عدت من الدار البيضاء ، بعد أن حضرت وقائع جلسة «ذاكرة» بالمعرض الدولي للكتاب في دورته 23، التي كانت لحظة وفاء خالصة لاسترجاع منجز الشاعر الراحل محمد الميموني ، لينصب حديث المشاركين في هذا اللقاء على ذكرى وذاكرة من وصفه كتاب المعرض الدولي عن حق « بالمناضل المغربي الشهم، والمربي الجليل ، والشاعر الكبير محمد الميموني» الذي غادرنا بعدما سجّل اسمه في التاريج باعتباره أحد الأقلام البارزة التي كان لها الفضل في تحديث القصيدة المغربية. «
وقد كانت المناسبة فرصة للتذكير بإنجازات الشاعر الراحل ـ وتحليل بعض شعره، وخلال نفس الأمسية كان لي شرف المشاركة بإلقاء جزءٍ من هذه الكلمة:
كنت وأنا أنظر إلى شقيقي ، وهو يصر في أيامه الأخيرة على الذهاب بعيداً في إصراره على المضيّ في الغرق في حالة اكتئاب شديدة، أحس أنني ، لحظة بعد أخرى أقترب من أن أفقد واحدا من أركان ذاتي وذاكرتي ، وأن جانباً مني يشرف على أن يغادرني بلا رجعة، وقد جعل ذلك يتأكد عندي إثْرَ كل زيارة ، كان خلالها لا يحدثني إلا عن الموت ، فأدرك عمق إحساسه بأنه يوشك أن يرحل ، بحيث استقرت في ذاكرتي القريبة بالترتيب العبارات الدالة على ما كان قدأصبح يعد نفسَهُ له ، وقد ذكرت بعض ما سمعت من ذلك في كتابات سابقة نعيته فيها إلى من يعنيهم أمره من الناس والأدباء و الشعراء، إلا أن ما رأته عيني كان أكثر إيلاماً، وكنت لا أستطيع قبوله إلا مع ما كنت أوطِّنُ النفسَ عليه من قرب وداع أخير ، كان من أشد ما تألمتُ له، رغم طول عمري،أنني سأندم لكون شقيقي لم يقل لي كل ما كان يود قوله، لكنه ترك لي أن استنبطه مما انتهى إليه أخيراً، بعد أن امتنع عن الأكل ، ومن ثم قل أكله، وامتنع من ثم عن الكلام، مستسلما لضغط الاكتئاب بإصرار ، حتى أسلم الروح في صمت، أو بعد أن طلب أن يسمع شيئاً مما كان يثير خياله من صور بيان، في كتاب لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولو كان بإمكانه العودة إلى تذكر شئ من معجز الشعر لفَعَل، ولكنه اكتفى بما تيسّرَ الوصول إليه، وكاد العمر أن يأذن بوداع ، مع ضوء فجر الثاني عشر من أكتوبر 2017 وكأنه كان يرى ذلك الضوء في آخر نفق طال عبوره به حتى بلغ الواحدة والثمانين من حياته الحافلة.
(قال لي :
ـ إني وقد أبقى طويلاً،
فالذي أخشاه، من قبل انطفائي،
الآن أو بعد قليل،
خلسةً ينشُب داءٌ نابَهُ الناريَّ في
مجرى عروقي.
إنني ابصرُ روحَ الشاعرِ الآنَ
تعاني عضّة الداءِ،
ومن فتنة آلامٍ بما يطعن في
روحي ، بِصَبْرٍ،
مثلما الومض الذي
ينهضُ كالسيف،
وينصب على القلبِ
كآسبابِ حَريقِ.
ثُمَّ والروحُ،
بأجلَى ما تكون الروحُ،
في قمة ما يشعل وجدانَ الذي
جاشَ بقلب الليلِ،
صلَّى القلبُ أوْ يخشعَ
في صِدْقٍ جميل:
ـ لا أخاف الموت،
بل آخر ما أخشاه أن يسعى
إليّ الداءُ منهوماً وعطشانَ
ولا يلقى الذي
*يُرْضِيهِ في جسم عليل.)
