قراءة في «رماد بطعم الحداد» للقاص مصطفى يعلى
في رسالة مفعمة بالبوح كتب محمود إلى سميح القاسم:
أكتب إلي….. أكتب من أجلي ….لأقرأ نفسي بطريقة سليمة، وصدق حبرك المصنوع من غيمة. لقد جربت وتغربت واغتربت فلم أجد أصفى من تلك المرآة[1].
(محمود درويش، سميح القاسم الرسائل، تقديم محمد بنيس/ دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، 2015، ص 67)
مرآة يتسلح فيها كل شيء باللغة ، إنها مرآة الكتابة التي تعيد التقاط الأحداث السارحة في الذاكرة والتواءات دورة الحياة.
أظن أن القصة القصيرة بوصفها شكلا من أشكال الكتابة الأدبية لم تعد بتحولاتها السردية المتسارعة قادرة على التشظي أكثر من تفكك عالمنا الذي تتمهزل فيه الجماليات بتتابع مستمر وانحدار نحو مزيد من الضجر والاغتراب واليأس أمام مشهد تحشر فيه شخصيات مجتمع القصة كي تتأمل مصيرها على حافة القيامة .إذ لم يعد أمام الكائن البشري سوى ذلك الحداد الذي يطل من وجوه كثيرة وقصص مكتظة بمشاهد ساخرة من المواقف والأفعال. هكذا يتحول الحداد إلى كلمة السر التي تفتح العلبة السوداء لنصوص «رماد بطعم الحداد» للقاص المغربي مصطفى يعلى، والتي يتوزع فضاؤها النصي على مائة واثنتي عشرة صفحة قدم من خلالها القاص عشر قصص. وهو قاص مغربي وأكاديمي معروف، خبر حدود جنس القصة وعاش تحولاته، فأغنى المشهد القصصي إبداعا ونقدا ابتداء من سبعينيات القرن الماضي إلى جانب كتاب دفعوا بالكتابة السردية نحو تجديد طرائق حيازتها للعالم داخل اتحاد المغرب وخارجه في تلك الفترة ،وقد صدرت أولى مجموعاته قصصية سنة (1976 )» أنياب طويلة في وجه المدينة « ليصدر بعدها «دائرة الكسوف» (1980) و»حالة الصفر»( 1996) ،و»شرخ كالعنكبوت» (2006)، و»رماد بطعم الحداد» (2015) عن دار الأمنية بالرباط ، المغرب(2015) ، وتميزت تجربته باشتغال المتخيل بطريقة خاصة يتم فيها تعجيب السرد وتوظيف السخرية والتهكم ، واستلهام مخزون المحكي الشفوي ، وله دراسات كثيرة في السرد والقصص الشعبي.
يأخذنا عنوان هذا العمل ، هذا النص الصغير المفتوح على تأويلات عديدة إلى مواد القصة وإلى تلك الأصوات السردية التي تتفرج على انهيار النفس البشرية المنسوجة بخيوط الخيبة والضياع والاغتراب. فإذا كان الرماد يحيل على بقايا شيء محترق، فإن دلالته تتوسع لتؤشر على الموت الذي يرافقه احتراق يطمس معالم الأشياء والكائنات ويحيل الوجود عدما . وهذا التحول تتقبله الذات بمرارة وحداد ومأساة وحزن على فقد هذا الوجود.
العنوان مشدود كوتر إلى أحداث النصوص والعينات الاستهوائية ، لكنه يتملص من أن يتبنى عالم قصة واحدة فقط من نصوص المجموعة بل يرخي بظلاله على أجواء العمل ككل. وربما قد يضاعف العنوان الإحساس بالحزن على فقد شيء ما ليحوله إلى شكل من أشكال المقاومة التي تعيد ترتيب العلاقة بين الذات والمجتمع والوجود، من خلال جنس أدبي نظر له القاص أيضا وأغنى خصائصه بالشكل الذي جعل منه جسرا للمرور إلى تشخيص جراح غائرة لمجتمع يبحث عن لحظة تماسك وتوازن .
