إلى الأستاذ محمد العربي العسري
] ترأس ميشو بلير «1857-1930» مسؤولية الإشراف على إدارة البعثة العلمية 1907 وذلك من أجل تمهيد الطريق للسلطات الاستعمارية لاحتلال المغرب، يعتبره المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي مؤسس السوسيولوجية الكولونيالية، بعد إقامة عابرة بطنجة ووزان، استقر ميشو بلير بمدينة القصر الكبير و تزوج من امرأة فاضلة من العائلات المشهورة بالمدينة تسمى الحاتمية وكان يسكن بدرب « الهداجي « في دراساته وأبحاثه السوسيولوجية يهتم ميشو بلير بسوسيولوجية المخزن والسوسيولوجية الإسلامية ثم السوسيولوجية المغربية التي تدرس «القبائل البربرية «.
عرف عنه غزارة في الإنتاج، درس اللغة العربية بسوريا، له مصنفات عديدة تشمل دراسة مدن وقبائل المغرب والأرشيفات البربرية و ترجمات لفقه المذاهب الأربعة وعلم التجويد وأبحاث سوسيولوجية عن أراضي الجموع[
يمكن مقاربة المجتمع المغربي من خلال جوانبه المتعددة، لأنه يقدم صورة عن انقسام اجتماعي بالغ التعقيد، وهذا يتطلب اعتماد الدراسات القائمة على الرصد والملاحظة في مجالات التجربة المحدودة جدا. إن تنوع المرافق الإدارية والاجتماعية، يزداد تعقيدا عبر تراكم المؤسسات المرتبطة بسياقات تاريخية مختلفة، أو في المدن الساحلية التي تعرف تحولات عابرة، نتيجة للاحتكاك والتفاعل الأوروبي. وذلك من أجل استخلاص واستنباط صور دقيقة عن الواقع المغربي، اعتمادا على الإكثار من توظيف الاستبيانات المحلية، دون الاقتصار على القياسات والمقارنات الجزئية، التي قد تستبعد وجود التمايز و الاختلافات.
يبدو واضحا أن النظام الإداري مثلا في مدينة طنجة، يعتمد على وجود ممثلين عن السلطات الأوروبية، مما أدى إلى مهننة الوظيفة الادارية، كما أن ممثلي المخزن كانوا يمتلكون سلطات حقيقية لكنها بقيت محدودة، لأن الإدارة الخاصة بالسكان الأصليين، تبقى على نطاق واسع منحصرة في المدن المغربية، لكن مع خصوصيات تنظيمية في تدبير الشأن المحلي، تمثل تنويعا لنموذج عابر
لذلك، فإن الخليفة khalifa الذي يقوم في طنجة بمهام الأمين العام المسؤول على محافظاتنا،و يشغل كذلك، وظيفة المحافظ الذي ينوب على موقع العامل ويتواصل مع الهيئات القنصلية. لم يعد موجودا في مدينة القصر الكبير أو في غيرها، وتحول إلى مجرد كاتب خاص ينوب عن العامل الغائب. فهو لا يتوفر على أجرة شهرية أو سلطة إدارية، ولا يزاول مهامه بالصرامة اللازمة عند نيابته عن العامل (Amel) إلا عند الضغط على دافعي الضرائب من المواطنين المغاربة، أو عند وجود شكاوى من قبل موظفي القنصليات،حيث نجده يختفي بدعوى عدم درايته ومعرفته بالموضوع، ليجعل أصحاب العروض من الأوروبيين، ينهلون عليه بتقديم الهبات السخية، للحصول على خدمات الدولة بواسطة اكترائها.
يعمد الأمين (Amin) والمبعوث أو الموفد Mufad إلى طنجة، إلى إبراز كل اجتهاداته القانونية المطلوبة من أجل ممارسة وظائفه، إنه لا يفكر في استغلال نفوذه، لأنه يتمتع بأجر يناسب مكانته في هرمية الجهاز المخزني. أما في مدينة القصر الكبير فإن الوضع مختلف، حيث لا يهتم الأوروبيون بالخدمات العمومية، لأن «الأمين» نظرا لضعف أجرته الوظيفية، فإنه يستغل تلك الخدمات العمومية لمصلحته الخاصة. كذلك هو الشأن عندما يتعلق الأمر بوظيفة الناظر Nadhir والمحتسب Mohtassib تحديدا، الذي يعمل بطنجة، حيث يتلقى أجرا محترما، لأنه يخضع هناك لمراقبة يومية من قبل السلطات المحلية والسلك القنصلي، أما في القصر الكبير فإن (الناظر) والمشرف على أموال الوقف أو المحتسب، فإنه يعتبر بمثابة طاغية حقيقي، يتصرف كما يحلو له، في الزيادة أو خفض تسعيرة السلع الغذائية، دون وازع ديني يردعه، حيث يلزم التجار العاملين تحت إدارته بتسويق سلع فاسدة لحسابه الخاص، بعد مصادرتها من تجار آخرين، كما أن الناظر يفرض على جميع التجار، دون موجب حق، إتاوات ضريبية زجرية، ترفع من قيمة راتبه الشهري، الذي لا يستلمه من المخزن بل مباشرة من التجار.
