رغم انهيار تنظيم الدولة الإسلامية العام الماضي ووجود إدراك دولي على نطاق واسع بأن الرئيس السوري بشار الأسد يكسب الحرب، إلا أن البلاد تشهد تصعيدا جديدا وكبيرا على أكثر من جبهة.
فبعد أكثر من سبعة أعوام، أودى الصراع السوري بحياة مئات الآلاف وشرد الملايين من منازلهم وهز توازن القوى الإقليمي وجذب إليه دولا أخرى تسببت الخصومة فيما بينها في إرباك تحالفات قائمة.
هذا العنصر الدولي هو الذي ساهم في تحول الحرب من قتال مباشر بين الأسد وقوات المعارضة التي تسعى للإطاحة به إلى فوضى من الصراعات المتداخلة مع بعضها.
وفي هذه العملية، أصبحت سوريا ساحة صراع بين خصوم سياسيين حيث الولايات المتحدة ضد روسيا وإيران ضد إسرائيل، كما وسعت الشقاق بين السنة والشيعة في الشرق الأوسط. ما الذي تريده الأطراف المختلفة؟
هدف الأسد واضح، وهو الاسترداد الكامل لكل الأراضي السورية واستعادة سيطرة حكومته.
* حولت روسيا أكبر حلفاء الأسد دفة الحرب لصالحه بإرسال قوتها الجوية لدعمه في عام 2015 لكنها ربما تكون أكثر استعدادا من الأسد للموافقة على تنازلات مع خصومه. وجمعت روسيا كلا من إيران وتركيا في محادثات لتهدئة الأزمة بالاتفاق على «مناطق عدم تصعيد» بهدف وقف القتال.
* الداعم الرئيسي الآخر للأسد هو إيران إلى جانب فصائل مسلحة مثل جماعة حزب الله اللبنانية. وتقول طهران إنها تقاتل متشددين سنة مناهضين للشيعة. لكن معارضي إيران يقولون إنها ترغب في تعزيز نفوذها الإقليمي بمد «جسر بري» من إيران عبر العراق وسوريا إلى لبنان.
* تنظيم الدولة الإسلامية هو أكبر جماعة سنية متشددة مرهوبة الجانب. وقد انهارت الخلافة التي أعلنها التنظيم، لكنه لا يزال يسيطر على جيوب في الصحراء وسوف يستفيد من أي صراع جديد لتقويض الاستقرار واسترداد مناطق كان يسيطر عليها.
* جماعات المعارضة السورية المسلحة جمعيها ترغب في الإطاحة بالأسد لكنها تختلف فيما بينها بشأن ما إذا كانت تريد دولة على أساس الشريعة الإسلامية أم القومية السورية، وتتقاتل فيما بينها أحيانا. ترغب تلك الجماعات في استمرار الانتفاضة والحفاظ على الدعم الأجنبي والدفاع عن الأراضي المتبقية تحت سيطرتها.
* كانت تركيا أحد أقوى الداعمين للمعارضة المسلحة. لكن تركيزها الرئيسي حاليا ينصب على طرد وحدات حماية الشعب الكردية من المنطقة الحدودية لأنها تعتبر الوحدات امتدادا لحزب العمال الكردستاني الذي يشن تمردا في تركيا منذ ثلاثة عقود.
* القوات الكردية المحصورة بين تركيا والجيش السوري ترغب في تعزيز حكمها الذاتي في الشمال حيث أقامت مجالس للحكم ونظمت انتخابات. ترغب القوات الكردية في منع تركيا أو الأسد من مهاجمة أراضيها.
* الولايات المتحدة ساعدت المعارضة المسلحة المناهضة للأسد في المراحل الأولى من الحرب لكنها أصبحت أكثر تركيزا على قتال تنظيم الدولة الإسلامية. وتدعم واشنطن تحالف قوات سوريا الديمقراطية الذي تهيمن عليه وحدات حماية الشعب الكردية. لكن واشنطن ترغب أيضا في تهدئة غضب أنقرة شريكتها في حلف شمال الأطلسي بسبب ذلك.
وترغب واشنطن أيضا في احتواء إيران حيث أنها ترى تنامي نفوذ طهران في المنطقة خطرا يهدد إسرائيل والسعودية أكبر حليفين لها في الشرق الأوسط.
* إسرائيل ترغب في منع اتساع نفوذ إيران وجماعة حزب الله وإبقائهما بعيدا عن حدودها. كيف قسمت الأجندات المتعارضة الحرب؟
* يريد الأسد وحلفاؤه التعجيل بنهاية المعارضة المسلحة بطردهم من الغوطة الشرقية ويستخدمون أساليب الحصار والقصف التي ساعدتهم على سحق المعارضة في حلب وحمص وغيرهما من معاقل المعارضة السابقة.
* أجبر كثير من مقاتلي المعارضة على الانتقال إلى محافظة إدلب بشمال غرب البلاد ومناطق مجاورة، أكبر معاقلهم المتبقية. وأرسلت تركيا بعض القوات إلى إدلب لمراقبة منطقة عدم التصعيد هناك بعد محادثات مع روسيا وإيران. لكن قوات الحكومة السورية وحلفاءها سيطروا في الآونة الأخيرة على أراض في إدلب.
