في الحاجة إلى تجديد المشروع الوطني الحداثي
عبد السلام رجواني
يعتري المشهد الثقافي/ السياسي المغربي التباس كبير على مستوى الخطاب والممارسة، يصعب معه تحديد معالم المشروع المجتمعي المشترك، الذي تشتغل عليه ومن اجله مؤسسات الدولة والمجتمع على السواء. ويطال هذا الالتباس كل مظاهر الحياة الثقافية والسياسية، بدءا بالحياة الفردية للمواطن وأنماط سلوكه التي تعكس مرجعيته القيمية، وانتهاء بالبرامج السياسية والأطر المرجعية للأحزاب السياسية.
سبق لعالم الاجتماع بول باسكون أن وصف المجتمع المغربي بكونه مجتمعا مركبا يشمل أنماط إنتاج وأنساق اجتماعية مختلفة، وذلك نتاج التطور المتفاوت للبنيات الاجتماعية والسياسية التي تعود إلى أزمنة تاريخية متباعدة. والواقع أن عملية التحديث التي عرفها المغرب زمن الحماية وبعد الاستقلال لم تكن قادرة على تقويض البنى الاجتماعية والثقافية التقليدية، ولم تفلح في بناء نموذج اقتصادي/ اجتماعي/ سياسي عصري وحداثي، بسبب هيمنة ثقافة سياسية تقليدانية ومحافظة، كرستها السلطة السياسية وعملت على إعادة إنتاجها حفاظا على مصالحها الاقتصادية ونفوذها السياسي.
منذ كتابات باسكون إلى اليوم، عرف المغرب تحولات اجتماعية وثقافية وسياسية نوعية، يمكن إجمالها في:
– حسم الاختيار الاقتصادي لصالح النموذج الرأسمالي الليبرالي التبعي الذي يقوم على اقتصاد السوق، والخوصصة، وتحرير الأسعار، والتبادل الحر، والاندماج الكلي في السوق الرأسمالي المعولم، والتكيف مع استراتيجيات المؤسسات المالية الدولية. ومن الملاحظ أن جميع الحكومات، وبغض النظر عن مكوناتها السياسية، تعمل وفق هذا النهج، بعد أن توارت الأطروحات المضادة التي كانت تستلهم الاختيار الاشتراكي أو التعادلي أو الليبرالي الاجتماعي، كما أن مناقشة الموازنة العامة داخل البرلمان لا يتعدى المطالبة بتعديلات جزئية ومطالب فئوية أو قطاعية لا تغير، إن تمت الاستجابة لها، شيئا من التوجهات العامة للسياسات الحكومية. إنها مفارقة صارخة، أن تقر الدولة بفشل النموذج التنموي المتبع حتى الآن، دون أن تتخلى الحكومة قيد أنملة عن نفس الاختيارات، ولنا في القانون المالي الحالي المثال.
– إنجاز إصلاحات سياسية على قاعدة مراجعات دستورية في اتجاه ترسيخ دولة الحق والقانون، وفي إطار توافق وطني أفضى إلى إعادة ترتيب العلاقات بين المؤسسة الملكية والمعارضة الوطنية الديمقراطية من جهة، وبين القوى السياسية ذات المرجعيات المذهبية والمشاريع المجتمعية المتباينة من جهة ثانية. فانتقل المغرب السياسي، بمقتضى هذا التحول، من ثنائيات حكم/معارضة، يمين /يسار ، رجعي/ تقدمي، حزب إداري/ حزب القوات الشعبية، إلى تصنيفات وتوصيفات جديدة خففت من حدة التقاطبات الاديولوجية وفتحت المجال لتحالفات تحكمها أساسا البرغماتية السياسية وموازين القوى داخل المؤسسة التشريعية. لم تكن حكومة التناوب التوافقي، مثلها مثل حكومة التناوب الديمقراطي، حدثين سياسيين نوعيين فحسب، وإنما كانا كذلك حدثا ثقافيا متواصلا رغم اختلاف الفاعل السياسي الجماعي الرئيسي بالنسبة لكل تجربة (الاتحاد الاشتراكي ثم العدالة والتنمية). كان لحكومة التناوب الأول وقع كبير على تمثلات الإنسان المغربي للسياسة وللفاعل السياسي، للحكم وللمعارضة، وأسهمت