تساهم عبارة خوان رولفو «لاتخرج القصة القصيرة عن ثلاث موضوعات هي «الموت والألم والحب» في تخصيب الحديث عن خصوصية العوالم القصصية والموضوعات التي تتخلق في أمداء الرؤية القصصية لهذه المسرودات. إذ من هذا المنظور، يحق لنا أن نتساءل، أليس العالم اليوم محكوما بهذه الثيمات التي أثارها خوان رولفو وما علينا إلا أن نتقاسم الحياة على أساس زوايا هذا المثلث ؟
يستوحي القاص مصطفى يعلى في منجزه الإبداعي القصصي هذا التجاور بإحداثيات إنسانية تطبعها الغرابة، تتقمص الفضح والألم والسخرية والتهكم من زاوية الاحتجاج على ما يضمره ويظهره الواقع من قطاعات تتجاوز حدود التخييل، بل تفرض على التخييل أن يصبح شهادة بازغة على أعطاب المجتمع، وما تحفه من أشكال العبث بالمصائر والظلم والأوهام التي تحملها شخصيات منزوعة الإرادة ، يقودها اليأس إلى يأس جديد.
يتبدد وهم الإنسان في قصة «حالة مستعصية» ، فيغدو رجل السياسة غريبا بين الناس، لا ينتبه إليه أحد في دخوله إلى المقهى وخروجه منه ، يكلم نفسه في مشهد يكشف وهمه المتخم بالمرارة ، يقول السارد: والآن ما بعد يا بطل؟
أين ثقتك الحديدية في قدراتك المترامية الضفاف؟ ها أنت قاب غفوة أو أدنى أيام من انتهاء اللعبة المستنزفة ….خسارة. فماذا فعلت لك أوثانك السحرية الساحرة المكدسة في مغارات علي بابا الشرقية والغربية ؟.( رماد بطعم الحداد ، ص 10)
تتفجر لعبة الوهم والانكسار والألم عندما تتظاهر القصص بالبساطة والبراءة لكنها تخفى عمقا أكثر ثراء عندما تنتزع القارئ من طمأنينته الزائفة لتقف به وجها لوجه أمام دهشة الحياة ومشاهدها الخانقة. فعبر محكي الطفولة في قصة «اعتذار مؤجل « التي يقدمها السارد بضمير المتكلم، يعيش بطل القصة مترددا على الباب بعد كل نعيق الجرس الباب الخارجي ليكتشف مكر أطفال كانوا يلعبون، الأمر الذي سيوقظ في نفسه ذكريات الطفولة، وكأن هذه القصص تدلنا على فردوس مفقود وتعرض لانهيار الأحلام في الحاضر.
إننا أمام قصص تقدم نماذج من شخصيات قلقة ينبع توترها من وجودها في واقع مأزوم، ففي قصة «رجل ممصوص حتى العظم»، يتحول الرجل العملاق والقوي والصنديد الذي يصلح رافعة نموذجية للحاويات بالميناء عبر امتساخ إلى «رويجل» مثير للشفقة . يقول السارد في نهاية القصة» ارتمى علي يعانقني بلهفة محيرة ، ثم انخرطت مدامعه في شهيق نسوي» ( رماد بطعم الحداد ،ص 29 ). وليس هذا المحفل السردي هو الوحيد الذي تطل منه نماذج سقفها مطالبها من الحياة محدد سلفا. وهذه الخاصية قد عبر عنها فرانك أوكونور بقوله :» يوجد في القصة القصيرة دائما ذلك الإحساس بالشخصيات الخارجة عن القانون ، التي تهيم على حواف المجتمع» ( فرانك اوكونور ،الصوت المنفرد ،ترجمة محمود الربيعي ، في نظرية القصة ،منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب ، الدار البيضاء ، الطبعة 1 ،ص 74).
