يمكن القول، إن رواية “صهيل جسد” تسرد واقع العنف الفيزيقي واللفظي والنفسي الذي يتأثر به الإنسان من خلال الأمكنة والفضاءات الاجتماعية العديدة التي ينتقل عبرها الإنسان ،كالقرية، المدينة، المسجد، البيت والحانات إلى غير ذلك من الأمكنة.
واللافت للانتباه، أن تبئير الكتابة على عنف الأمكنة روائيا لا يكتفي بحدود سرد ونقل مظاهر العنف كما يقع في المجتمع، وإنما تصبح هي بدورها كتابة عنيفةً مدمرةً ومحطمةً لكل القيود التي تسيج الممارسة والتفكير الإنساني.
I) الأمكنة وأثرها على نفسية الشخوص:
في رواية “صهيل جسد” للكاتب عبد الجليل ولد حموية يسافر بنا السارد من العالم الواقعي، المعيش المتجسد في قرية آيت إيكو، المكان المعزول عن كل مظاهر الحضارة، والمنتمي تنمويا إلى المغرب غير النافع حسب التقطيع الاستعماري إلى عالم مُتخيّل، مدينة سان فرانسيسكو التابعة لولاية كاليفورنيا الأمريكية المشهورة عالميا بجسرها المسمى البوابة الذهبية. وهي ثاني مدينة في الولايات المتحدة من حيث كثافة السكان، كما تتميز بوجود أحياء مختلفة تدل على ساكنيها مثل الحي الصيني والياباني والمكسيكي، هاته الأمكنة المنفتحة إلى جانب أمكنة أخرى مغلقة ستترك أثرا واضحا في نفوس الشخوص الروائية وستؤثر على مسارها وأحداثها وملفوظاتها السردية. وفي هذا الصدد يقول فليب هامون نقلا عن حسن البحراوي في سياق حديثة عن الوظيفة الأنثربولوجية لوصف المكان: «إن البيئة الموصوفة تؤثر على الشخصية وتحفزها على القيام بالأحداث وتدفع بها إلى الفعل حتى أنه يمكن القول بأن وصف البيئة هو وصف مستقبل الشخصية». بناء على هذا القول يمكن تتبع الأمكنة المسرودة داخل الرواية وتصنيفها إلى نوعين:
1ـ الأمكنة المنفتحة:
أـ القرية: رغم كون المكان يتسم بالانفتاح إلا أنه ترك جروحا في نفسية السارد على اعتبار أنه مكان يقع على الهامش وبعيدا عن كل المقاربات التنموية، واقع التهميش هذا سيخلف تمردا لدى السارد وسينشد حياة العبث، وسيضرب عرض الحائط كل القيم المتعارف عليها داخل القبيلة، وسيلجأ إلى السكر والعربدة ومضاجعة الحيوانات؛ الشيء الذي سيجعل منه إنسانا منبوذا في القرية ونعته بشتى أنواع النعوتات، أحيانا بالكافر وأخرى ببوبهايم. هذا الواقع البئيس سيدفعه بالتفكير في الهروب إلى عالم الأحلام ويختار مدينة فرانسيسكو كمكان للهجرة وتحقيق الحلم المنشود.
ب ـ المدينة هو المكان الثاني المنفتح الذي ستجرى فيه الأحداث، وسيعمد الروائي بمهارة سردية عن طريق التخييل لأن ينتقل بالقارئ سرديا إلى عالم يتسم الانفتاح والحرية واختلاط الأجناس، مما يساهم في بناء مكان منسجم مع طبائع وعادات الشخصيات التي تتحرك فيه وتتأثر به بدون أية مفارقة، حيث يكون هناك تأثير متبادل بين الشخصية والمكان ومن هنا “يصبح بإمكان بنية الفضاء الروائي أن تكشف لنا عن الحالة الشعورية التي تعيشها الشخصية، بل وقد تساهم في التحولات الداخلية التي تطرأ عليها”.
