تهجير داخل الوطن

بديعة الراضي
لفت انتباهي وأنا أسترق زمنا من انشغالاتي الإعلامية ، بين مكتب الجريدة بالرباط، ومؤسسة البرلمان ،لأتناول غذائي السريع في الجوار، احتجاج العشرات من مختلف الأعمار، نساء ورجالا وأطفالا، من ساكنة «دوار الكرعة « ضد ما سموه، الاحتجاج ضد التهجير.
ولا أخفيكم قرائي أن متابعتي لهذا الملف المتعلق بأقدم حي عشوائي بالعاصمة الرباط، تعود لسنوات، عندما كان دوار الكرعة ودوار الكورة ، يستفزان المارة من الأجانب والدارسين المتسائلين عن استمرار دور الصفيح في عواصم المملكة وفي مقدمتها الرباط. كما لا أخفيكم أني تابعت من موقعي الإعلامي الحيف والظلم والقهر، الممارس بالفعل داخل الأزقة الضيقة المظلمة لدوار القصدير، على ساكنة تختنق لتختار أن تتنفس هواء بحر المحيط.
كما تابعت الانشغالات المجتمعية، والأسئلة القلقة، تُجاه ما يمكن لهذه الأحياء أن تنتجه من ظواهر وانفلات أمني، من الصعب تدبيره داخل أسوار بنيت لتحاصر واقعا، لكنها لم تستطع إخفاء المعاناة الحقيقية للساكنة، لكنها بلورت عوائق نفسية واجتماعية تراكمت حتى أصبح من الصعب وجود حلول سريعة لها اليوم ،كالترحيل لبشر على وجه السرعة من هامش إلى هامش آخر أكثر قسوة ، هامش يضرب في عمق لقمة العيش، بمجال غير مقروء، في الصحة والتعليم والتشغيل والنقل، وشروط السكن اللائق.
إن معاناة هامش المحيط ، لم تبدأ بالتفكير في تغيير شكله، أو إخراجه من نمط عيش الدوار إلى نمط عيش المدن العصرية، بل إنها معاناة ناتجة أولا عن الصمت عن تفريخ مدن الصفيح، والتي لم يساهم فيها الوضع المعيشي لمغاربة الهامش فقط، بل ساهم فيها وبكل شفافية من استغلوا هذا الوضع، إما لجعله مجالا خصبا لخرائط انتخابية، أو حلا سهلا لظروف اجتماعية، في غياب حقيقي لبرامج تنموية تضع الإنسان في مقدمة التفكير لحلول استراتيجية تنموية تجعل من مجالنا أرضا لإنجاز الفعل التنموي، لا أرضا ينجز عليها هذا الفعل قهرا وترحيلا، وتكريسا لأحقاد اجتماعية تنعكس سلبا على نفسية أبنائنا في المستقبل، والذين يتضح من خلال الاحتجاجات المتتالية لساكنة دوار الكرعة ، أن هؤلاء كجيل ثالث لساكنة الدوار الذي يعود تاريخه إلى مئة سنة ، يعتبرون إبعادهم تهجيرا من وطن مصغر في ذاكرتهم، إلى خارجه، وطن يطلون منه على المجال الحضري ، وكأننا إزاء مجالات قروية اندست في هذا المجال نتيجة عوامل مختلفة، أنتجت وضعا معقدا يصعب الفصل فيه –إذا خضعنا لمنطق المواصفات- بين المدن والقرى، أو بتفسير أكثر دقة عندما ننتج مدنا بمواصفات قرى كبيرة، نتوجه فيها إلى إخفاء معالم القرية بأسوار أنتجت تداخلات مجتمعية في كافة الواجهات.
لا أحدَ منا ضد الإصلاح، والتصويب، كما لا أحدَ منا يسبح ضد تنمية مجالاتنا، لنقول للعالم إننا نملك نفس مواصفاتهم في إنتاج مدن عصرية، لكن لا عاقل منا يتصور ذلك بناء على ثقافة الآجور والإسمنت، يغيب فيه الرأسمال اللامادي وفي مقدمته الإنسان، ساكن المجال والفاعل فيه، والمستمر في الحفاظ عليه.