* شنت تركيا وحلفاؤها من المعارضة المسلحة هجوما الشهر الماضي على وحدات حماية الشعب الكردية في منطقة عفرين، وهي منطقة منفصلة عن منطقة أكبر بكثير يسيطر عليها الأكراد إلى الشرق. وفي حين دعمت الولايات المتحدة وحدات حماية الشعب في معركتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية، فإنها لم تدعمها ضد تركيا في عفرين، واكتفت بدعوة أنقرة إلى ضبط النفس.
كانت روسيا قد أرسلت قوات إلى عفرين للمساعدة في منع أي هجوم تركي، لكنها تريد أيضا تعاون أنقرة في جهودها الأوسع لتحقيق السلام في سوريا فقامت بسحب قواتها. لجأ الأكراد بعدها إلى الأسد للمساعدة رغم الخصومة بينهما. لم يرسل الأسد جيشه هناك، لكنه أرسل فصائل حليفة مرتبطة بإيران لمساعدة الأكراد ضد تركيا.
* قد تتجه تركيا بعد ذلك لمهاجمة وحدات حماية الشعب بالقرب من منبج على بعد 100 كيلومتر شرقي عفرين. وهي المنطقة الوحيدة التي يقودها الأكراد غربي نهر الفرات إلى جانب عفرين. لكن على النقيض من عفرين، توجد قوات أمريكية في منبج وأطلقت النار على مقاتلي المعارضة المدعومين من تركيا وتقول إنها ستدافع عن نفسها وعن حلفائها من قوات سوريا الديمقراطية.
* الولايات المتحدة موجودة أيضا في شرق سوريا الغني بالنفط حيث انتزعت كل من قوات سوريا الديمقراطية وحملة منافسة من جانب الأسد وحلفائه مساحات من الأراضي من الدولة الإسلامية. وعلى الرغم من طلب وحدات حماية الشعب مساعدة الأسد في عفرين، فلا توجد أي مؤشرات على اتفاق بينهما في الشرق، حيث قصفت طائرات أمريكية تدعم القوات التي يقودها الأكراد حلفاء الأسد. * ربما تكون أكثر مناطق الصراع عرضة للانفجار في سوريا هي جنوب غرب البلاد حيث لا يزال مقاتلو المعارضة يسيطرون على أراض قرب هضبة الجولان التي تحتلها إسرائيل. واتفقت الولايات المتحدة وروسيا والأردن الذي تقع حدوده على مقربة على إقامة منطقة عدم تصعيد هناك العام الماضي.
لكن الأسد وفصائل متحالفة معه لها صلات بإيران وحزب الله شنوا هجوما بريا استمر أسابيع هناك في العام الماضي وما زالوا متمركزين في المنطقة. ويسبب هذا قلقا لإسرائيل التي تعتبر تلك الفصائل وكلاء لإيران.
أسقطت إسرائيل طائرة بدون طيار إيرانية هذا الشهر وردت بغارات جوية تم خلالها إسقاط إحدى طائراتها. وسلط ذلك الضوء على احتمال تحول القتال في سوريا إلى مواجهة أوسع بين إسرائيل وإيران قد تمتد أيضا لتشمل حزب الله في لبنان.
وأي حرب بين إسرائيل وإيران وحلفائها ستحمل أيضا مخاطر جر الولايات المتحدة إليها…
تحويل الأقبية الى منازل
تنهمك أم جمال بالأعمال المنزلية من طبخ وتنظيف أواني وغسيل ثياب في قبو بارد مفروش بالحصى حولته إلى منزل لعائلتها الصغيرة بعدما طال قصف قوات النظام منزلها في بلدة مديرا في الغوطة الشرقية المحاصرة قرب دمشق.
وعلى غرار أم جمال، انتقل الكثيرون من سكان مدن وبلدات الغوطة الشرقية، معقل الفصائل المعارضة الأبرز في سوريا، إلى الأقبية غير المجهزة بعدما دمرت غارات ومدافع قوات النظام منازلهم، بينما يتخذ آخرون منها ملجأ مؤقتا لتفادي القصف الذي يستهدف أحياءهم وأسواقهم.
وانتقلت أم جمال (56 عاما )، وابنها الشاب وابنتها من ذوي الاحتياجات الخاصة، إلى القبو قبل اكثر من شهر ونصف خلال احدى حملات التصعيد في القصف على الغوطة الشرقية.
وتقول المرأة السمراء بعباءة سوداء اللون وحجاب محكم حول وجهها «لم نصعد إلى البيت ولا مرة، نحن هنا ليلا نهارا «. وتضيف «ق صف منزلنا فهربنا وأتينا إلى هنا، ثم ضرب مجددا اثناء وجودنا هنا فانهار تماما ولم يعد صالحا للسكن».
ووضعت أم جمال وابنها ألواحا من الزنك في وسط القبو ليأخذ شكل غرفة صغيرة.