في مدينة سان فرانسيسكو سنتابع مشاهد سردية لشخصيات عنفها المكان وترك فيها آثار سلبية. سنتوقف مليا عند كريستين التي كانت ملاذا للسارد في محنته في أرض الأحلام. قصة كريستين أو كريس ما هي إلا واحدة من الشخصيات الملفوظة والمرفوضة من المجتمع والهارب من مدينة هونولولو التابعة لولاية هواي كفضاء مفتوح لكنه متشبع بتعاليم الكنيسة الكاثوليكية المتزمتة الذي ساهم في حرمانه من ممارسة حقه في الوجود والتعبير عن ذاته وميولاته الجنسية كمتحول أنثى. بعد ضبطه في المدرسة وصدور قرار الطرد في حقه وانفضاح أمره بين الأصدقاء وأصبح محط احتقار واستهزاء من طرف الجميع في حوار مقتضب مع السارد يسترجع كريس علاقته بالمدينة قائلا في المقطع السردي التالي: «إنها المدينة التي ولدت وترعرعت فيها إلى حين وقوع ذلك الحادث الذي دفعني لمغادرتها رغما عن أنفي».
ويضيف: «ما زلت أبكي كلما تذكرتها، تركت ذاتي هناك» إذن هذا الفضاء المسمى مدينة رغم انفتاحه واعتباره قبلة للسياح الأجانب، لم يترك مجالا لكريس للتعبير عن حريته الفردية وحرمه من التصرف في جسده بشكل علني، فاختار الهجرة إلى وطن حيث يجد إنسانيته على حد تعبيره. وبدأ دورة الحياة من جديد في مدينة سان فرانسيسكو. مدينة التعدد والانفتاح على الآخر بدون قيود المجتمع الكنسي وتعاليمه الدينية.
أما شخصية خالد الذي صادفه السارد وتعرف عليه في إحدى الحانات، بدوره سينال حظه من حضارة المدينة التي احتضنته يوم وطأت قدماه أرض فرانسيسكو قادما إليها مهاجرا من المغرب. يصطدم بواقع الحال وسيجد نفسه متورطا معه إحدى أعتى العصابات في ترويج المخدرات وجمع المال القدر ويدخل في متاهات مع خوليو/ الشاذ، زعيم العصابة لا مخرج منها.
فعوض أن تصبح المدينة مركز استقرار وهدوء لنفسية الشخوص وتحقيق الذات، تصبح فضاء لممارسة كل أشكال الممارسات الشاذة من جنس ومثلية وسحاق إضافة إلى التجارة المحرمة. وتقطع الطريق أمام كل عمل يسمح بتحقيق الذات بعيدا عن الممنوع، وتنكسر أحلام الشخصية لتصبح بلا إرادة. هذا التمزق الذي تعيشه مدينة بحجم سان فرانسيسكو، واختلاط الأجناس جعل منها مكانا تنعدم فيه ضمانات العيش بدون الانخراط في لعبة العصابات وممارسة الشذوذ لضمان لقمة العيش. وهذا ما انعكس بشكل سلبي على جل الشخصيات الشيء الذي يدفعهم إلى الإفراط في السكر ليغيب العقل ويتكيف مع واقع التشظي.
(كريس أو كريستين، خوليو، خالد، مايلي، إيميليا) وعبدو الملتحق حديثا بالمدينة الذي سيتجرع بدوره مرارة هذا العيش، وستتحطم أحلامه كمهاجر يطمع في تحسين وضعيته المادية، ليجد نفسه يعيش على الهامش وهو ما لم يرتضه لنفسه عندما صحا ضميره الإنساني.
بالإضافة إلى هذا التعنيف النفسي والمادي الذي مارسته المدينة على الشخوص كمكان مفتوح، نجد كذلك صنفا آخر لا يقل أهمية في توتير الحالة النفسية للشخصيات.
2ـ الأمكنة المغلقة:
يقول السارد: “كان السجن طريقه أبي في تقويم سلوك طفل متمرد على سلطته”.
أـ الحظيرة: إن مكان الحظيرة كمكان مخصص للبهائم يصبح بفعل جبروت الأب وقساوته سجنا للابن يرمي فيه بدون مأكل عقابا على أفعاله الشيطانية. إن واقعة سجنه بالحظيرة لمدة خمسة أيام تركت لدى نفسية السارد فوبيا الأماكن المغلقة. وكان كلما مر من مكان أو راوده التفكير للنزول في مكان مغلق بأربعة جدران، إلا وتملكه الخوف والرعب. لأنه يحمل في مخيلته ذكرى أليمة من هذا النوع من الأماكن. ومما زاد أيضا في ترسيخ هذا الألم في نفسية السارد هو طرده من المسجد كمكان من المفترض فيه أن يكون حاضنة نفسية واجتماعية لحالة اللااستقرار التي كان يعاني منها السارد في أرض الأحلام.