في نقل المغرب من زمن سياسة العنف والصراع التناحري إلى زمن التدافع الديمقراطي والتسويات السياسية، وبالتالي إلى صياغة عملية تطبيقية لقواعد جديدة للعمل السياسي؛ كما أسهمت عبر مشاركة أحزاب مختلفة المشارب والجذور في تدبير الشأن الحكومي والجماعاتي، في إدماج تدريجي للنخب اليسارية في بوتقة العمل المؤسساتي، تاركة مجال الفعل الاجتماعي والثقافي والنقابي لنخب صاعدة تنتمي في أغلبها لتيارات الإسلام السياسي بمختلف أطيافه. ويمكن القول أن حكومة التناوب الثاني، التي قادها حزب إسلاموي، في خضم تداعيات الربيع العربي، كان استكمالا موضوعيا للتوجه العام الذي دشنه التناوب الأول، من حيث تكريس الاختيار الديمقراطي وإدماج النخب الاسلاموية في ثقافة السلطة ونمط عيش جديد لا يمت بصلة للفكر الطهراني للحركة الدعوية المؤسسة، ومن حيث اعتماد المنطق السياسي البراغماتي في عقد تحالفات مع أحزاب لم يجمعها معها في الماضي، وما يزال مع بعضها في الحاضر، سوى صراع اديولوجي وفكري حول قضايا جوهرية. ما اعترى الحقل السياسي من تحولات أحدث رجات قوية داخل الأحزاب الفاعلة في الدينامية السياسية، داخل الاتحاد الاشتراكي أولا بحكم مسؤوليته الأساسية في حكومة التناوب الأول، ثم داخل حزب الاستقلال باعتبارة الشريك الرئيسي في ذات المسار، وهاهي ذات الخلافات والتصدعات تهز أركان حزب العدالة والتنمية. ومما لا ريب فيه أن هذه المخاضات العسيرة غيرت من صورة الأحزاب لدى المواطن العادي الذي لا يرى من الأمور إلا ظواهرها، ولا يقيس مصداقية القول إلا بميزان المنفعة الاقتصادية والخدمات الاجتماعية التي توفرها له الدولة. ولأن النهضة الديمقراطية والحقوقية لم توازيها تنمية اقتصادية واجتماعية عادلة، ولم يصاحبها إصلاح ناجع وملموس للإدارة، كما للتعليم والصحة والعدالة ونظام الأجور والنظام الضريبي، اعتبر جزء هام من الرأي العام سعي الأحزاب للتكيف مع متطلبات واقع سياسي معقد ومحيط جهوي ودولي طافح بالمخاطر، انتهازية سياسية، وتخليا عن المبادئ، وخيانة للشعب. والحال أن صورتنا عن الشيء محدد أساسي للحكم عليه والتفاعل معه.
– بروز قضايا ثقافية/ سياسية جديدة أصبحت موضوع رهانات وتقاطبات لم تكن حاضرة بنفس القوة زمن الجمر والرصاص، وهي قضايا اقتضت معالجتها، زمن الديمقراطية وحقوق الإنسان، إحداث مؤسسات دستورية ، مما أدى إلى نهج مقاربة تقوم على المأسسة والحوار والمشاركة. من أهم تلك القضايا مسألة حقوق الإنسان ومسالة الثقافة الأمازيغية، اللتين أحدث من أجلهما المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية والمجلس الوطني لحقوق الإنسان. إنها مقاربة أثبتت نجاعتها في جبر خاطر نخب كانت ذات نزوع يساري في الغالب، فتم إدماجها ضمن البنيات المؤسسية وفي ثقافة السلطة والتدبير والتماهي، عوض ثقافة المعارضة والاحتجاج والاختلاف. وفي نفس السياق الثقافي أدت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية إلى احتواء جزء هام من الحقل الجمعوي والمجتمع المدني من خلال تمويل مشاريع مدرة للدخل وتخصيص ميزانيات ومنح لا يستهان بها من قبل الحكومة والجماعات المحلية، مما أفقد بعض الجمعيات والمنظمات المدنية استقلاليتها وجسارتها الأدبية، وأضر بقيم التطوع والالتزام.