وتتابع «عندما تبدأ الطائرة بالتحليق، يأتي جيراني إلى هنا أيضا . وحين يهدأ القصف، يعودون إلى بيوتهم، وأبقى أنا وولدي هنا في القبو».
وتصعد أم جمال من القبو بين الحين والآخر وتقصد منزلها المدمر لجلب الأخشاب والمياه. تقطع الحطب بفأس صغير، ثم تأتي ببعض العبوات الفارغة وتملأها بالمياه، قبل أن تعود مجددا إلى ملجئها.
وتقول أم جمال «نعيش بالصقيع والبرد تحت الأرض»، وتشير إلى حائط خلفها تتسرب منه مياه الصرف الصحي للمبنى فوق القبو.
أمام خيمة صفراء صغيرة ومتسخة، تقطع أم جمال الاخشاب وتضعها تحت موقد صنعته بنفسها من عبوة حديدية، تغلي عليه القهوة قبل أن تبدأ بجلي الأطباق، ثم رفع الغسيل على حبال طويلة.
وتشير أم جمال إلى الخيمة خلفها وتقول «ننام كلنا في الخيمة محشورين، لا تتسع لنا».
وتشهد الغوطة الشرقية حاليا تصعيدا جديدا في القصف الجوي والصاروخي لقوات النظام أسفر منذ الأحد عن مقتل نحو 335 مدنيا بينهم 79 طفلا .
ولم يبق لأهالي الغوطة سوى الأقبية تحت الأرض ملاذا لهم، لكنهم يجدون أنفسهم محاصرين فيها غير قادرين على الخروج على وقع الغارات والقذائف المحيطة بهم.
وخلال الحملة الأخيرة، أفاد مراسل لفرانس برس في دوما أن منازل كثير خلت من أصحابها بعدما لجأوا إلى الأقبية. ويستغل هؤلاء لحظات قليلة من الهدوء للبحث عن متجر يشترون منه بعضا من المؤن او ليتفقدوا منازلهم.
وصباح الخميس، خرج البعض من الملاجئ مستغلين غياب الطائرات نتيجة الأمطار، وتجمع البعض في حمورية أمام متجر وحيد فتح أبوابه، ولكن سرعان ما تفرق الجمع مع سقوط قذائف عند أطراف الشارع.
في قبو آخر في مديرا، تجتمع نساء متشحات بالسواد وأطفال في غرفة صغيرة على وقع تحليق الطائرات.
وتتعرض الغوطة الشرقية منذ سنوات لقصف مدفعي وجوي عنيف من قوات النظام أودى بآلاف المدنيين وأسفر عن دمار كبير في الأبنية والبنى التحتية.
وللفرار من القصف الذي اعتادوا عليه، أنشأ سكان الغوطة الشرقية مدارس وملاهي للأطفال تحت الأرضي ليتيحوا للأطفال التعلم واللعب دون خوف. كما أنهم ينظمون العديد من فعاليتهم في الأقبية، من اجتماعات او موائد افطار خلال شهر رمضان.
في مدينة عربين التي تطغى عليها مشاهد الدمار من أبنية باتت ركاما وأخرى سقطت جدرانها، اتخذت عائلات عدة من مدرسة تحت الأرض ملجأ لها.
ويتألف قبو مدرسة «دار السلام» من قاعات تدريس عدة طليت جدرانها بالألوان الفاتحة ور سمت عليها الورود، فضلا عن ساحة في الوسط ت ستخدم عادة لاستراحة الطلاب. ولكن المشهد تحول اليوم، وباتت المدرسة بمثابة منزل جماعي تنتشر فيه الفرش والأغطية ومواقد للطبخ، وتحولت ألعاب الاطفال الى حبال لنشر غسيل.
وانتقلت ام عبدو (53 عاما ) إلى المدرسة منذ نحو شهر ونصف بعدما تدمر منزلها.
وتقول «نحن مقيمون حاليا في غرفة عرضها متران ونصف، يعيش فيها 14 امرأة وطفل ولا يوجد فيها حمامات للاستحمام».
ليس أمام أم عبدو حاليا خيار آخر، وتكتفي بالقول «بيتي تدمر، الحمد لله صابرون صبرا فوق صبر».
في غرفة صغيرة تكومت في زاويتها الأغطية، تجتمع أم عبدو ونساء آخريات للطهي فوق مدفأة لعدم توفر موقد.
يضعن عشبة الخبيزة في مياه مغلية على مدفأة، وتستطرد احداهن «نسلقها، لان ليس لدينا زيت، حتى الخبز لم نتمكن من تأمينه».
وفي غرفة أخرى، يتكدس عشرات الأطفال في غرفة يستمعون لدرس في الرياضات.
وتغرورق عينا يسرى علي (46 عاما ) بالدموع وهي تتحدث عن معاناتها في ما تصفه بـ»حياة الأقبية».
وتقول المرأة التي تعاني من مرض في القلب وخضعت في السابق لعملية جراحية، «لا أجد الدواء (…) لا شمس ولا هواء، نشعر أن أنفاسنا انقطعت، نحن هنا معدومون عن الحياة».
رويترز