الإعلاميون، الكتاب، المفكرون لمن يكتبون…ولماذا يكتبون…؟

محمد أديب السلاوي

 

-1-
الكتابة، فعل يتحول إلى وجود، إلى مصير…وأحيانا يتحول إلى سلطة قاهرة، تتحكم في الكاتب في حواسه وعقله وزمنه وقراراته، قبل أن تتحكم في المتلقي / القارئ. الكتابة فعل ينفرد بخصوصية الشفافية والقسوة في نفس الآن، ولكنه في كل الحالات، في كل الأزمنة والأمكنة يظل فعلا صعب التحديد وصعب الفهم.
لماذا ولمن نكتب إذن…؟
هل من أجل الصراع مع البياض…؟
هل من أجل تدمير الذات…؟
هل من أجل القيام بممارسة معقدة.
إن الأمر لا يتعلق فقط بلعبة جمالية تتشكل لإحداث متعة مؤسسة في الذات المتلقية، ولا يتعلق بإحساس طافح بالغضب من فرط اختلال الأنا الجمعي، انه يتعلق قبل كل شيء، بعلاقة جدلية مستمرة بين الكتابة والتلقي، بين هذه الفرادة التي أسست الفعل الأدبي/ الإبداعي/ الفلسفي/ الفكري/ التاريخي/ العلمي، وبين العالم.
الكتابة بهذا المعنى هي فعل متحرك باستمرار داخل الحياة بتشكيلات متجددة/ جديدة نحو ذات واصفة تنفصل/ تتأثر/ تؤثر في التواثب و المتغيرات بوعي حاضر/ غائب.
-2-
والكتابة كتابات، كتابة العمل لتحصيل الرزق/ كتابة من أجل تجميل الحياة / وكتابة للتعبير عن الذات/ وكتابة للإبداع والتأمل/كتابة للعلم/ كتابة للحق والخير، وكتابة للتسلط والقهر، وهي بذلك، تمتد على مساحة واسعة، من الاحتراف والصنعة والمعرفة والإبداع.
وكما استقطبت الكتابة كل مجالات الحياة، هيمنت عليها الأفكار والديانات والمعتقدات والإيديولوجيات والآداب الإنسانية، منذ عصور بعيدة، ولربما كانت فكرة الحرية وفكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان، والحياة البرلمانية، والقومية، والدستور المكتوب، وسيادة القانون، كانت من صنع الكتابة / كانت من أكثر الموضوعات استقطابا بالكتابة خلال تاريخنا المعاصر، حيث تطوعت لها أقلام الفلاسفة والمفكرين والعلماء والفقهاء والملحدين ورجال السياسة والإعلام والتواصل، بشكل غير مسبوق.
ولأن الكتابة عملية جدلية، تتحدى وتتواصل مع كل تغيير ايجابي/ إصلاحي، نجد أبوابها مشرعة باستمرار على الواقع، تنطلق منه وتتجه إليه، تلاحقه وتلحقه بصيغ متعددة، ملحوقة بالتاريخ كأحداث وقضايا وإشكالات، ولكنها باستمرار تنفجر من خلال هذا الواقع وتكتوى بناره.
الكتابة إذن، حلم يتألق من خلال بريق فرح…أو من خلال ركامات الأحزان والآلام، لتتحول إلى إطلالة على الذات/ على الروح/ على الماضي/ الحاضر/ وعلى الحاضر/ المستقبل، حلم يتألق من داخل التاريخ… من داخل الإنسان، وأحيانا من خارجيهما.
-3-
… والكتابة في مجالاتها المختلفة، ذات علاقة وتقى بالقلق، فالقلق منهج تفرضه كتابة الإعلاميين والأدباء وعلماء الاجتماع والفلاسفة والمفكرين وغيرهم، ذلك لأن الكتابة تفقد أهميتها / مصداقيتها / ولربما جماليتها ما لم يرتبط بحروفها الحس النقدي التحليلي، ما لم يساورها قلق معين / هم معين لقضية أو قضايا معينة.