– حركية سكانية/ مجالية متواترة انتهت إلى قلب المعادلة الديمغرافية، بحيث أصبح السكان الحضريون أكثر من القرويين، جراء الهجرة القروية الناجمة أصلا عما عانته البادية المغربية من تهميش اقتصادي وحيف اجتماعي وبؤس ثقافي، فضاعت الحدود الثقافية والاجتماعية بين المجالين، وتشكل فضاء ثالث ما هو مدينة بالمعنى الحضاري للمدينة، ولا هو قروي بالمعنى الثقافي/ الاجتماعي للبادية، فضاء جمع بين مساوئ الحاضرة ومساوئ البادية، وفرط في حسنات المجتمع المديني والقبلي معا. أدت هذه الحركية السكانية/ المجالية إلى تشوه اجتماعي ومسخ ثقافي، فأفرزت ظواهر العنف والتطرف بسبب تنامي الشعور بالحرمان والإقصاء الاجتماعي.
أدت هذه الصيرورات المتقاطعة والمتفاعلة على امتداد ثلاث عقود أو تزيد الى التباسات حقيقية في وعي الناس حول مختلف القضايا:
فعلى مستوى الهوية الحضارية للمغرب لم يبق ذاك الاطمئنان الجماعي للمشترك الديني واللغوي والاثني، الذي وحد المغرب لحقب تاريخية طويلة حول المذهب السني المالكي واللغة العربية والتمازج الاثني المتعدد الروافد. لقد تم اختراق المجال الديني من قبل تيارات الإسلام السياسي، من وهابية، وسلفية تكفيرية محدثة، وشيعة، ناهيك عن حركات دعوية لا تخفى نواياها السياسية المتطرفة، و طرق لها زوايا ومريدين يفوق عددهم عدد منخرطي الأحزاب جميعها، تمتح من مذاهب صوفية تعود نشأتها لعصور الانحطاط. ويعتبر تسلل الوهابية إلى الحياة الدينية للمغاربة، تهديدا حقيقيا للوحدة المذهبية للمغرب، وتحريضا على الانقسامات المذهبية، ومنبعا للتطرف الديني، وبالتالي خطرا على الهوية الدينية للبلد.
وعلى المستوى الثقافي، وباسم الدفاع عن الثقافة واللغة الأمازيغيتين، وهو دفاع مشروع عن قضية عادلة تهم المغاربة قاطبة، تحاول بعض الجهات أن تجعل منها مطية لتمييز عرقي وصراع بين هويات متعارضة إلى حد الزعم بكون الأمازيغ أقلية مقهورة من قبل ارستقراطية عربية حاكمة. وفي ذلك افتراء على الواقع المجتمعي الحي، وتجني على الحقيقة الانطروبولوجية والتاريخية للشعب المغربي، وتأويل مغرض للحالة السياسية للمغرب المعاصر. فالشعب المغربي، مثل غيره من شعوب العالم والأمم العريقة، متعدد الأصول، متنوع الروافد. وهو شعب تشكل عبر قرون من الزمن عبر موجات بشرية حاملة لثقافات وديانات وألسن مختلفة. ومن الأكيد تاريخيا وبشريا أن الأمازيغ هم المكون الرئيسي، وأن الثقافة الأمازيغية بكل تعبيراتها المادية والرمزية، تشكل الخلفية العميقة للثقافة المغربية المتعددة الروافد والجذور. ولعله من المستحيل اليوم أن نقدر على التمييز ضمن التراث الحضاري المغربي، في العمران كما في اللباس،وفي كل أساليب العيش، في أسماء الأماكن كما في اللهجات المحلية، في العادات والتقاليد كما في الأعراف، في السحنات البشرية كما في الأنساب، بين أمازيغي قح، وعربي أصيل، وأندلسي صاف، وإفريقي نقي النسب.وذلك نتاج تمازج حضاري لم يخل في بعض مراحله من عنف مادي ورمزي، مارسته الدولة من اجل بسط نفوذها على المجتمع برمته أو على بعض مكوناته، دون أن يؤدي ذلك العنف المحايث للدولة في الحالة المغربية إلى طائفية اثنية أو دينية، ولم ينته أبدا إلى تدمير أي مكون ثقافي أو لغوي من مكونات النسق الثقافي الوطني المتعدد.