فقدت إذن عماد ذاكرتي، وقد كانت ذاكرته في الحياة غنية، لسعة تجربته في أكثر من مجال، دلت عليها روايته (عودة المعلم الزيْن) التي كتبها في عاميه الأخيرين، بعد فراغه من كتابة (كأنها مصادفات: تداعيات سيرة ذاتية) التي كان قد جرب فيها قدرته على استدعاء جوانب من حياته على سبيل الاستئناس، فلما رأى أن فصولها تزدحم فارضة نفسها عليه وهو يكتب،أسلم كل القياد للذاكرة في استدعاء أكثرجوانب عالمه، بدءاً من مدينته التي لم يتركها ، فقد ظل يسكنها وإن هاجرها إلى مدينة أخرى مجاورة، بل إنه في روايته انتقل حتى إلى دولة أخرى تربطها بالمغرب من قديم،روابطُ تحابٍّ وتضادٍّ شتى ، هذا فوق أن ينابيع الشعر لم تتوقف عنده، فقد كتب دوواوين عدة ، (منها: موشحات حزن متفائل)و(بداية ما لا ينتهي) عكست جانباً من تأملاته عميقة في الإنسان والقوى التي توجهه، لنُسَمِّ جانباً منها بالصوفي ، ولكن ليس الصوفي في بعده الدينيِّ، هو الذي لم يكن يثيره في الصوفية جانبها الغيبي، بل قدرة الصوفي على استبطان أعماق الإنسان، وما تهب الصوفية الشعرَ من أجنحة للتحليق الذي لا يحد، وأحياناً لنقل الوعي الإنساني إلى آفاق عليا ،من خلال ما تفعله باللغة الشعرية حينما تثوِّرها وتغيِّرُها ، فتنقلها بمجازاتها التوليدية إلى أن تقول مالا ينقال.
وشعرياً أستطعت من خلال مراقبة حياة الشاعر الطويلة في الشعر أن أرى كيف كان ينتقل من مرحلة إلى أخرى ، فشعره في الستينات ، وفي جزء من السبعينات كان شعراً يؤمن بالتغيير السياسي ، ويسمي الأشياء بأسمائها ، ويؤمن بضرورة أن يسهم هذا الشعر في توعية الإنسان ليغير من واقعه سياسياً واجتماعياً، وقد عكس ذلك ديوانه الأول( آخر أعوام العقم) ولأنه كان شاعراً يتطور رأيت كيف انتقل إلى طور فني جديد مع بداية الثمانينات، وموقف جديد من الواقع والحياة،وهويرى في ديوانه :(الحلم في زمن الوهم ) وكأنه وصل إلى أن ما كان يعتقده نهاية عقم لم يكن إلا إغراقاً في وهم ، وسيمضي (على طريق النهر) إلى ( الأقامة في فسحة الصحو) استعداداً لـلانخراط في (بداية ما لا ينتهي) وهو عنوان إصداره الأخير، وهو في كل ذلك يمثل بعمق مراحل عرفتها لغة الشعر في المغرب من صراعات، بين لغة حاولت قول العالم، ولغة كانت تتطلع إلى قول كل أشكال وعيها له، عبر أساليب كانت تتنوع ويفرض جديدُها نفسه ، لينسحب الوعي التقليدي باللغة ، تاركاً المجال في الشعر المغربي المعاصر للغة جديدة ووسائل تعبيرية جديدة ، ولم تكن التغييرات والتطورات تحدث بلا خسائربالطبع، خاصة في حضور شعراء لم يكونوا يريدون للجديد أن يسود في هدوء، ولهذا كان وصف ما يدور بأن معارك« تجري في ظاهر الحياة وفي أعماقها الصاخبة ، وأعماق نهر الشعر أيضاً، فجاء ديوانه الثاني (على طريق النهر ) حاملاً مضامين جديدة، ولم يكن الشاعر راغباً في أن تتعدد دواوينه، وإن بدا مع ظهور أعماله الشعرية الكاملة ، أوائل الألفية الثالثة، أنه كان يراكم ، ما ينشره متفرقاً ، فسمحت فرصة طبع الأعمال أن يظهر ما كان قد تجمَّـع لديه حتى ذلك التاريخ في طبعة (2002م) .
لقد سمح لي ارتباطي بشقيقي فنيا منذ 1962، ارتباط التلميذ بأستاذه، أن أقف على مراحل من ارتباطه هو نفسه بالشعر منذ ذلك التاريخ، ويعرف أصدقائي أن علاقتي بشقيقي وأنا طفل الثالثة عشرة، عنيت يوم اكتشف أن له أخاً يكتب ، ففرح لذلك الفرح العظيم ، لكنه كان يخشى على التلميذ « الشاعر» أن ينشغل عن دروسه ، أو يغتَرّ بما كان يكتبه، فكان يوجهني التوجيه القاسي أحياناً ، مثل ما يبدو من تلك التوجيه الذي كتبه على أول صفحة من ذلك الدفتر الأزرق الذي كنت قد ملأته بما كتبت، فإخذته إليه على حين غرة مني إحدى شقيقاتي: فقد وضع خطاً بالأحمر تحت عبارة (الشاعر : أحمد بنميمون) وكتب: (ليس من اللياقة أن تقول عن نفسك شاعر، أترك للآخرين أن يقولوا ذلك إن استطعتَ إقناعهم) لكنه بعد أن لاحظ مقدار ما أتكلفه في البحث عن قواف في إحدى «قصائد» ذلك الدفتر ، والزمن الشعري في المغرب سنة 1962 زمن جمود وتقليد، كما نعلم جميعاً، فكتب(ليست القافية شيئاً مهماً، ما دام المكتوب شعراً) وكان بذلك يفجأ وعيي الذي كان يكاد لا يرى الشعر (خارج الكلام الموزون المقفى) ويفتح أمامي نوافذ للمعرفة الشعرية ، بما كان يضعه في متناولي من مقروءاته في مجلة الآداب والأديب و»شعر» من لبنان ومجلة الشعر المصرية ،ودواوين من مطبوعات دار الآداب البيروتية، ثم لأصحو ذات مرة من سنة 1965 وهو يحمّلني رزمة من الرسائل موجهة إلى ما يفوق الثلاثين من شعراء ونقاد المغرب ، دعوة للمشاركة في (المهرجان الوطني للشعر المغربي) ولأحظى ببداية علاقاتي بأسماء كثيرين من رواد الشعر في المغرب، في شهر شتنبر من السنة نفسها، بعد حضوري دورة المهرجان الأولى.