الكتابة كالحياة، تشترط وجود القلق من أجل أن تكون حية / فاعلة ، ذلك لأن صيرورتها تعكس هذا التصادم، لا معنى لكتابة رتيبة، تنصب باردة في عقل القارئ، ولا قيمة في النهاية لها دون انشغالات وهموم تذكي جدوة الصراع / توقض حماسته من أجل التغيير إلى الأفضل.
ليس للكتابة ما تدافع به عن نفسها، ولا تملك الحجة، فإنها فاعلة / مقدسة. إذا لم يكن القلق يسكنها في القلب والعقل والجوارح / إذا لم يكن القلق يسكن كلماتها.
عندما تصبح الكتابة بلا قلق، تصبح بلا أخلاق / بلا فلسفة / بلا ايدولوجيا /…أي بلا معنى.
يتفق العديد من نقاد الأدب والإبداع، أن أجمل النصوص أو الإبداعات عامة، ولدت في المجتمعات القلقة / المضطهدة / المهمشة، فالإبداعات الشهيرة لناظم حكمت و دوستويفسكي وفؤاد حداد وفرانز فانون ومحمد شكري وكاتب ياسين وعلال الفاسي ومحمد الوديع و ، ولدت بين أحضان الاعتقالات الباردة / بين جدران التهميش وزوايا النسيان، لتبقى معبرة عن خلود أصحابها.ظهرت تحت آلام القلق والاضطهاد والفقر والتعسف، رغم أن الكتابة كما يقول عبد الرحيم المودن، واحات ظليلة من الحرية والتحرر.
الكتابة بهذا المعنى تصبح منتجعا رمزيا، ينتج فيه الكتاب، أدباء، روائيون، مؤرخون، إعلاميون، فلاسفة، علماء الاجتماع، نصوصهم الفكرية والإبداعية، ويصوغون أفكارهم ومقولاتهم، ويشيدون عوالمهم بما يحسونه من قلق أو سعادة أو شكوك وآلام، مما تعبر عنه مفاهيمهم بصدد الكتابة وشروطها ومقتضياتها ووظيفتها، وهو ما يجعل فعل الكتابة يأخذ أبعادا متعددة تتجاوز حدود الممكن / حدود المحسوس،لترداد حدود المستحيل واللامنظور.
-4-
وكما لها ارتباط عضوي بالقلق، للكتابة علاقة/علاقات بالمعرفة الكثير من المناسبات، تساءل الفلاسفة: هل هي بحث عنها/عن تحصيلها وتحقيقها، أم هي المعرفة ذاتها ؟.
في نظر العديد من المؤرخين والباحثين والأدباء والمفكرين، أن الكتابة هي آلية لتحقيق المعرفة، وإمكانية لاستغوار مستودعها الغني، هي أيضا معبر نحو الفضاءات والأمكنة البعيدة والقصية التي يصعب على غير الكاتب الوصول إليها أو استنشاق طقوسها، من هنا تبدع الكتابة في نظر المبدعين كينونتها / من هنا تتولد صورتها في نظر الشعراء والأدباء من رحم هذه الطقوس والفضاءات اللامتناهية / من هنا أيضا يبدو الكاتب استثنائيا من خلال ارتباطه بالمعرفة / من خلال دعمه لأسئلتها التي تسكن الكائن والممكن أو التي تؤكد جدارتها المبهرة في تعرية الواضح والمزيف.
ومن هنا نفهم مدى التقدير والعناية اللذين أحاط بهما المسلمون الكتابة بوصفها قيمة معرفية مرسخة للقيم، فكانوا يتأهبون كل التأهب عند الإقبال على مباشرتها بقدر ما كانوا يتهيبون مهما بلغت درجة الإتقان لديهم. وهذا أمر طبيعي بالنسبة لعلماء موسوعيين يقدرون قيمة المعرفة وأهمية رسالتها. ولما كان الكاتب العربي المسلم على هذا القدر الجليل من الاهتمام بالمعرفة/بالكتابة.فقد ترتب عن ذلك نتائج منها أنه لم يكن يجرؤ على الاشتغال بها إنتاجا وإبداعا إلا من كان مؤهلا معرفيا لذلك، ومنها أن صار للكاتب عادات تختلف حسب تكوينهم النفسي والمعرفي ومحيطهم الاجتماعي.