وعلى المستوى السياسي، عرف المغرب المستقل، في ظل هيمنة الدولة على المجال السياسي، تدخل هذه الأخيرة لصنع الخرائط السياسية على مدى أربعة عقود، من خلال فبركة « أحزاب» لا معنى لها وتزوير نتائج الانتخابات، وذلك قصد التحكم في سير المؤسسات المنتخبة بواسطة أغلبيات نشأت في أحضان اقتصاد الريع وبدعم من «أم الوزارات». مما لا شك فيه أن قواعد السلوك السياسي للدولة تجاه الاستحقاقات الانتخابية قد تغيرت منذ تجربة التناوب إلى الآن، وأصبحت السلطات تلتزم نوعا من الحياد، غير أن رسوخ قيم الريع السياسي والفساد الانتخابي حالا دون حدوث القطيعة الضرورية مع الممارسات السلبية التي تضر بصدقية المؤسسات وتضعف من الوعي الديمقراطي العام. إن عدم احترام المنهجية الديمقراطية، بعد انتخابات 2002، شكل ضربة قوية للمسار الديمقراطي، وألقى بظلال من الشك في نوايا أصحاب الحل والعقد إزاء الاتحاد الاشتراكي الذي كان الشريك السياسي الرئيسي في تحقيق التناوب التوافقي وتدشين صيرورة الانتقال الديمقراطي. ولأن الاتحاد قبل بالأمر الواقع، واستمر مشاركا في حكومتين ائتلافيتين اجتمعت فيهما أطياف سياسية بعدد ألوان قوس قزح، إلى جانب حضور قوي ووازن للتقنوقراط، تراجعت أسهمه لدى الرأي العام، خاصة وأنه أصبح هدفا لحملة إعلامية ممنهجة ومغرضة، جندت لها صحافة نبتت من العدم كما ينبت الفطر من المياه الآسنة. وقد أبانت الأحداث أن العمل على الإساءة للإتحاد، تاريخا ورموزا واختيارات سياسية وقيما نضالية، كانت المدخل الضروري لتبخيس السياسة والمؤسسة الحزبية، وجعل المجال السياسي حكرا على الدولة التي لم تقنع باحتكار المجال الديني والإعلامي والاقتصادي، بل إن احتكارها لمختلف المجالات ووضع يدها على الملفات الكبرى وانفرادها بتدبيرها، أفضى في النهاية إلى العمل على تطويع المجال السياسي نفسه. فرغم دستور 2011 المتقدم في أحكامه ومقتضياته، ورغم صعود حزب العدالة والتنمية، الذي جعل من محاربة الفساد والإصلاح السياسي مرتكز برنامجه السياسي وخطابه الشعبوي، إلى الحكومة لولايتين متتاليتين، ظلت المنظومة السياسية وآليات اشتغالها ثابتة إلى حد كبير.
هكذا تبلور مشهد سياسي سديمي، يطبعه لبس في المرجعيات والبرامج، وفي التحالفات والاعتبارات التي تحكمها. وإذا كانت حكومة «التناوب التوافقي» قد دشنت لنظام علائقي جديد بين القوى السياسية الوطنية الديمقراطية ممثلة في الكتلة الديمقراطية والمؤسسة الملكية من جهة، وبين الأحزاب التاريخية المعارضة والأحزاب الإدارية من جهة ثانية في ظل توافق دعا إليه الملك وضمن نجاحه، سعيا منه إلى توفير الشرط الأساس للمصالحة الوطنية ولانتقال سلس للملك؛ فإن إجهاض تجربة التناوب وتكريس إستراتيجية البلقنة السياسية أديا إلى استمرار منطق التحالفات الهجينة الذي فرض حكومات غير منسجمة وقابلة للانفجار في كل لحظة لولا التحكيم الملكي. يتعلق الأمر في الواقع بتحالفات تدبيرية فرضها واقع لا يرتفع، ولم تكن أبدا تحالفات إستراتيجية. وبما أتها كذلك، أتاحت لجل الأحزاب الممثلة في البرلمان ، يمينا ويسارا، كبيرا وصغيرا، المشاركة في الحكم، إلى جانب التكنوقراط الذين يعتبرون المكون الثابت والحارس الأمين في كل الحكومات «السياسية» منذ اليوسفي إلى العثماني.
