«خلق العالم ليصبح رواية»
فولكنر
«الجامع والمرسديس» رواية ممتعة وغامضة في نفس الآن، لأنها تمزج بين زمن الكتابة والزمان الوجودي، وذلك من خلال استثمار حوار أسئلة الراهن. سأرغم هذه الأسئلة على مرافقتي في دروب الرواية الملتوية، من أجل أن ألقي بها في نعمة القلق الفلسفي، وبعبارة أوضح، كيف يمكن للتأملات الفلسفية أن تخترق الإبداع، الابداع الأبدي، وتنتج نصا روائيا يتناول الحاضر المضطرب؟ وهل يستطيع المبدع وضع الحقيقة في العمل في كتابه؟ وإلى أي مدى يحضر الباحث السوسيولوجي في العمل الروائي؟ هل بنفس القوة التي يحضر بها الفيلسوف كسارتر مثلا؟ وبأي معنى يمكن فهم جدلية الإبداع والفكر؟
لن نتعرف على هوية هذه الأسئلة خارج هوية هذا النص الروائي، الذي يسعى إلى تنظيم الراهن المغربي انطلاقا من تعدد الأزمنة التي تتسلل خلسة إلى الجوهر الإنساني، وتحوله إلى كينونة مصنعة قريبة من السقوط في الضياع الإيديولوجي. هكذا هو زمن الوعي المغلوط الذي يتخلص من الروح في العبادات والشطحات الصوفية ولعبة الشيخ والمريد. فهذه القسوة الشديدة على الروح تؤدي إلى تمزيقها والحكم عليها بالوعي الشقي وحرمانها من الوعي الذاتي.
تلك هي المعاناة التي تراكمت على امتداد زمن الرواية الذي يطل على القارئ من الفتحة المعتمة للزمان الوجودي، حين يزحف على بطل الرواية في عزلته لأنه اختار أن يصبح أستاذا للفلسفة في واقع جاهل غارق في التدين الشعبي.
ثمة معاناة يومية لهذا الاستاذ، الذي ظل يدافع عن العقل الألماني أمام سلطة العقل الإسلامي، بالرغم من اكتشافه المفاجئ بأن محرك سيارة المرسديس مزور، لكن إمام المسجد المتعصب للحقيقة الموروثة سيصدم هو نفسه حين سيكتشف بأن التوجه الى القبلة كما تركه المهندس مخالف للحقيقة، وكأن الكاتب يسعى الى جعل من الصراع حول الحقيقة هو الصراع الوحيد في الراهن المغربي. ولعل هذا الصراع له جذور في المناظرات الكلامية التي سيمثلها الغزالي أحسن تمثيل، لأنه على أرضية الجدل بين الشريعة والحكمة، يتحرك النص الروائي. والشاهد على ذلك أن الفرحة الصامتة للقارئ ستتلاشى في مساء متأخر بعد تعب شديد وتأمل قلق بمجرد ما يكتشف انهزام الإمام والأستاذ في نهاية الحكاية .
وحدها مرآة القلوب ستنتصر عندما تحقق غايتها طاهرة، وبخاصة وأن ظل هذه المرآة التي تختفي وراء حجاب استطاع أن يرخي أحلامه على بائع التحف المتشدد، ليمنحها تلك المرآة المقدسة بالمجان، بالرغم من أنه كان يرفض بيعها بأي ثمن. فهل يتعلق الأمر بدعوة الكاتب الى حرية المرآة من خلال المساواة والكرامة؟ ألا يكون تأثره قادما من تلك السنوات التي قضاها في شعبة علم الاجتماع بالرباط؟ ألا تكون هذه الرواية نفسها ترجمة للاوعي الدكتور اشقرا؟ بل ألا يكون أستاذ الفلسفة المناضل هو نفسه المؤلف؟
هناك أسئلة حاصرتني أثناء قراءتي لهذه الرواية ، ويمكن إجمالها في بنية «الجامع والمرسديس». وبعبارة أخرى، ما علاقة الجامع بالمرسديس؟ وما علاقة استاذ الفلسفة بالإمام؟ هل يتعلق الأمر بعلاقة الحكمة بالشريعة كما دافع عنها ابن رشد في مواجهة الغزالي؟ وهل تتنبأ الرواية بصدام العقل بعدما وصلنا الى صدام الأديان؟
ثمة رغبة شغوفة بالزمان إلى درجة أن زمن الكتابة استطاع أن يتمرد على الزمان كسيرورة كلاسيكية، تحاول أن تقرب بين لحظة الماضي والحاضر في أحلام المستقبل. نجد أن زمن الحداثة يقاوم زمن التصوف، كما أن زمن ابن رشد يقاوم زمن الغزالي، وأن زمن الفلسفة يقاوم زمن التطرف الديني وزمن مرآة القلوب تثبت وجودها على حساب سلطة الرجل التراثي المتشدد. هكذا سيتم الانطلاق من زمن اللعنة إلى زمن النعمة ومادام أن الزمن هو الممزق الأعظم، فإن بارميند كان ينظر إليه كطفل يلعب بالنرد.
ومع ذلك، نجد الكاتب يسعى إلى معانقة الماضي في الحاضر من أجل تحريضه على السير نحو المستقبل، لأن الزمن الحاضر قد ضاع في الصراعات الايديولوجية. ولذلك فإن اكتشاف الوجه الحقيقي للحقيقة سيجعل القارئ يعترف بأن الحقيقة تقتل، بل أكثر من ذلك إنها تقتل نفسها حين تتعرف على الوهم كأساس لها، وبخاصة وأن المؤلف يربط زمن السعد بزمن الحقيقة، حيث نجده يردد بأن الوقت الذي يفسد هو نفسه الذي يصلح.
فتبدل الحال لا يأتي من المدد يا صاحب المدد، بل من ماهية الزمان الميتافيزيقي، لأنه هو الجوهر الإنساني. وبلغة هيغل الروح زمن، وكلما كان الزمان مديدا كلما اكتشفت الروح وعيها الذاتي وشيدت لنفسها مسكنا شاعريا في الحقيقة. والرواية تثبت سيرورة الزمان من خلال صيرورة الوجود والشاهد على ذلك ولعها بالشطحات الصوفية.
تلك هي العوالم الممكنة والمستحيلة في رواية «الجامع والمرسديس» التي تشهد على أن التراكم لا يأتي من العدم، بل من الوجود كما يرسمه الفنان ويكتبه الروائي ويتأمله الفيلسوف. وبما أن عثمان أشقرا قد جاء إلى الابداع من عالم التأمل الفلسفي، فإن جمالية الكتابة تستمد عمقها من الأصل الفلسفي. إنها كتابة شذرية يؤثثها وميض الغموض.