لا أحد، في ما يبدو، ساعد الخيال على استلام السلطة…
عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr
بعد أن نجحت ثورة الياسمين..أو على الأقل، ساعدها كي تأتي بالجديد غير ما تعرفه الشعوب المعتادة على التنقيب عن سبب معقول للعيش… والعيش الكريم إذا أمكن!
هكذا حصل، بعد أن انتهت كل الاستعصاءات ووجد اليميني واليساري والليبرالي والمتدين والعلماني والملحد، أرضية للتوافق داخل حضن الثورة، على قاعدة الوطن للجميع والحرية للمعتقد، صار من حق الناس أن يعودوا إلى الثورة من جديد، لكن الفارق هو أن الثوريين لم يبحثوا عن الاستبداد ليقتلوه..ولا عن الثورة ليجددوا دماءها ويسخنوا أطرافها بزيت الزيتون البلدي..ولا عن دولة البوليس ليطعموها شعاراتهم ويفرضون عليها التوبة..
الثوار اليوم، انصرفوا إلى الحرية، يعزلون تاريخها وينظرون إلى حوَلها المفاجئ وإلى عطبها وتعتعتها في الحديث إلى شبابها وربما أبنائها..
في حين عاد الشعب من جديد إلى الشارع، ليسأل:لكن أين الرغيف، أليس من حقنا أن نجوع عندما تكمل الثورة شهرها التاسع، وتلد وطنها الجديد، نحن والآخرون معا؟
سمعنا في التفسير: النخب السياسية لم ترتق إلى مستوى التطلعات والانتظارات ولم تلامس المشاغل الحقيقية للناس، لهذا لم تحقق ثورة الحرية والكرامة أهدافها المنشودة ..
وخرج من يصفر «إنذارا إلى خطورة الفجوة القائمة بين السياسيين والشعب»..
وليس في التفسير ما يحيلنا على ضرورة الثورة لكي نصل إلى ما يمكن أن تصل إليه العيون اليقظة في أي بلد لم يمر بالعاصفة، ويدثر بالألوية الحمراء..
سمعنا في التفسير: لم يتم درس ومراجعة منوال -أي نموذج - التنمية، الذي ثبت فشله، وعدم فتح الملفات الهيكلية وإصلاحها لاسيما التشغيل والتعليم والصحة والنقل والصناديق الاجتماعية..
أقوى نقابة عمالية في خارطة المغرب الكبير ودول الشرق الأوسط وربما إفريقيا، عادت إلى الأرض، إلى لغة العمال، لكي ترفع أي لبس بين الغضب وبين الثورة البروليتارية..
وقال نور الدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل، «إنه يرفض كل الاحتجاجات تحت جنح الظلام والتي تتحول لاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة عن طريق السرقة والنهب والتخريب»، وأضاف أنه «حث رئيس الحكومة على الإعلان الفوري، عن الرفع من الأجر الأدنى ومنح العائلات المعوزة ومعاشات التقاعد الضعيفة، وإيلاء المزيد من العناية بالشباب على جميع المستويات.
كما دعا الجميع« إلى مزيد من التعقل نظرا لحجم المسؤولية الموكلة إليها، خاصة خلال الفترات الصعبة، وتغليب المصلحة العامة بعيدا عن منطق المصالح الضيقة، مؤكدا أن الاتحاد لا يدعم الأشخاص بل يدعم الخيارات القادرة على إضفاء النجاعة والتعامل بحكمة مع القضايا الحارقة، ودعم الاستقرار السياسي، واستنباط الحلول، ورسم الآفاق والانفتاح على المحيط الخارجي والداخلي……
واضح إذن أن العمال اتحدوا لكي لا يعلنوا عن قيام الساعة…، ولا عن دكتاتورية البروليتاريا، كمرحلة متقدمة من مراحل إسقاط البرجوازية المتعفنة والرأسمال التبعي وآخر عملاء الظلامية المتحدين مع الليبرالية المتوحشة..
أبدا، فقد جاؤوا ليذكروا الجميع بما قد نسمعه في أي بلاد تسير بإيقاعها البطيء حول الحكامة أو حول النجاعة أو حول تدهور الإدارة!
وخرج نواب الجبهة الشعبية ليفسروا لنا، نحن الذين اعتقدنا بأن الثورة تأتي بأسباب جديدة في الفهم، «أن الخلاف بين الحكومة والتونسيين، أعمق من قانون المالية 2018 وما رافقته من إجراءات، لأنه خلاف حول خيارات اجتماعية واقتصادية بالأساس»….
كما لو أن الثورة لم تكن ضرورية هنا أيضا لكي نصل إلى حديث يقوله أي قائد دولة عن فشل النموذج التنموي، بدون فتح الباب على مصراع طويل وعريض من الالتباسات الإقليمية..
الغنوشي قال إن التونسيين لا يزالون يتعلمون الديمقراطية ويتدربون عليها… كدليل، في ما يظهر، أن الاستبداد ليس مدرسة لتعلم الديموقراطية..
وأن الثورة عادة لا تأخذ الوقت الكافي لتلقين الناس، توازن السلط وتدبير الاختلاف…!
وقد تخشى الثورة، حتى إذا لو خرج الشعب كما أول مرة، من الديموقراطية نفسها من عودة أعدائها ولتعود الثورة المضادة..
هذا ما قاله رئيس الدولة منصف لمرزوقي مباشرة بعد نجاح الديموقراطية.
فقد عبر المنصف المرزوقي عن خشيته مما أسماه سعى ”الثورة المضادة” إلى تزوير الانتخابات كما فعلت في انتخابات 2014 بغاية التمديد في فترة حكمها، …مؤكدا أن حزبه - أي حزب حراك تونس الإرادة- «لن يقبل بذلك مرة أخرى وأن المعركة ستكون من أجل الديمقراطية وتكريس سيادة الشعب».
وشدد المرزوقي على ضرورة ترك البلاد للأجيال الجديدة و«ليس للقوى التي أثبتت فشلها على امتداد عقود من الزمن، واستحوذت على الثورة وعلى أحلام الجماهير التي قدمت أغلى التضحيات.
هي ثلاثية أيضا شديدة الالتباس، تجمع الثورة والديموقراطية عندما تفضيان، معا وجنبا إلى جنب، إلى …الثورة المضادة..
لا أحد يسعفه الخيال كي يتولى زمام الأمور، للخروج من حاضر صعب، رغم ريادة الثورة في تحرير تونس برمتها من منعرجات الارتكاسة!
ورغم أن الثورة نجحت وأعطت المثال، فهي ما زالت في حاجة إلى سعة في الخيال لكي تبدع دولة جديدة بقاموس جديد ومشاكل أخرى غير ما يعرفه الثوار قبل نجاحهم.. كما لو أنهم لم يبدعوا إلا ما يمكن أن يصله الآخرون بدون ثورة:
الردة
فشل النموذج التنموي
ضعف النخبة حينا
وخيانتها أحيانا كثيرة..
الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 16/01/2018