نظرا لذلك كله، التبس المشهد السياسي على المواطنين العاديين، وضاعوا سياسيا بين أحزاب كثر تستعمل نفس القاموس السياسي( نضال، ديمقراطية، حقوق الإنسان)، وترفع نفس الشعارات ( إصلاح، محاربة الفساد)، كما ضاعوا ثقافيا بين أكثر من مرجعية وأسلوب عيش ومنظومات قيمية. فلم يعد المواطن (ة) قادرا على التمييز بين الأحزاب على أساس البرامج والمرجعيات، وافتقد معايير المفاضلة بينها، تعاطفا أو انخراطا أو تصويتا، فاختار البعض الابتعاد عن الممارسة السياسية، واستنكف عن التصويت، وامتهن التشكيك في السياسة والسياسيين. وهي تعبيرات عن اليأس الذي غذته بعض المنابر الإعلامية تنفيذا لخطة اغتيال «السياسة الرائدة»، متناسية أن العدمية السياسية أرضية خصبة لتناسل التطرف، الذي هو في نهاية التحليل تعبير عن مأزق وجودي يلتقي عنده اليأس القاتل بالعجز عن الفعل الإيجابي العقلاني والمنتج.
هكذا تبدو لي لوحة المغرب الراهن في ألوانها الثقافية والسياسية، لوحة يلفها الغموض والخلط
واللايقين؛ وهي سمات تمخضت عنها عدم الثقة في المؤسسات المنتخبة وفي الأحزاب، فذبل الحلم بالتغيير، وصار سرابا. لم يعد المغربي غير المتحزب، يثق في الليبرالي، ولا في الاشتراكي، ولا في السلفي، وبالتالي فقدت النخب السياسية قدرا غير يسير من مصداقيتها، فأضحت عاجزة عن النهوض بأدوار التأطير والوساطة وصياغة البدائل، وتحولت إلى مؤسسات لا وظيفية، فلاذ الناس ببدائل لا تخلو من طوباوية، أو سلفية بئيسة فكريا وسياسيا، أو فوضوية في ممارسة الاحتجاج والاختلاف. ومما يؤسف له أن النخب المثقفة، التي كان من اللازم أن تسهم في الرقي بالعمل السياسي وفي تمنيعه من التجريبية، والنزعات الوصولية، والانتهازية المقيتة، سارت على منوال العامة، أو حولت الاتجاه نحو عوالم المقاولة والربح الاقتصادي والمشروع الشخصي، وارتمى بعضهم في مستنقع الريع السياسي وخدمة أصحاب المال المتسيسين المدفوع بهم إلى غمار السياسة.
أسباب هذا الواقع الملتبس متعددة، وإن كان لنا أن نجملها، ففي ثلاث رئيسية:
1- تجذر البنى الاجتماعية والثقافية ولاسيما الذهنية التقليدية، لأن صيرورة التحديث التقني والتكنولوجي الذي عرفه المغرب، فضلا عن محدوديته مجاليا، لم يوازيه التأسيس لحداثة فكرية وثقافية، وشتان بين التحديث والحداثة. يكفي أن نستمع للإذاعات المغربية، وأن نتتبع البرامج التلفزية، وأن نقرأ بانتظام الصحافة المغربية الأكثر مقروئية، وأن ننتبه للعمل الدعوي الممنهج الذي تسهر علية جماعات دينية متزمتة وتنفذه كتائب من الدعاة والداعيات، لنعلم أي ثقافة ينهل منها المغاربة كل يوم، في الوقت الذي تقهقرت فيه الآداب والفنون والعلوم الإنسانية. ومن الأكيد أن هزال المنتوج التربوي والعلمي للمنظومة التربوية، التي أصبحت وكرا للفكر التكفيري ومستنبتا للتطرف، له قسط وافر من مسؤولية التخلف الفكري والبؤس الثقافي.
