أصدره عقب الدورة التي عقدها في العاصمة العراقية بغداد (دورة ‏القدس)، إن «ترامب أقدم على جريمة جديدة في حق ‏الشعب الفلسطيني البطل ومن ‏خلاله بحق المجتمع الدولي والشرعية الدولية، ‏بإعلانه نقل سفارة بلاده من تل ‏أبيب إلى القدس واعترافه بها عاصمة للكيان ‏الإسرائيلي الغاشم، وغلّف هذا ‏الإعلان بخطاب مكتظ بالكراهية».‏ كما أعرب الاتحاد عن «إدانته الصريحة والشديدة لهذا القرار ألإجرامي وأنه ‏يجسد ‏انحياز الإدارة الأمريكية الجديدة وخرقا سافرا لقرارات الشرعية ‏‏الدولية». وشدد المجتمعون على أن «القدس كانت وستبقى العاصمة الأبدية للشعب العربي الفلسطيني ‏‏ودولته المستقلة على امتداد الأراضي الفلسطينية المحتلة من نهرها إلى بحرها». وأكد الاتحاد أن ترامب، بعد اتخاذه هذا القرار «الإجرامي»، أصبح «شريكا حقيقيا في الجرائم ‏الفظيعة التي يقترفها العدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني البطل». وأشاد الاتحاد بـ»أحرار العالم الذين هبوا للتنديد بهذا القرار ‏الجائر، من خلال المسيرات والاحتجاجات التي عمت مختلف أصقاع المعمور». وحمل الاتحاد العام للصحفيين العرب الحكام في العالمين العربي والإسلامي ‏»مسؤوليتهم التاريخية، لأن قرار الرئيس الأمريكي يمثل إساءة حقيقية لهم ، ومن خلالهم ‏لجميع الشعوب العربية والإسلامية».
‏ودعا البيان الختامي للصحفيين العرب كافة النقابات الصحفية في العالم للتعبير عن «مواقفها ضد قرار ترامب ‏المنافي لكل القوانين الدولية والشرعية الدولية وإدانتها الشديدة لهذا القرار، معتبراً ‏»التطبيع مع الاحتلال جريمة ضد القدس».‏
ودعا الاتحاد جميع التنظيمات الصحفية المهنية الأعضاء فيه ومن خلالها جميع الصحفيين والصحفيات إلى عدم التعامل مع العدو الصهيوني وحليفه الاستراتيجي الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بمقاطعة الأنشطة الدبلوماسية غير المهنية لسفارات الإدارة الأمريكية .
كما دعا الاتحاد إلى الاهتمام الفعلي بقضية الشعب الفلسطيني عبر تخصيص معالجات إعلامية أكثر، وتخصيص مساحات أوفر، وتنقية قواميسهم اللغوية المعتمدة في هذا الصدد، مع الحرص على مواصلة مقاطعة الكيان الصهيوني ومقاومة التطبيع معه، مشددًا على الدعم اللامشروط للصحفيين الفلسطينيين في مواجهتهم لبطش العدو الذي يسعى إلى طمس الحقائق وإلغائها.
بغداد تعالت عن جراحها لتفسح للقدس مكان الصدارة
وأهدت نصرها لعاصمة الإعلام العربي المتوجة بالإجماع في انتظار خطوات على الأرض.
بغداد الخارجة من تحت الأنقاض لم تزل كما هي محبة للقراءة وللشعر والرواية، فقد أخذتنا سيارات مخفورة من طرف مختلف الفرق الأمنية والعسكرية إلى شارع المتنبي الواقع في قلب بغداد الذي يعود إلى أواخر العهد العباسي، واشتهر منذ ذلك الزمان بازدهار مكتباته واحتضن أعرق المؤسسات الثقافية، وظل إلى اليوم يعج بالباحثين عن متنفس يستبدلون في مكتباته ومقاهيه أخبار العنف بأخبار الثقافة والمجتمع. حين نزلنا من الحافلات وجدنا حركة كثيفة للناس وصعوبة في المرور كما اختفى الإنزال الأمني، سألت أحد الضباط عن سبب المواكبة الأمنية الكبيرة، فرد أنه «لابد من تأمين ضيوفنا بشكل جيد»، مضيفا أن «الأمر مرتبط بإحياء حفلات الانتصار بنهاية داعش، ويمكن لبعض المندسين أن يقوموا بأعمال تخريبية». دلفنا الشارع مبهورين، ورغم ضجيج الباعة المتقاطع مع أحاديث المارة واستفساراتهم عن الكتب، ينتشر بائعو الجرائد وموزعوها بالمجان، حيث استوقفني رجل كهل وقدم نفسه بأنه من الحزب الشيوعي العراقي وبيده جريدة تتحدث عن عودة الاشتراكية وعنوان آخر يدين الممارسات الإمبريالية وغيرها، وطلب مني أن نُسمع صوته للرفاق في المغرب وبأنهم صامدون ومستمرون، وعندما علم بأنني من جريدة الاتحاد الاشتراكي، قال لي « لن أوصيك فنحن رفاق»، ووجدت أن الرجل يعرف حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية ويعرف أسماء عدد من المناضلين، تجاوزته للأمام حتى لا أضيع من باقي الزملاء أو يضيعوا مني.