وشخصية كريس بدوره شكل له بيت العائلة جرحا غائرا في ذاكرته ولا شعوره، حينما اعتقل من طرف أبويه بعد طرده من المدرسة بسبب ميولاته الشاذة يقول: «سجنت لأيام في غرفتي لأمنع من الخروج». وظل معتكفا في البيت بقرار من المجتمع الأبوي المتشبع بتعاليم الطقوس الدينية والرافض لكل ممارسة خارجة عن التقاليد. وظل على هذا الوضع إلى أن وصل سن الثامنة عشر وفضل الهجرة إلى مدينة تسمح له بالتعبير عن رغبات حيث تعدد الثقافات والأجناس المتصالحة مع الذات والآخر، إلا أن المدينة رغم هذا العقد الاجتماعي المتسامح مع الوافدين عليها ستصبح بدورها بؤرة توتر نفسي لأغلب الشخوص التي تعرضنا لها في الرواية، بدءا من عبدو وكريس كشخصيات محورية في النص الروائي مرورا بخالد وخوليو، قاسمهم المشترك، التشرذم والتشظي وإن اختلفت بيئاتهم. فأحكام المجتمع الجاهزة والمسيحية بتقاليد القبيلة أو المدينة ، المتسمة بالتزمت العقدي ساهمت بشكل أو بآخر في مغادرة أوطانهما رغما عن أنفهما، إصافة إلى طبيعة الأمكنة المثارة في النص الروائي التي بدورها تركت شروخا.
فالبيت افتقد ألفته مع كريس وأصبحت علاقته بالشخصية علاقة توتر وخوف وقلق. كما بالنسبة لعبدو الذي كان كلما نزل بمكان له أربعة جدران إلا وانتابه قلق الأمكنة المغلقة. وفي ذلك يذهب غاستون باشلار إلى أن “المكان يهيئ للشخصية جوا منسجما مع طبائعها”.
لذا فأثناء تذكر أمكنة الحظيرة والبيت لم نجد ألفة بين الشخصيات والأمكنة بقدر ما وجدنا نفورا وتنكرا.
تأسيسا على ما سبق، فهذه الثنائيات الضدية لعلاقة المكان مفتوح، مغلق وجدليته ساهمت في تطوير أحداث النص الروائي والدفع بالشخصيات في سياقات ثقافية مختلفة لإبراز تجاربها الإنسانية الخاصة والمتميزة لكل مجتمع على حدة، رغم التصدع والشروخ التي تركتها الأمكنة في نفسية الشخوص، وهذا ملمح يدخل في سياق استراتيجية الكتابة الروائية الجديدة التي ركزت على المكان باعتباره عنصرا مركزيا يساهم في بناء الرواية ولا يعتبر ديكورا مكملا لعناصرها فحسب كما تناولته طرائق الكتابة الكلاسيكية.
II) مستويات اشتغال اللغة في الرواية
كما لا يخفى على أي باحث، إن اللغة هي المادة الأساسية لكل إبداع أدبي، والرواية بشكل خاص تتغذى على اللغة. ومن ثم لا يمكن الحديث عن الرواية دون الحديث عن اللغة كعنصر رئيس يسهم في صياغة هيكلها العام، لكونها تزدان بجملة من المرجعيات التي يهدف الكاتب الروائي إلى إثارتها وانتقادها في نفس الآن، فهي حاملة للأفكار والعواطف، فضلا عن تصويرها للصراعات التي يموج بها الواقع الحي. فاللغة هي الحاملة لقوانين المجتمع والمعبرة عن تحولاته. “إنها سيرورة تطور متواصل، تتحقق عبر التفاعل اللفظي المجتمعي للمتكلمين”.