2- إخفاق النخب السياسية والفكرية في صياغة مشروع مجتمعي واضح المعالم، قابل للإنجاز، مقنع للرأي العام. مشروع وطني مطابق للواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي المغربي، ويستلهم القيم الكونية للحداثة وحقوق الإنسان، دون استنساخ أو هيام بتجربة شعب بعينه. مشروع تبنيه صفوة عالمة، وتعمل على تنزيله قوى سياسية لها رؤية استراتيجية للتغيير والتقدم. طبعا لا يمكن التنكر للمشروع الوطني الديمقراطي التي ساهمت القوى الوطنية الديمقراطية في بلورة توجهاته الكبرى، مع اختلاف مشروع في التفاصيل والصياغات المشروطة بالمواقف السياسية لكل حزب. لقد أنتجت الأحزاب الوطنية الديمقراطية وثائق تأسيسية هامة جدا ( النقد الذاتي، الاختيار الثوري، التقرير الأيديولوجي للمؤتمر الاستثنائي للإتحاد الاشتراكي، الثورة الوطنية الديمقراطية للتقدم والاشتراكية، الوثيقة التوجيهية للمؤتمر التأسيسي لمنظمة العمل)، وهي وثائق تجلت فيها وحدة الفكر بالعمل، والممارسة النظرية الرفيعة بالخط السياسي والفعل النضالي. غير أن الشرط السياسي العام لمغرب ما قبل التناوب، وواقع موازين القوى المختلة لصالح المحافظة والتقليد على مستوى الدولة والمجتمع، لم يفسحا المجال للمشروع الديمقراطي الحداثي للتحقق. غير ان ما عرف المشهد السياسي من مساومات وصفت بالتاريخية أدى إلى اندماج جزء من النخب اليسارية عبر بوابة التناوب ، ثم عبر مؤسسات دولتية أخرى، أفضى إلى فك الارتباط بين السياسي والثقافي، وبين السياسي والنقابي، وبين الفعل الجمعوي والعمل السياسي. طلاق الشقاق هذا بين الأحزاب الديمقراطية وجمهور المثقفين ومختلف الفاعلين الاجتماعيين تحول إلى تبخيس كل طرف للآخر، وأحيانا إلى قطيعة وجفاء. اتساع الهوة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني أدى إلى إضعاف الجبهتين، وإلى خفوت المشروع الديمقراطي الحداثي، وفقدان الجبهة الديمقراطية الحداثية زمام المبادرة الثقافية والسياسية معا.
3 – الارتباط الوثيق والفج بين المال والسياسة، ارتباط أفسد عالم المال والمقاولة من خلال بناء اقتصاد ريعي ، كما أفسد السياسة من خلال استعمال المال في حسم التنافس الانتخابي. هذا الارتباط العضوي كان الأساس المادي لتكون «المركب الاستغلالي المصالحي»، باعتباره شبكة اقتصادية/ سياسية أشرفت الجهات النافذة في الدولة، منذ إقالة الحكومة الوطنية بداية الستينات من القرن الماضي، على تمويلها عبر مؤسسات مالية أحدثت إحداثا، وتمكينها من امتيازات عبر آليتي المأذونيات ورخص الاستغلال التي تتحكم فيها وزارة الداخلية، وعلى هندستها وتوظيفها في الصراع التاريخي ضد القوى التقدمية. فإذا استحضرنا ولادة أهم الأحزاب الإدارية من جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية إلى الآن، سنلاحظ دون عناء أنها ضمت بالأساس المنتفعين من الريع الاقتصادي، والذين جعلوا من ممارستهم للسياسة أداة لحماية مصالحهم وكبح المسار الديمقراطي. وهكذا تحالف النفوذ السياسي مع المال إلى حد التماهي، إذ أصبح المال دعامة أساسية للفوز الانتخابي وأصبح الموقع السياسي أداة للاغتناء. ومع انكماش القاعدة الجماهيرية للإتحاد منذ 2007، بسبب الوضع العام الذي رسمنا ملامحه، تقوى الارتباط بين المال والسياسة، وتراجع دور الانتماء الاديوبوجي والبرنامج السياسي في توجيه السلوك الانتخابي لعامة المواطنين، وبدأ الحديث عن هيمنة «أصحاب الشكارة» على المؤسسات المنتخبة على حساب النخب المثقفة والمناضلين العضويين.