في النظام التجاري والصناعي كانت التعاونيات القديمة، تتعارض مع المصالح المتبادلة لسلطة المخزن المفرطة، التي لم تستطع مواجهة الضغوط الأوروبية، لهذا السبب قامت بتقويضها، ففي مدينة طنجة لم تعد موجودة، أما في القصر الكبير، فقد بدأت تختفي، لكن ما يزال من الممكن دراسة منظومتها، وتعويضها من قبل الحماية القنصلية، التي أجهزت بتؤدة على المؤسسات المغربية العتيقة.
لكن كما سنرى ذلك، في حارة (سوق الحايك Souq al Haik) والدباغين، فإن المقاومة ستنتظم وتنهض داخل الحركة التعاونية الكسولة، إن دراسة مفهوم الملكية نفسه، له أيضا، مميزات دالة، كانعدام الأمن الذي له أثر ملحوظ على نمو الملكية الفردية. التي قد تتعرض كذلك إلى المصادرة من لدن المخزن، مما يدفع بالملاكين إلى تسليم ممتلكاتهم كهبة إلى نظارة الأحباس، مع الاستغلال المرحلي والمؤقت لها. وذلك حتى يستفيد منها أبناؤهم وذريتهم، ومن تم صار من الممكن نمو وكثرة الملكيات والأوقاف الدينية ecclésiastiques التي وصلت مساحتها إلى ما يعادل ثلثي مساحة المدينة، ومن الواضح أن الرعاية القنصلية قد تساعد على تشييد وتطور قطاع الأحباس.
وأخيرا، نجد في الشأن الديني . أن مصلحة المخزن، تكمن في اندثار الجرم Jorm الذي فقد أهميته مع التغلغل الاستعماري الأوروبي، حيث نلاحظ أن سطوة الشرفاء صارت تتقلص وتتضاءل يوما بعد يوم، كما هو الحال في طنجة. أما في مدينة القصر الكبير، فقد بقي مفعولها حاضرا بقوة حتى الآن، هناك اختلافات ما زالت موجودة حتى في الشأن الديني، كزاوية القناطرة Qnatra التي تعتبر طائفة تم إجهاضها، بينما زاوية (القجيريين) بالرغم من جمودها الواضح، فإنها ما زالت تمتلك قوة حيوية، يمكنها أن تستعيد وهجها ولو باعتمادها على اندفاع وحركية شخص واحد.
لكن بعيدا عن سطوة المخزن وأوروبا، فإن بلدة القصر الكبير، التي ترتاح في هذه المنطقة المترامية الأطراف، يمكنها أن تقدم لنا صورة مصغرة عن المجتمع المغربي، من زاوية تختلف عن تلك التي عرفناها عن مدينة طنجة. وفي نفس المنطقة، نجد نموذجا مغايرا يتمثل في مدينة وزان، التي يهيمن على الحياة الاجتماعية فيها، تأثير أكبر لسلطة المخزن، ولكي نصل إلى تقديم صورة عامة عن المؤسسات الدينية في المغرب، علينا أن نكثف من تقديم الملاحظات الجزئية والتفصيلية، التي تظهر لنا عند كل خطوة مرحلية، طبيعة التحولات التي تعرفها على مستوى تطورها المحلي.
تمتد مدينة القصر الكبير وسط سهل فسيح، على حدوده الشرقية توجد تلال شديدة الانحدار : هي جبل أهل سريف وجبل غني Reni أما الأقرب إليها فهو جبل دريسه Drisa المكسو بدواوير وأشجار الزيتون، وبعيدا عنه، من جهة الشرق، يوجد جبل صرصر Sarsar حيث تتراءى مدينة القصر الكبير للمسافر القادم من طنجة، كواحة خضراء بازغة من وسط صحراء قاحلة، تسكنها قبائل «الخلوط» (khlot).
هناك حزام من حدائق محاطة بجدران من طوب أحمر، وبساتين الزيتون وأشجار البرتقال والرمان، التي تمنح عند الإطلالة الأولى على المدينة الصغيرة، جوا من البهجة والحبور. لكن هذا الانطباع الإيجابي سرعان ما يخبو، عند لحظة ولوجها، عبر شبكة من الأزقة الضيقة الملتوية والعفنة، لكن حقيقة الواقع الحالي، لا تبرر اســـم هــذا «القصـــر الكبيـــــر» le grand chateau الذي كان له ماض حافل ومجيد.