في هذا السوق الفريد حيث يتسابق العراقيون من أجل الظفر بكتاب أو مجلة تتعايش فسيفساء الطيف المجتمعي، هنا العراق الواحد المتعدد، تجد المسيحي والمسلم السني والشيعي والإيزيدي وغيرهم وكل الطيف الحزبي، حيث البعث هنا حقيقة، ولا يخفي الناس تطلعهم إلى المستقبل وكثير منهم يحنون إلى زمن الوحدة والقوة في ظل التنوع الديموقراطي…
في لحظات، تجمعت بعض الحشود المنتشرة بين كتب تفترش جانبي الشارع العريق، وقفنا بباب مكتبة الرباط حيث استقبلنا أصحابها بفرح وترحيب، وكان الحديث عن الانتشار الكثيف وحركة البيع، كان صاحب المكتبة ملما بكل الأسماء الروائية في المغرب، لكنه عاتبنا لأن الكتاب المغاربي لا يصل إلى العراق، وعبر عن رغبته في تواصل ثقافي أكبر… ويحكي أحد رواد السوق قائلا: «لم تمنع التفجيرات الدامية التي هزت العراق وقتل وأصيب فيها العشرات،يوما، أصحاب المكتبات الأخرى من أن يفتحوا الأبواب أمام رواد الشارع من الكتاب والمثقفين وغيرهم»، موضحا أن «الثقافة لا تخشى الاغتيال لأنها عصية على الإرهابيين والقتلة من كل صنف …».
وفيما كانت تزدحم بشوارع العاصمة آليات الشرطة والجيش ونقاط التفتيش بين الحواجز الإسمنتية المضادة للمتفجرات، وحده شارع المتنبي ظل يعج بالباحثين عن المعرفة والثقافة، فهذا الشارع الواقع في قلب بغداد بمنطقة يطلق عليها اسم «القشلة»، يعود إلى أواخر العصر العباسي، وكان يعرف أولا باسم «درب زاخا» واشتهر منذ ذلك الحين بازدهار مكتباته واحتضن أعرق المؤسسات الثقافية. وقد أطلق عليه اسم المتنبي في 1932 في عهد الملك فيصل الأول تيمنا بشاعر الحكمة والشجاعة أبو الطيب المتنبي، وتحول في أوائل التسعينيات، في ظل الحظر الدولي الذي فرض على العراق، إلى ملتقى للمثقفين كل يوم جمعة، حيث يتم به عرض آلاف الكتب وتنتشر فيه مكتبات الرصيف. ويبدأ الشارع الذي يمتد لأقل من كيلومتر، بتمثال للمتنبي مطل على نهر دجلة، وينتهي بقوس بارتفاع حوالي 10 أمتار، نقش عليه بيت الشعر الأشهر للمتنبي «الخيل والليل والبيداء تعرفني، والسيف والرمح والقرطاس والقلم». وتباع في هذا الشارع الذي تحيط بجانبيه أبنية تراثية كانت تشكل معا مقر الحكم العباسي، كافة أنواع الكتب، وعلى رأسها السياسية والاجتماعية والتاريخية، وتتراوح أسعارها بين 250 دينارا (أقل من دولار) ومئات آلاف الدينارات، أصحاب المكتبات ليسوا باعة عاديين، ثلاثة دكاترة إخوة يبيعون الكتب هنا، سألت أحدهم إن كانت التجارة تدر عليهم ربحا كافيا، ابتسم في وجهي وقال « نحن نعيش من المهنة ونحن شغوفون بها وورثناها عن الوالد الذي ورثها بدوره عن أجداده وستسمر هذه المهنة هنا والآن لأن الثقافة صمام أمان للمجتمع والحياة» .
التقيت أبو شادي رجل في السبعينات من عمره تحسر على المكان، وقال لي «لقد ضربوا مرة هنا عبر تفجيرات عنيفة وضاع مني أصدقائي، أضحى المكان بالنسبة لي موحشا للغاية، ففي كل مكان ينزوي شهيد أراه ويراني، نعم فعلها الإرهاب الأعمى…».
تعرض شارع المتنبي الواقع على الجانب الشرقي لنهر دجلة لهجوم بسيارة مفخخة عام 2007 قتل فيه 30 شخصا وأصيب أكثر من 65 آخرين بجروح، وبقيت حينها، ولأكثر من يومين، سحب دخان الحرائق التي التهمت المكتبات التاريخية تغطي سماء شارع المتنبي بعد أن تحول إلى ركام وأنقاض، قبل أن يعاد افتتاحه رسميا عام 2008.