يقول الكاتب إدريس الخضراوي «في هذه الكتابة الغنية والخصبة، لا تستطيع أن تعثر على شيء ثابت وقار…كلما غصت في أعماقها، وتهت في مجازاتها واستعاراتها أدركت أن ثمة شيئا جديدا ومغايرا، وأن ثمة جغرافيا من الدلالة والمعنى لا يمكنك أن تحدها أو تحيط بها خارج طقوس المعرفة. ولكنك حتما تزداد قدرة على تنسم عبقها وهواها… وعلى الوعي بالطاقة الخفية التي تسكنك وتجعلك قابلا لأن تواكب تحولها وتبدلها».
ان كتابة المعرفة تتجه صوب الجمال لفضح القبح / تتجه صوب الصدق لفضح الكذب / تتجه صوب الوضوح لفضح الالتباس، ومن ثمة تصبح عنوانا بارزا للمعرفة.
-5-
والكاتب عبر التاريخ الإنساني، كان وما يزال هو المعبر البليغ عن قلق عصره / عن معرفة عصره /…وعن أفكار عصره، هو المعالج لقضايا / مشاكل/ صراعات/ أحداث عصره. يقود المنعطفات التاريخية الكبرى التي تطبع هذا العصر أو ذاك…وأحيانا يكون هو شاهد زمانه، ليس له أن يصمت عن الكتابة، ولا أن يتجنب مخاطرها، لذلك كانت الكتابة باستمرار مفعمة بالمسؤولية، هي ليست مجرد كلمات، وإنما هي فعل ايجابي مؤثر.
والكاتب، لا يأتي إلى الكتابة بالصدفة، ولا بالخضوع إلى تقديرات محسوبة المنطلقات والنتائج، وإنما يأتي إليها من داخل الجرح الذي يحمله في أعماقه، فهي اختلال ينبثق عن إخفاق نفسي واجتماعي وحضاري، لأجل ذلك لا تكون الكتابة ممكنة إلا في علاقاتها مع نفس الكاتب وزمنه وقلقه ومعرفته وعقله ومجتمعه وحضارته.
وللكاتب في فعل الكتابة، فضاءاته المفضلة ، من الكتاب من يكون الليل صديقا / رفيقا لكتاباته، يعتبر صمت الليل وظلمته زمنا مناسبا لوضع أفكاره وإشعاره على الورق، ومنهم من يرى زرقة السماء وخضرة الطبيعة، إغراء للنفس والمعرفة، ولمخاضات الكتابة…ومنهم من يضع كلماته وأشعاره وأفكاره في عتمة السجون والمعتقلات والمنافي.
-6-
مجلة» ليبراسيون» الفرنسية، عندما أرادت قبل سنوات، أن تلقي الضوء على فعل الكتابة، التقت بأربعمائة كاتب من مختلف الجنسيات واللغات والانتماءات والإيديولوجية لتسألهم : لمن ولماذا الكتابة ؟.
كانت الإجابات ذات مضمون واحد تقريبا : نكتب لنؤثر في الآخر، ولكن بالأساس، لنساهم في عملية التغيير الاجتماعي / الحضاري، ولنخلق رؤية لحياة أفضل تعوض عن الخسارات التي تعرض لها الإنسان في تاريخه، في مناطق عديدة من كوكبه…وأيضا لنسترجع ما ضاع للإنسان من قيم ومثل وتقاليد…
طبعا، كانت الإجابات (الأربعمائة) لا رابط بينها، سوى الإطار المكاني / الزماني للكاتب، ولكنها أبعد من ذلك، كانت تتوحد بشكل أو بآخر، بصيغة أو بأخرى، في الدوافع العميقة لفعل الكتابة، وهي دوافع اندفاع وتفاعل…
في منظور هذه الإجابات، الكتابة هي : خروج حتمي من درجة الصفر/ خروج ايجابي من حالة السكونية / استجابة تلقائية لمنبه خاص لا يملكه سوى الكاتب نفسه.