***
نَمَا وعيي الشعري بعد انتقالي إلى كلية الآداب بتوجيه من شقيقي نفسه، الذي ألح على أن أدخل هذه الكلية ، ففيها سأجد ما يناسب ميولي التي عبرت عنها منذ طفولتي ، ولست أنسى ما قاله لي ، وهو يوجهني على هذا الطريق بعد ظفري بالباكالوريا سنة 1967:( إياك يا أخي أن تفكر في دخول المدرسة الإدارية، أوما يشبهها، فلم يكن بين آبائنا يوماً أحد م من يستهويهم العمل في ميادين لا تقبل أن تُسمع فيها كلمة :لا).
وأنا أرى أن قسوته هذه كانت مما لا يتعارض مع ما كان سائداً وقتئذ من اختيارات واقتناعات في الحياة وإيمان بأن التغييرات التي كان الجميع يتوقعها، كانت ستغير كل شيء.
وقد ظل شقيقي مؤمناً أنه يعيش آخر أزمنة العقم، حتى مع ما حدث من تغييرات في فهمه الفني للممارسة الشعرية، والتعبير بعمق عن طموحات إلإنسان المغربي، وأفكاره من خلال تطلعه للجمال في العلاقات الإنسانية واحتفائه بالكائن الإنساني ، ومعاناته محنة الوجود. كما أنه ظل وفيأً للشعر ، مطوِّراً من خلال ممارسة له التي لم تتوقف لعقود طويلة، قدراتِه على تطويع الكلمة الشعرية لخياله الفني الواسع، وقد كان رصيده من المعرفة والثقافة الشعبيتين واسعاً أيضاً، ففي وقفتي الأخيرة أمامه قبل أن يودعنا، أرسل تعبيراًعميق الانتماء إلى حقيقة الإنسان الشعبي في بيئته التي كان يبدو أنه هاجرها، وغرق في بيئة أخرى، بعد ان سألته كيف تجد نفسك :
***
قياسيَ قُبَيْلَ الدفن تامٌّ،
وقدْ عوَى على الأرض ناعٍ،
من يكذِّبُ صَيحةٌ ،
تردّدُها الآفاقُ؟ لا ريب ّ
قد دنتْ بها
من دياجي الشك ما أتتْ به منْ
رؤى الخوف التي لا تحدِّقُ ،بها العينُ،
حتى ينطفِي مِن زوالِها
ضياءٌ، وقد أمسى الزوالّ غروبُها.
فأيُّ الينابيع التي انداحت يجفُّ ما
بها افترِّ منْ صخْرٍ، وقد غاض طيبُها
***
و ضيَّعتُ من روحيَ الذي كان عطرهُ
بلون شبابٍ لا يغيضَ صبيبُها
فكل مكان في اصفرارٍ تركتُهُ
**ونفسيَ غطَّاها بليلٍ شحوبِها.
وهو في محاورته معي كان يقدم التصوير الشعري لبعض ما يختزنه الموروث الشعبي في إيجاز مدهش :حين أسرَّ إليّ بأنه « لم يبق إلا حق الفأس والقياس «
وكذلك كان ، فلم تمض إلا أيام قلائلُ ، حتى أتاني نعى الشاعرَ الراحل محمد الميموني ، وقد مضى مثقل النفْس بالشعور بالغبن ، فكأن صوتاً لم يكن يتوقف عن الهمس له في أعماقه ، بأن الشعراء المغاربة قد نَسُوْهُ، والحقيقة انه لم يُنْسَ ولن يُنْسَى، فقد ترك فينا عطاءً سيظل يذْكَرُ له ، في ساحة لا تَنِي تتتسع ، وتتنوع إبداعات روادها.
** الشاهدان من شعر صاحب هذه الشهادة