ليس السوق عاديا، فهو يضم بالإضافة إلى معالم شارع المتنبي، مقهى الشهبندر الذي افتتح عام 1917، وأقيم كملحق به بيت ثقافي ينظم نشاطات ثقافية مختلفة تجتذب كتابا وصحفيين وسياسيين، هنا حيث احتسينا الشاي العراقي وجلسنا على كراسي بسيطة لكنها تحمل عمقا إنسانيا وتاريخيا، من هنا مر كبار المثقفين والشعراء والفنانين وكل محبي العلم والثقافة، وفي حديث مع صاحب المقهى الذي بدا مزهوا كطاووس باستقباله عشرات الصحفيين قال « أنا فخور بأن المقهى مازالت تجتذبكم إلينا، أنا سعيد بأن أقدم الشاي مجانا، وفي كل جمعة تكون لنا ندوة أو محاضرة، فالمقهى جزء من المشهد الثقافي هنا، وسنحرص عليها للأبد».
وهناك مبنى ‘القشلة’ الذي يعود تاريخ بنائه إلى فترة الحاكم العثماني، نامق باشا (1861-1863) حيث اتخذه معسكرا للجيش، كما أضيف طابق ثان للمبنى في زمن الوالي مدحت باشا (1868-1871) وأقام برجا عاليا بوسطه تعلوه ساعة كبيرة. في الساحة الواسعة تتواجد مجموعات من المتطوعين لقياس داء السكري وتقديم النصائح وتوزيع مطبوعات مجانية على الناس، إضافة إلى أزيد من 30 حلقة حيث الشعراء والمغنيين والروائيين، كل في مكانه مع صحبه وجمهوره، دون إزعاج من طرف أي كان للآخرين، فجأة حلت بالمكان مذيعة تلفزية مشهورة فالتف حولها الشباب لأخذ « سيلفيات»معها حتى أنها وجدت صعوبة في التخلص من المحبين الصغار، وهم شباب في عمر الزهور بين 15 و22 سنة، ممتلئين بالحياة ومزهوين بهواتفهم من آخر الصيحات.
في بغداد يصارع القديم من أجل البقاء، ففي مواجهة المحلات العصرية و» المولات» التي تبدو فخمة وذات واجهات براقة وأجهزة ونظام تسوق حديث، هناك أشهر وأقدم أسواق بغداد التجارية، كسوق «الشورجة» الواقعة في جانب الرصافة من العاصمة العراقية بغداد. وكما يحكي البغداديون، باعتزاز، صمدت سوق «الشورجة» التي حملت عبر تاريخها الطويل تسميات كثيرة بدأت بتسميتها «سوق الرياحين»، حيث كانت في قرون سابقة مختصة بتجارة العطور، ومن ثم أصبح اسمها «سوق العطارين» بعد أن توسعت منافذ التجارة فيها لتستقر منذ نحو أكثر من قرنين من الزمان باسم «سوق الشورجة». والمفردة الأخيرة مشتقة، طبقا لمؤرخي بغداد وأشهرهم الراحل جلال الحنفي، من كلمة (شوركاه) أي محل «الشورة» أو (الماء المالح)، إذ كانت محلة «الشورجة» قديما بئرا أو بركة ماء فحرفت إلى الشورجة، وتتكون من عدة أسواق تبدأ من سوق المتنبي المختصة في الكتب والقرطاسية إلى السوق العربي المختصة في الملابس والعطور وسوق الصفارين المختصة في النحاسيات وسوق الغزل المخصصة لكل أنواع الطيور والحيوانات فضلا عن السوق الأصلية الخاصة بجميع أنواع حركة التجارة بدءا من الإبرة وحتى أكبر الآلات الصناعية.
غير بعيد من فندق فلسطين نظم حفل عشاء بأحد المطاعم التقليدية حيث يتم شواء سمك نهر دجلة بطريقة تقليدية مباشرة على النار وتقديم أطباق بسيطة مع الرغيف العراقي، صاحب المقهى نظم حفلا موسيقيا حضره عدد كبير من العراقيين و العراقيات، خاصة محبي « النرجيلة «، وقريبا من المكان توجد مطاعم حديثة من مختلف المطابخ العالمية. ونتيجة الإقبال الكبير للناس على المحلات والمطاعم والسير على الطرقات وحتى ممارسة الرياضة شهدت حركة العودة إلى الفندق اشتدادا في حركة السير، حيث بالرغم من البرد القارس وانخفاض درجة الحرارة، بشكل غير مسبوق، كان هناك عشرات الشباب يركضون جريا على الأقدام في مجموعات رياضية …
كانت الرحلة مليئة بالتعب حين عودتنا إلى مطار بغداد الدولي في اتجاه الدوحة، دون أن ننسى سبع ساعات من الانتظار بمطار حمد الدولي، ودعنا بغداد الرشيد، ومن المؤكد أن كل واحد منا وجد بغداد أخرى، غير التي سبق وشاهد أو سمع عنها، ولكن ليس من عاش رحلة بغداد 2017 كمن سمع عنها، بغداد أخرى تنبعث من عبق التاريخ لتداري ما فعله الهولاكيون الجدد.


الكاتب : محمد الطالبي

  

بتاريخ : 21/12/2017