تتقاطع قصص هذه المجموعة عند تقديم الحياة بوصفها سلسلة من الانهيارات والتراجعات( حداد، سكتة زمنية، ابتسامة غامضة ، باقة لسلة المهملات، أحلام محبطة) لأنها بتعدد سرادها وأفضيتها ووحداتها الزمنية ولغتها التي تجمع بين الكلمة القصصية والصور والنعوت، تلامس قضايا إنسانية وحالات إنسانية تقض مضجع أبطال القصة وتجرفهم في حالة من الاستسلام لتنتهي بالسخط وعدم الرضا والتحول من الإعجاب إلى الخيبة، وليست نهاية قصة «الحديقة العجيبة» بالنهاية الوحيدة لهذا الحس الإنساني المثقل بالانكسار والحداد على خسارات فردية وجماعية ، إذ ينتهي اللقاء بين البطل وعشيقته باكتشافه زيف مشاعرها وانجلاء سذاجة وعيه… وحده صوت القصة يحتج على ذلك السهو الذي يعتري حياة شخوص جوفها لا تمر من شعابه فلول اللحم ولا الفاكهة، ولو نادرا، شخوص مثقلة بالنسيان والعجز.. جاء على لسان السارد :»والبارحة ،انخرط دماغه ، أكثر من أي لية مضت ، في عمليات معقدة غير مسبوقة ، من الضرب والقسمة والجمع ، دون الطرح طبعا. فسها عن كم قنينة الغاز جيدا. ( رماد بطعم الحياة ، ص 108)
تصغي القصص إلى جرح وأعطاب المجتمع بقصصية تجعل من القصة شكلا من أشكال الكتابة التي تضغط أفقيا على الوجود من فوهة ناي ضيقة كي تدفع القضايا الحساسة في المجتمع إلى الهامش حتى يتسنى للمحكيات أن تسخر، وتنتزع الواقع من القيم والأعطاب التي تعمل في بنيته. فالروح في الحاضر تحولت إلى رماد بفعل الخيبات، والعزاء الوحيد المتبقي للإنسان هو الموت الذي لا تنفلت منه الشخوص إلا بالعودة إلى داخلها مادام الخارج مصدر ألم وجرح. ففي قصة «رماد بطعم الحداد» وهو عنوان آخر منجز إبداعي للدكتور مصطفى يعلي، يقوم هذا العنوان على انزياح مركب يشي بوضوح أن العالم الذي تستوحيه كل القصص هو أكبر من القصة. إذ القصص هي خيبات وسخرية من حيوات تملأها البطالة والتعاسة وانهيار الأحلام والهشاشة والغباء. العالم أكبر من طالبة مهندسة، أو طالب أدب عاطل، أو عم يشغل منصبا سياسيا.
من هذا المنظور فقصص ومحكيات مصطفى يعلى تتأبط الخيبة واليأس والصمت والتيه والحداد «وتنكيس العلم مدى الحياة «.( رماد بطعم الحداد ، ص 39)
تقف شخصيات مجتمع قصص مصطفى يعلى على حافة الشروخ المهددة بالنسيان، وتباعد الهوة بين الذات والعالم، وأمام هذا الإحساس بالاغتراب تستوقفنا المحكيات بتقديم عوالم مأهولة بالهزء والمفارقة والدهشة والأضداد والسخرية بشقيها الموقفي واللغوي بهدف تجسيد إشكالية الإنسان المعاصر في مواجهة حياة مليئة بالقسوة على الروح والجسد، والعلاقات التي تتحول إلى موت يستحق الحداد وتنكيس الأعلام.
إن رهانات الوجود الإنساني المشدودة إلى الوهم دفعت الكاتب نحو مزيد من الدقة والحرص على صيانة عالمه عبر فضح نواقصه، وكشف الصراع الضاري بين الإنسان ونفسه من خلال البحث عن جسر يربط النص بالعالم والعكس صحيحا، وسوق بعض الأبطال وتمريغهم في ساحة الاعتراف في جو مضحك ومبك في نفس الوقت.
هناك أفق تشرعه نهايات المحكيات وتؤسس له ، إذ تجمع بين انفتاح الشكل والدلالة ، انفتاح على خسارة أبطال يسارع القاص إلى احترام واقعهم عبر تسريدات وآليات تشخيص يمتزج فيها العجيب بالساخر:» ود لو يعانقها بقوة مائة حصان « (رماد بطعم الحداد ، ص 46 ) .
وإذا كانت المحكيات تنحو منحى الحفاظ على الحكاية واستغلال مواد متنوعة لبناء القصة، فإنها تجعل الأبطال والأحدات على مهاوي السقوط المؤدي إلى الموت ، لنتوقف عند النهايات الآتية: «وفي الأخير تمخض تفكيره عن قرار لم يصدقه هو ذاته .تناسى المسافة الفلكية التي تفصل بينهما .ولم يملك إلا أن يتقدم إليها بباقة ورود مرشوشة بألوان قزحية يغلب عليها لون الدم» (رماد بطعم الحداد، ص 72) ، ولنقرأ أيضا «…وأعينه الخاوية متصلبة تجاه السماء، سابحة في الزرقة المتناهية ،غير آبهة لكلمات الندب وولولات النواح التي حاصرته ضوضاؤها، في حين تجمد هو في مكانه مرة أخرى ، كما لو كان قطعة ثلج، وكأنه مات». (رماد بطعم الحداد، ص 103 ) .
