تألقت بامتياز الفنانة التشكيلية لبابة لعلج البليغة والموحية عبر أعمالها الجمالية “روض مراكش الفاتن” المهداة إلى ذاكرة هذه المدينة الأصيلة بكل روافدها التراثية ومعالمها الحضارية، وذلك ضمن فعاليات «معرض مراكش» المقام مؤخرا من طرف جمعية فنون النخيل للثقافة والتضامن، بشراكة مع الجمعية الجهوية للاتحاد الوطني لنساء المغرب، جهة مراكش آسفي، وجمعية أوبن هاندس.
قد يكون الفن هو أصدق وسائل التعبير البشري، وأكثره قدرة على رسم ما يختلج الذات وما لا تستطيع اللغة البوح به، فاللغة تبقى قاصرة أمام القول الكامل، من حيث إن الكائن الإنساني أكثر تعقيدا من أن نختصره داخل منظومات لغوية. لهذا يأتي الفن كوسيلة مكملة، إن لم أقل أساسية وأولية للتعبير. في البدء كانت الفن، إذ حينما أراد الإنسان التعبير أول مرة، لم يجد أمامه سوى اللون والشكل وخطوط كشكل دال للتعبير والبوح.
لهذا يعتبر الفن التلقائي من أصدق الفنون ووسائل التعبير من غيره، فحينما لمح أعضاء تيار الكوبرا أعمال الفنانة التشكيلية المغربية الراحلة الشعيبية طلال، وقفوا منبهرين أمام تلك الخامية والتلقائية والطفولية في التعبير، والتي سعوا إلى بلوغها بما استطاعوه من فن وعفوية. من هذه الخامية ومن الفن الخام بالتحديد، تأتي أعمال الفنانة التشكيلية المغربية «لبابة لعلج»التي أتت إلى الإبداع من دروب الفكر، والإعلام، والموسيقى، والرقص والقراءة المعمقة للعلوم الإنسانية. لديها ثقافة رصينة، بشكل إرادي، إذ تترك هذه البرمجة الفكرية للتواصل مع الجسد، والقلب والروح. في هذه العوالم الدالة، تجد لبابة ثراء فريدا لا يمكن لأية مدرسة أن تقدمه.
يمكن النظر للفن الخام على كونه يعادل الفن البدائي، من حيث «الصدق» و»العفوية» و»التلقائية» وحتى التعبير الروحاني والصادق بدون أي بحث عن بهرجة أو أشكال أكاديمية تضفي على العمل نوعا من «المألوف» للمتلقي. فالفنان الخام، والحالة هنا لبابة لعلج، يرجع إلى ذاته وقوله الخاص، أي إلى عالمه… أما لبابة فترجع إلى عالمها السحري الذي تعيش فيه تلك الكائنات الخيالية والعجائبية واللامرئية.
اللامرئي عنوان الدخول إلى أعمال هذه الفنانة الخامة، وكم نبتعد عن اصطلاح الفطرية أو الساذجة، لما يعتري هذا المصطلح من نوايا مبيّتة. اللامرئي هو ما تحاول لبابة التعبير عنه بشغف اللون في خامه، بدون تدخلات وتركيبات لونية، فهي لا تخشى نقل اللون صوب القماشة، لتجعل منه خطوطا ومسارات ودروبا، وشخصيات تملأ فضاء اللوحة في مربعها الأيقوني.
شخوص هذه الفنانة، تمرح، تلعب، تجول، تصول في سعادة واضحة وفاضحة، ما يبيّن تلك السعادة التي تعيشها الفنانة رفقة ريشتها وألوانها، بل إنما الأمر يدل على العالم السحري البهيج الذي تعبّر عنه لبابة لعلج، عالم زاه لا يتوقف فيه الماء عن الجريان والسيلان.
هذا وتحضر الألوان القزحية كتعبير عن البهجة التي تسعى إليها الفنانة عبر أعمالها، التي تأتي ملأى بالنساء كشخصيات أساسية داخلها. نساء لعلج لسن كباقي النساء ! إنها كائنات نورانية تهبط من السماء، أو تنسجم وتتناغم مع الطبيعة «فتغدو لقاحا للحياة»، بينما العري هو دلالة الخلق والأصل. بل يمكننا أن نعتبره تعبيرا عن تلك الحرية في مطلقها وبهائها اللامشروط.
ترسم لبابة لعلج كأنها تحكي أو تسرد وتقص حكاية ألف ليلة ولية، وتلك العوالم العجائبية التي تحكيها شهرزاد لشهريار، لكن من هو شهريار لبابة؟ قد لا يكون الجواب مهما، بقدر ما أننا ندرك أن الفنانة لا تتوقف عند سرد قصصها السحرية، والتي تختلف شخوصها وكائناتها العجيبة والغريبة من عمل إلى آخر.
لا ترسم لبابة لعلج ما تراه وما تبصره، أي أنها لا تحاكي العالم أو تنقله، بل إنها تخلق عالمها الخاص، ذلك العالم الذي تسرد، والسرد هنا عبر الصورة التي يخبرنا عنها جوليان غريماس أنها «كل دال». إذ غدت «الصورة كتابة في اللحظة التي تكون فيها دالة. إنها مثل الكتابة تدعو إلى حكم القوة» (رولان بارت «بلاغة الصورة»). تكمن دلالة الصورة عند لعلج في كونها لا تدل على واقع بصري ومرئي، بل إنها دال على اللامرئي من حيث هو منبع «الانفعال الجمالي» الذي على العمل أن يذهب إليه.
تقع أعمال لبابة لعلج في خانة المنفلت وصعب الإمساك، ما يجعلها أعمالا فنية يصعب حصرها داخل نص واحد ولغة، من حيث إن اللغة تبقى دائما قاصرة أمام تفسير العمل الفني العامر بالرموز التي تصنع منه مركبا دلاليا. فأعمالها غير متأثرة بأي تيار أو أسماء مكرسة، بقدر ما هي موسيقى تشبه تلك الموسيقى الكاتدرائية البهيجة التي تصدح بها أسوار الكنائس الكبرى عبر صدى المرتلين.
* ناقد جمالي
ضمن فعاليات «معرض مراكش» .. ترتيل الصور في أعمال لبابة لعلج
الكاتب : عزالدين بوركة
بتاريخ : 15/01/2018