ما يعيشه المغرب الراهن في بعديه الثقافي والسياسي من انشطار وتوتر ووهن سياسي (لا مؤسساتي) يهدد الوطن ب»سكتة قلبية» سياسية، قد تكون أخطر مما انتبه له الملك الراحل نهاية القرن الماضي. في ذاك السياق وجد الملك الحسن الثاني في الاتحاد الاشتراكي خاصة، وفي الكتلة الديمقراطية المتضافرة، قوة اجتماعية وسياسية لها من المقومات التاريخية والشعبية ما يؤهلها لاستعادة الأمل في انقاد الوطن؛ وهو شرط بعيد المنال في السياق السياسي والاجتماعي الراهن، حيث أضحت المؤسسة الملكية محط انتظارات المغاربة وآمالهم في التنمية والعدالة ورفع الضرر، مقابل ازدراء باقي مؤسسات الدولة وتحقير السياسة. إنه لمن علامات الإفلاس السياسي وفشل المشروع التنموي أن يعلق الناس أملهم في تنمية إقليم أو جهة أو مدينة بزيارة ملكية، التي يجب أن تكون تتويجا ومباركة لصرح تنموي من إنجاز قطاع حكومي أو مؤسسة منتخبة أو القطاع الخاص، وأن يسحب الرأي العام الثقة في كل المؤسسات من أحزاب وحكومة وبرلمان، وأن يصير الإعلام الرسمي والملحق يروج لهذا التصور الذي سيؤدي تعميمه إلى قتل السياسة بالمعنى المتعارف عليه (أحزاب وبرامح ومؤسسات وتنافس ومشاركة..) لفائدة نموذج سياسي يمتح من مرجعية تقليدية.
تجاوز هذا الواقع الملتبس الذي لا يقدر الجميع مخاطرة على مستقبل الديمقراطية والتماسك الاجتماعي والوحدة الثقافية/ الروحية للأمة المغربية، ليس بالأمر الهين. إنها مهمة تستدعي انبعاث وعي جديد لدى صفوة النخب السياسية والثقافية المتنورة من كل الأطياف والمرجعيات بأهمية دورها وعظيم مسؤوليتها تجاه حاضر الوطن ومستقبله، ثم العمل، بناء على هذا الوعي، على مراجعة أطروحاتها النظرية وممارساتها العملية، في أفق بلورة مشروع نهضة مغربية معاصرة، قوامه المشترك الحضاري للمغاربة، وغايته بناء مجتمع نام ودولة ديمقراطية ينعم فيها المواطن بالحرية والكرامة.
من أجل المشروع الحضاري المنشود، وجب التفكير في قضايا جوهرية، منها:
– الإصلاح الديني بما يصون الوحدة المذهبية للمغاربة المسلمين ويمأسس للتسامح وحرية المعتقد ويفتح باب الاجتهاد الكفيل بصياغة أحكام وإجابات عن مستجدات واقع اجتماعي واقتصادي وعلمي متطور، اجتهاد يستلهم السلفية المغربية المتنورة ويستنير بالعلوم الحديثة.
– التأسيس لمشروع تنموي مغاير، يقوم على فلسفة اقتصادية قوامها إنتاج الثروات، وتثمين الرأسمال البشري والتراث اللامادي والإمكان الاقتصادي الوطني من جهة؛ ويضمن توزيعا عادلا للثروة بين الجهات والفئات الاجتماعية من خلال نظام ضريبي متوازن ونظام عادل للأجور. بدل اقتصاد ريعي، تبعي، لم يؤد سوى لاتساع الفوارق الاجتماعية والمجالية، وإلى دوام مشكل البطالة والأمية واستفحال ظواهر الإقصاء الاجتماعي. لن يكون لأي مشروع تنموي بديل معنى إن لم تتوفر فيه سمات أساسية: الشمولية والاستدامة والمحافظة على البيئة والعدالة. بمعنى إن لم تكن في خدمة الارتقاء بحياة عامة الشعب وتمنيع الاقتصاد الوطني. ويعتبر النهوض بالتعليم والتكوين والبحث العلمي روافع أساسية لتنمية بيئية ومستدامة. لذا وجب وضع أسس مجتمع المعرفة والتكنولوجيا الوظيفية عبر إصلاح جذري للنظام التربوي، والاهتمام بالشأن الثقافي في مختلف أبعاده الفكرية والعلمية والفنية، وجعل الجامعة مؤسسة للبحث العلمي والتطوير وصناعة الصفوة العلمية والفكرية، بدل أن تظل بمثابة ثانويات كبرى لتفريخ عاطلين ذوي شهادات لا قيمة لها في سوق الشغل.
– ترشيد الحياة السياسية من خلال تعديل دستوري، يعمق التوجه الديمقراطي الحداثي، ويعيد النظر في شروط تأسيس الأحزاب وتمويلها ومشاركتها في الاستحقاقات الانتخابية، في اتجاه تعددية واقعية ومعقولة، ويقطع مع الريع السياسي، ويدعم تداول النخب على القيادة السياسية.
الكاتب : عبد السلام رجواني - بتاريخ : 30/01/2018