ولهذا، فالأمر لا يتعلق بشيك تحت الطاولة أو فوقها، أو بمبلغ مالي ، أو بإحصاء ينشط فيه الشناقة في الإدارة وفي الحي العشوائي نفسه، كما أنه لا يتعلق بتبادل الاتهامات بين الساكنة ومدبري الملف في الإدارة والشركة، كما لا يتعلق باحتجاج يتلوه اعتقال ومحاكمة وسجن، واستئناف، ثم خروج، فكتابة، فصحافة، فتسجيلات على اليوتوب، من أجل النشر على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي، أو يتعلق بحشر اسم ملك البلاد ومطالبته بالتدخل العاجل لإنقاذ أسر من حقها أن تقول للمعنيين أن تدبيرهم لملف الترحيل لم يكن في مستوى تطلعاتهم في العيش الكريم.
إن الأمر أكبر من ذلك، مثل الحلم بالمشهد الجميل في التقدم والتطور، والذي دفع منتجوه بالدوس على رؤوس مواطنين، في عقر أرض، علمهم الزمن المتراكم أنها لهم وهم من يقرروا الرحيل منها، أو إنشاء أرض من الأعشاب للنوم عليه، بغطاء من السماء.
ولهذا، فغياب الحوار الفعلي والمنتج مع المعنيين من الساكنة المطالبة بالبقاء على أرضية دوار الكرعة دون الانتقال إلى عين العودة واستبداله بالقوة وبالمساطر القانونية الجافة ، لن ينتج لنا إلا هدما للإنسان الذي نتوق اليوم إلى جعله في مقدمة بناء مستقبل مغاير عادل ومنصف. مستقبل لا يمكن إنتاجه دون التعامل مع ساكنة الحي العشوائي الذي عمر مئة سنة، والتي ما زالت تملك سومة الكراء الشهري ، التي تثبت شرعية التواجد عبر ثلاثة أجيال.
فلماذا نعمل اليوم على توجيه الاتهام إلى كل هؤلاء على أنهم محتلون ، وغير قانونيين، وأن عليهم أن يقبلوا قهرا تصورنا لمجال جديد، لا يعنيهم، وليس لهم أي حق في التواجد فيه، ولا حق لهم في التشارك والمشاركة، وأن إبعادهم إلى عين عودة أو إلى «الثلث الخالي» ، هو إحسان تقوم به الحكومة رأفة بهم، وشفقة عليهم كي لا يظلوا في العراء، وأن العراء يهددهم إن لم يخضعوا لمساطرنا، التي وإن لم تطبق فالمصير هو التصادم مع رجل أمن، مضطر لاستعمال القوة عندما يغيب الغضب ما تبقى في عقل امرأة يهدم العش الذي بنته بأمل في تربية صغارها على الأقل بجانب الكبار منا.
إن هذا التوجه في معالجة ملفات بهذا الشكل لا يمكن أن ينتج إلا مجتمعا ممزقا، مهزوزا من الداخل، يتفاقم في داخله رفض المؤسسات بمختلف أوجهها، والتفكير في مواجهتها، والاعتبار أن الوطن لا يحتوي الجميع، وأن العدل غائب فيه، وأن الكرامة محجوزة للبعض، وأن هناك من يمتطي الظهر ، وأنهم، من الممتطى عليهم، كدواب على الله رزقها، وأن الرزق في هذا النمط من التفكير ينتزع ولا يعطى، وأن الانتزاع درجات،حد حرق النفس، أو حرق المجتمع، وأن رفضهم للوضع وتسميته ب»التهجير» ناتج عن أن السيل بلغ الزبى، أي أن الغضب أوصلهم إلى حافة الحفرة، فإما التراجع أو السقوط أو مغامرة التجاوز التي لا يمكن أن توصلنا إلا إلى التصادم ، في الشارع المنتج للخراب في جوارنا.
ولهذا ندعو إلى فتح باب الحوار الجدي والمسؤول والمتكافئ مع أصحاب الحق من مواطنينا، كي نصل إلى الهدف المنشود في رسم معالم الجمال على وجه الإنسان قبل رسمها على أسوار المدينة.
الكاتب : بديعة الراضي - بتاريخ : 25/01/2018