هذه النهايات تتصادى فيها المصائر المتشابهة ، وكأنها نسخة واحدة لتجارب إنسانية مختلفة تنتهي بالموت والحداد ويمكننا استخلاص ذلك الرهان الذي يميز هذه التجربة وهو الاحتفاء بخطاب النهاية ، التي يحيل عليها العنوان وحقل معجمي دال في المجموعة ( الرماد، الحداد ، الموت ، الخريف .. )، وتجسده نهايات محزنة في كل قصة. من هنا تنبع أهمية النهايات في الأعمال السردية التي سبق وأن نبه إليها بارث وعالجها الناقد المغربي «عبد المالك أشهبون».
إن دورة الحياة مجرد استنساخ لأفعال وهمية وظنون تحول معها الخطاب القصصي إلى خطاب احتمالي، وأضحت فيها الشخصيات خارج حدود الممكن حيث يصبح الاستنساخ والتحول هواية الانسان في الحياة كما سبق وأن تواتر ذلك في قصة «شرخ كالعنكبوت» التي تبدو فيها الكائنات والأحياز وعناصر الغرفة كعنكبوت هائل يجسد الإحساس بالغرابة في علاقة الإنسان بعوالمه الواقعية والمتخيلة.
تبدو تجربة القاص مصطفى يعلى مشبعة برمزية تمتح من عوالم عجيبة وغريبة تغلف الواقع، وتوهم أن الوقائع المسرودة والمعروضة ليست سوى بنات خيال كما ذهب إلى ذلك الناقد «الحبيب الدايم ربي»، وهو رهان شغل كبار كتاب القصة القصيرة في العالم .
هذا العمل ينطلق، إذن، من الواقع ليحلق بعيدا عنه فوق العجائبي والأسطوري، موظفا السخرية والمفارقة وتقنية التوالد الحكائي (قصة بارابول ) التي يتوالى فيها السرد عبر عرض مادة إخبارية ينتقل فيها السارد من قناة إلى أخرى.
هكذا تتقصد القصص عبر تقنياتها المختلفة إلى إنتاج أسئلة مختلفة حول التلاعب بمصائر الناس كأن يتردد الرجل على إدارة دون أن يحصل على وثيقة إدارية، في مقابل كائنات أخرى تنعم بكل ألوان البذخ والحقوق .
القصص طريق للامتعاض مما يقدمه الواقع وتعرضه وسائل الإعلام من مشاهد عبر أسطرة للأحداث والميتا حكي، وتعميق المحكي في تربة المحلي باختيار أمكنة مرجعية كالقصر الكبير والثكنة العسكرية بالقنيطرة. وبالرغم من أن الناظم السيميائي يوهمنا بعدم التدخل في عالمه، فإنه حاضر في توجيه المحكيات يرفض ويقبل، ويسخر، وينتقص في قصة «المستنقع» و»الجليد يمتنع عن الذوبان»، بل يستاء من تبعية الناس للخارج ويصف أحوال المسافرين والعربات التي تلتهم واقع حياتهم.
يدرك قارئ أعمال المبدع مصطفى يعلى ثراء تجربته القصصية وغناها في فضاء مطبوع بالتعجيب والتحول والمسخ والحلم، وتقشير الواقع والأبطال والحياة الضاغطة في الذاكرة و الأوعية المتضاربة، والدواخل المرتبكة في مواجهة مصائر شخوص بلا مزايا ، مواجهة ذوات تدفع بالمحكي نحو اختبار السلوكات والمواقف والمخزون الذي يعتمل في الذاكرة.
ولئن كانت أعمال المبدع مصطفى يعلى تحضن عالما تتزاحم فيه الدلالات وتتجاور فيه الأقنعة بشكل مفارق يزيد المحكيات جمالية ، فهي تقيم مجابهة بين الواقع واللاواقع كي تجعل من القصص فضاء حيويا على تخوم حُفر النفس المنسية المنسوجة من الانكسار والخيبة .
إن قراءة تجربة القاص مصطفى يعلى تبدو طاعنة في العمق الفني والدلالي بإحكام البناء وأسطرة الأحداث، والحرص على الحكاية وأشكال تمثيلها والعناية اللغة، وتعدد سجلاتها التي تحول الفضاء المتخيل إلى أيقونة بصرية تتصادى فيها الأمثال والخطاب الديني والشفوي وعينات استهوائية تعيش الحداد وتشهد سقوط القيم والأقنعة.