لقد سلبت من هذه المدينة بالفعل، أمجادها العريقة، ودمرت نتيجة للحروب الأهلية والفيضانات الغزيرة للواد، لم تعد القصر الكبير سوى مدينة كئيبة، يسكنها تسعة أو ثمانية ألاف نسمة، تقع على الضفة اليمنى لنهر لوكوس Louqqos الذي سيحمل في هذا المكان اسم (الواد الجديد Oued el Djedid) وهو نهر نابع من عين مكوز Magouz في الجهة الشرقية للمدينة التي تفرقه عند الوسط، كما يعرف باسم ( خندق الحصة khandaq al Hassa) يمر من تحت السوق، ليصب في النهر قريبا من الواد الجديد، والبنايات المحيطة بالسوق. أما جو المدينة فهو بارد في الشتاء حار في الصيف، يخضع لنفس النظام كمثل جيرانه في(تاراوت Taraout في الضفة اليمنى، يطل على المدينة وعلى واد المخازن Oued Makhazin وعند المصب على نفس الضفة، تتفرع اتجاهات نهر الوروز Ouarouz الذي يصب في مرجة سيدي سلامةSidi Slama ، وتنقسم المدينة الحالية إلى موقعين، لهما شكلان ممتدان، يشبهان مدينتن متوازيتين، هناك من جهة، باب الشريعة Ach-charia في الشمال و باب الواد Bab El Oued في الجنوب. ويفصل بينهما السوق As-souq
الطريق من طنجة إلى فاس، تمر بجانب ضريح مولاي علي بوغالب Moulay ali Boughaleb أحد مزارات المدينة وقيدوم أوليائها. يلتف بالمدينة بمحاذاة المنزه Minzeh وهي بناية على شكل سياج تخص مقابر المسلمين، لتنعطف نحو جنوب شرق اللوكوس، الذي تعبره من خندق البناتيين Bnatyin المؤدي إلى الخزان، لتلج إلى مركز المدينة عبر الطريق المعبد الطويل، الممتد من مولاي علي بوغالب بجانب إقامة مولاي العربي الوزاني، متوجها إلى السوق، حيث يمرالطريق بقرب ضريح سيدي الحاج أحمد التمسماني.
هناك ثلاثة طرق أخرى، تؤدي إلى حومة (الشريعة)، الأولى تتجه إلى المرس (المكان الذي توجد فيه الخزائن) تاركا على اليسار حي الهري El-Hery (الباحة ) ومسجد سيدي المنصور، الذي يتوغل في المدينة (حي المرس) عبر باب سبتة Bab Sebta
الطريق الثانية، تنحو نحو الشرق أيضا، قرب ضريح سيدي علي بن فريحة Ali Ben Freha أحد أولياء الحراثة ، ثم أمام الحارة Hara التي كانت مصحة قديمة، لكنها تحولت إلى أطلال، وكانت تستضيف مرضى (الجذام) و «البرص» وعند الوصول إلى «حجرة الموقف Hajar al Mauqef» (حيث يتم الوقوف بقربها في انتظار العمل) نجدها تتفرع إلى اتجاهين، الطريق الأول على اليسار، حيث يلج المدينة عبر (باب المجولين Bab al Mejoulin )مخترقا الحي الذي يحمل اليوم نفس الاسم، ثم نجد حي المطيمار Al-Mteimar (المخازن les sitos) الذي يمر أمام الجامع الجزيريDjamaa al Djaziri وجامع الحمراء Djamaa al Hamra وصولا إلى السوق. أما التفرع الثاني، فيتجه مباشرة إلى المدينة، عبر» باب جامع السعيدة» Bab Djamaa As-saida التي توجد خلفها زاوية تهامة وزان، ثم نترك على اليسار، المدرسة الخيرية المتاخمة للساحة، لنستمر في طريقنا يمينا بالقرب من المسجد، وبعد عبور حي جامع السعيدة نصل إلى المرس Mers.
المرس Mersعبارة عن ساحة (فناء) فسيحة حيث ما زلنا نرى فيها آثار الصوامع الخاصة بالمطيمار (المخزن) ولقد تعرضت للتلف والاندثار وهي في ملك عائلة أولاد البقال Oulad Baqqal على يمين هذه الساحة، هناك حي وجامع سيدي بوحمد Sidy Bouhmed ومسجد سيدي القجيري Sidy Qouajeiry قبالة زاوية القناطرة Qnatra التي يوجد بها قبر سيدي عبد الرحمان المجدوب.
تنطلق من حي المرس ثلاثة دروب، وهي على اليمين درب زاوية التيجانيين ومسجد سيدي يعقوب Sidy Yacoub المتميز بمئذنته القديمة، والمربعة الشكل، التي تظلها أشجار النخيل، أما اسم «القشاشين» فإنه يحيل إلى تجار الفخار، وعند الوصول إلى السوق، نجد على اليسار، زنقة النيارين Niyarin (هم صناع المشط الخاص بحياكة النسيج) عند المرور بنفس الحي الذي يحمل نفس الاسم، نصل إلى مكان يسمى بالسويقة As-suiqa (أو السوق الصغير) حيث يوجد بها مسجد زاوية مولاي عبد القادر الجيلالي.
«هذا النص مقتطف من الأرشيفات المغربية « الجزء الثاني، المخصص لمدينة القصر الكبير 1904.