أما أفعال الكتابة في هذا المنظور فهي: التأثير والمساهمة في التغيير والخلق والتعويض، لأنها أولا ترتبط بالعملية التاريخية الشاملة، وثانيا لأنها تسعى إلى فهم الزمن في حركيته وتحولاته، وثالثا وأخيرا، لأنها تلاحق الواقع، تنطلق منه وتعود إليه، ترغب في تحقيق التوازن بين الفعل والانفعال، بين الأنا والآخر… بين الحلم والواقع.
-7-
وخارج استطلاعات الرأي، التي تنشرها الصحف والمجلات الغربية، من حين لآخر عن الكتابة، يبقى مفهوم الكتابة مستعصيا لدى العديد من الفلاسفة والباحثين، خاصة عندما يقتربون بها من عصر الصراعات والحروب والتخاذل والتصادم، الذي تفعل فيه الكتابة فعلها المؤثر.
فالأجناس الكتابية في ظل هذا المفهوم، تنضج كمياء اللغات والكلمات، تفرز الرؤى الفلسفية، التي تحول الواقع إلى حالة لا مهادنة، والتي تحوله إلى حالة لا تصالح، وتبرز الخطابات الممكنة والمستحيلة، كما تعيد تركيب العلائق والوقائع والحالات، حسب مراكز وظروف أصحابها.
هل يعني ذلك أن الكتابة في هذا العصر، المطبوع بالصراع المتعدد الواجهات والأهداف والانتماءات، أخذت الموقع الذي يؤهلها لتحقيق ذاتها في التغيير…؟ وأي تغيير…؟.
بعيدا عن هذه الأسئلة وحمولتها في تدقيق مفهوم الكتابة تمارس الكتابة في مختلف جهات الأرض، حقها في التغيير والمشاركة، بعضها يسعى الانفلات من آثار اليومي والعادي، وبعضها الآخر يسعى إلى تفكيك وإعادة تركيب العلائق وفق أنساق معينة ووفق أنسجة لغوية معينة، والبعض الآخر منها يسعى إلى الاختراق والتنبؤ، والى دغدغة العقل وتجلياته، بإبراز عضلات المثن اللغوي، أو عضلات التجريد اللغوي…
والكتابة لا تكون ممكنة، إلا في علاقاتها مع النفس والزمن والعقل والمجتمع والحضارة والتاريخ، في علاقاتها مع أشكال التعبير وفنونه، بصرف النظر عن انتماء الكاتب إلى هذا الجنس أو ذاك، أو هذا المذهب أو ذاك، لأجل ذلك ظل موضوع الكتابة باستمرار موضع تساؤل، ليس بغاية تبرير مفاهيمها، ولكن بسبب فاعلية هذه المفاهيم.
-8-
حسب بعض المؤرخين، فإن التجليات الأولى للكتابة، يمكن إرجاعها على وجه التقريب إلى ثلاثة آلاف وخمسمائة (3500) سنة قبل الميلاد، وهو تاريخ الكتابات السومرية الأولى في منطقة ما بين النهرين.
ويرى باحث اسباني (خوان غوتيصولو) انه من بين ثلاثة آلاف لغة المتحدث بها في عالم اليوم، لا تتوفر سوى ثمان وسبعين (78) منها على أدب حي قائم على مائة (100) من الأبجديات التي تم ابتكارها عبر التاريخ لصناعة الكتابة، وهو ما يعني أن المئات من اللغات المستعملة حاليا على سطح الأرض، تفتقر إلى الكتابة، إذ يعتمد التواصل فيها على الشفوي بصفة استثنائية.
ومنذ أن ظهرت الكتابة في الوجود البشري، ظهرت أدواتها وتقاليدها وعاداتها التي أعطتها مكانة خاصة في النفس الإنسانية، وإحاطتها بعناية الحكام والحكماء، بوصفها قيمة مرسخة للقيم، وباعتبارها أيضا سلطانا قادرا على الفعل والتأثير.
والسؤال الذي تردده أصداؤها : لماذا ولمن نكتب… ؟

الكاتب : محمد أديب السلاوي - بتاريخ : 23/03/2018