استبشرت خيرا وأنا أنتقل إلى هذا الحي الراقي. مجاورة الطبقة المخملية شيء آخر. لم أعتد على هذا الترف الاجتماعي ولكن لا يهم. تهذيب سلوكي وسلوك أبنائي يمر من هنا. المحاكاة ضرورية للتعلم. من صراع الغربان تعلم قابيل وهابيل العراك المفضي للقتل فكان أول قاتل ومقتول.أنا سأحاكي للتهذيب والتشذيب.
ليس من عادتي أن أتجسس على الناس ولا على البنات، ولكن هذا الوسط الذي انتقلت إليه جعلني أحس أنه أكبر مني. بين الفينة والفينة أسترق النظر وأقارن بين حياة وحياة.
بنات جيراني اللائي يدرسن في الثانوية جميلات وبهيات، أخمن أنهن من كوكب آخر. أراهن، بشكل يومي تقريبا، يخرجن من محافظهن علب الجبنة الطرية أو علب الحليب ويضعن ذلك للقطط المرابطة في الحي في صحن طيني اشترينه لهذا الغرض.ليس هذا فقط فهن يحتضن القطط بشوق متبادل وبفرح عفوي.
صباح الأحد خرجت هاربا من اختناق هذا الصمت المطبق حد القرف.الجيران لا يستيقظون حتى منتصف النهار. نهاية الأسبوع ليست ككل الأيام.أمثالي فقط من لهم أيام متشابهة.
ربي مولاي..أحن إلى حينا القديم حيث المتسولون والقطط والنباشة والمتشردون يتعاركون فجرا على براميل القمامة، وحيث أمي فاطمة تسير على فمها ثم تسقط ويحملها أولاد الدرب إلى كوخها، حيث با عروب حارس الحي يستمع إلى الراديو ليل نهار ويشرب أتاي كل وقت أكثر مما يأكل.حيث الفاطمي المقعد الأعمى العاجز على كرسي متحرك يدفعه حفيده وعندما يضجر يتركه ويذهب للعب مع أقرانه ويتركه يصرخ ملء فيه قبل أن يعود إليه…ربي مولاي كان هذا يجعلني أحس أن بجواري حياة، وأحس بأنني إنسان. لاشيء يشبه ذلك هنا. هذا حي وذاك حي.
أمام باب العمارة وقفت مشدوها لابنة جاري، ببياض وجهها الحليبي وصدرها النافر وخصلات شعرها السوداء التي تمايلها نسمات الصباح بتؤدة،وهي في ملابس النوم، تطعم قطط الحي برأفة وحنو. وقفت أتأملها ببراءة، فرجل مثلي حولت المآسي قلبه إلى رماد أسود آخر شيء يفكر فيه هو الحب. فقط تذكرت حينا القديم، يوم خرج الطفل «المنتوش» ينازع القطط بقايا عظام العرس فأكلت وجهه، ليغادر المدرسة بعد سخرية مقيتة وهازئة من زملائه داخل الفصل.كان طبيعيا أن تستوطن تلك الندوب وشما من الحقد والضغينة سويداء قلبه. ليلتها تعرض لضرب وسب وشتم بتهمة اعتدائه على قطط بريئة. أمه التي غدرها الرجل والزمان لم تقدر على نصرة ابنها الوحيد،بل شتمته لسوء تربيته جبرا لضرر الآخرين.
عاد المنتوش، بعدما اشتد عوده وقوي ساعده، ليسترجع دينا قديما من السخرية والاحتقار. يخرج ليلا يطوف الحي كثور هائج.يسب ويلعن بكلام نابي ومنحط حد السفالة.لا أحد استطاع أن يشكوه أو يؤنبه…سلطة الساطور وماء الحياة والهمجية والوقاحة أكبر من سلطة القانون. كثيرون من الذين أساؤوا للمنتوش في صغره، رحلوا لسببين: خوفا على حياتهم وحياة أبنائهم، وتجنبا للسخرية التي طالتهم يوم لجأ المنتوش في لحظة سكر طافح إلى إغلاق جميع البيوت ليصبح الجميع معتقلا في منزله حتى مجيء العساس الذي فتح الأبواب وحرر أصحابها.
الفئة التي لم تقدر على الرحيل ظلت صامدة وصابرة في انتظار فرج الله.المنتوش كان يزداد عداؤه وبغضه للباقين فتفنن في تعذيبهم، وهو الذي أقسم على ترحيل الجميع من هذا الحي كما رحلوه من المدرسة.
ولأن الغدر لا دين له ولا ملة له، استيقظ الجيران في أحد الصباحات الصيفية على جثة المنتوش جثة هامدة برأس مهشمة بعدما رموه بحجر ضخم من فوق إحدى العمارات.سالت دمعة ساخنة على خدي.لحظتها أحسست بيد جاري تضرب بعنف على كتفي وهو يصيح:
– تتحرش بابنتي يا قليل الحياء..
– اتق الله…أجبته بحقد دفين.
اجتمع سكان الحي وكثر اللغط.أولاد الكلب، دائما يتملكهم حقد دفين تجاه البسطاء، أولاد الكلب يعرفون قوتي الجسمانية وتحفزي الواضح للمعارك.رموني بتهمة قبيحة:رجل مريض يتحرش ببنت في سن بناته..وثقوا لفعلتي المدبرة بهواتفهم النقالة. لو قالوا مقامرا أو مفلسا أو سكيرا…أي تهمة ماعدا التحرش، لقلت نعم، وحملت الهراوة وكسرت أنوفهم وطحنت عظامهم..أقسم لكم، الهمجية ديني.
وقفت وسطهم عاجزا أتأمل وجوههم المغسولة بالحقد، أرى قلوبهم السوداء المنعكسة على صفحات وجوههم. وسط وضيع، منظر مقزز ومثير للاشمئزاز.يختفون وراء الثياب والسيارات الفارهة والبروتوكول الخاوية…لكن وجوههم عارية.لاشيء أقبح من القبح سوى وجه صلد. يسترون عوراتهم لكنهم ينسون أن الوجوه لا تستر تبقى عارية تشي بكل شيء.عري الوجوه أقبح من عري العورة…وجوههم عارية.
في تمثيلية بئيسة يتوسلون إلى أب البنت. قال واحد منهم مربوع القد في قميص صقيل: سامحه يا حاج..سامحه يا حاج…
هل الذي يتردد على بيران المدينة حد التبول على ملابسه حاج؟.. أولاد العبد
– قال آخر: لأجلنا سامحه يا حاج وادع له بالشفاء…
-قال ثالث: نعرف سماحتك يا حاج..اتق فيه وجه الله.
قال رابعهم، حاسما الموقف والقرار، الذي استحسنه الجميع: سامحه على شرط ألا يبيت هنا…ميبقوش اصفايحو هنا…
وجوه مغسولة

الكاتب : المصطفى فاتح
بتاريخ : 16/01/2018