يستعين الروائي عبد الجليل ولد حموية في نص “صهيل جسد” في بناء لغته السردية على مجموعة من التعالقات النصية والأشكال الخطابية، فهو يلجأ إلى اللغة السردية المباشرة للتعبير ووصف الواقع المأساوي لحياة الشخوص والأمكنة. فحينما يصرح بقول في المقطع السردي التالي: “أحمل معي من الشؤم ما يستطيع إفقار قارة أوربا بأكملها”. فلغته في هذا المقطع السردي بسيطة مباشرة تريد أن تؤدي وظيفة إخبارية بطبيعة المعاناة والفقر. كما يعمد إلى عقد مقارنات في السلوك والممارسة بين الهنا والهناك بشكل سلس وبسيط وبلغة مكشوفة وصادمة ومدنسة يقول: “لم نكن مضطرين إلى ولوج شقة كريستين متسللين كما يحدث في بلاد النفاق في سبت آيت إيكو، نشرب الخمر ونطالب بإغلاق الحانات، نزني ونلهث خلف العاهرات كالكلاب المسعورة ونفرح لخبر هدم ماخور”.
وهو بهذه اللغة البسيطة الناهلة من قاع المجتمع يريد أن يخضع مجتمع المتناقضات المرتكز على مبدأ الحلال الحرام خدمة للمصلحة اللحظية.
وفي سياق التنويعات اللغوية اعتمد الكاتب على لغة التفاعل النصي، مستدعيا أنماطا تعبيرية تخللت النص الروائي كالأغنية الشعبية لما لها من دلالة نفسية تعبيرية على المتلقي، متجاوزة البعد المرجعي وفاتحة آفاقا للإيحاء والرمز لما أصاب السارد من ورطة حين رجوعه إلى بيت كريستين مكرها “جابتني الغلطة وجابوني الهموم” وهي أغنية لفنان الراي بلال. فالسارد استحضر هذا النص تعبيرا منه على عدم رضاه للعودة، إلا أن الحاجة والبرد القارس هو الذي دفع به لأن يقبل بذلك الوضع الشاذ.
وانطلاقا من مبدأ التنويعات اللغوية يتكئ الكاتب على جملة من الأمثال سواء بلغة فصيحة حيث يقول: “العطار لا يصلح ما أفسده الدهر” أو بالدارجة المغربية باعتبارها مرجعا للوعي الجمعي تختزل تجارب السابقين، وتحاول الاستفادة من خبراتهم. وهنا يستحضر مثلا كانت أمه تردده كلما تورط في عمل ما “ما دير خير ما يطرا باس”. وسياق المثل تنكر فتاة لجميله حينما أراد إنقاذها وبعد حضور الشرطة، اتهمته بالاعتداء عليها وسيق إلى مخفر الشرطة.
وعلى نفس المنوال تعدد وتنوع أنماط الكتابة سينفتح على فن الرسالة وسيؤثث فضاء النص الروائي بثلاث رسائل. واحدة قصيرة يعتذر فيها للعجوز الآسيوية عما صدر منه من أفعال حيوانية في تلك الليلة والثانية لحبيبته الزوهرة المرأة الوحيدة التي أحبها وشعر معها بالأمان، والرسالة الثالثة فقد خصصها لأمه، المرأة التي وهبته الحياة.
من خلال هذه الرسائل سنكتشف الوجه الثاني لشخصية عبدو/ الإنسان. رغم قساوة الواقع سواء في آيت إيكو أو في سان فرانسيسكو، ورغم كل ما مر به من تجارب ومن ممارسات شاذة، أوصلته إلى حد الحيوانية، فهو لم ينهزم كإنسان، ووقف وقفة تأمل مع الذات وتصالح معها ومع الآخر وآثر الغياب قتلا للشؤم والنحس والشر الذي لازمه طوال حياته، تاركا حكمة للشباب الحالم بالضفة الأخرى.
على سبيل الاستنتاج:
يتضح أن الكاتب عبد الجليل استطاع أن يجعل من المكان عنصر بانيا للرواية بتأثيره في الأحداث وفي نفسية الشخوص، معتمدا على اللغة لقدرتها الخلاقة في الكشف عن جملة من القضايا الاجتماعية التي ينضح بها المجتمع، وفضح طبيعة التناقضات المجتمعية. وهو ما سمح له بأن يوظف جملة من الأشكال الخطابية ولغة التفاعل النصي وتطويعها خدمة للنص الفني، وإخراجه للقارئ على درجة من التناغم والانسجام سواء من حيث ثيماته الجريئة المحطمة للطابو أو الخروج عن طرائق الكتابة التقليدية.
* باحث من القنيطرة