توجت القوات العراقية حربها التي خاضتها على مدى ثلاث سنوات ضد تنظيم الدولة الإسلامية بالانتصار على نفسها في “حرب أدمغة” ضد مقاتلين كانوا قبل الغزو الأميركي للعراق منذ 15 عاما، رفاق سلاح.
يقول اللواء الركن السابق عبد الكريم خلف الذي خدم في القوات العراقية قبل سقوط نظام صدام حسين وبعده “هم يعرفوننا”.
ويضيف الخبير في الشؤون العسكرية لوكالة فرانس برس إن الضباط الذين التحقوا بالتنظيمات المتطرفة “كانوا برتب صغيرة (…) لكن كانت لديهم الخبرة”.
ويوضح أن الجهاديين “وخلال قتالهم ضد القوات الأمنية في ما بعد، كانوا يمتلكون أساليب أتقنوها في الجيش” كعمليات حفر الأنفاق وبناء الدفاعات وإعاقة تقدم الآليات والقوات في الميداني “التي عادة ما يكون ضباط برتب متدنية مسؤولون عنها”.
وكان هذا ما يعيق الحسم السريع في كل المعارك التي خاضتها القوات العراقية في معاقل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق.
ويؤكد الخبير في الجماعات المسلحة هشام الهاشمي من جهة أخرى إن فهم القوات العراقية لعقلية العدو كان عاملا حاسما في المعركة.
ويشير إلى أن “معظم هيئة الأركان العسكرية هم من ضباط القوات الخاصة السابقة، وهؤلاء هم الذين حسموا المعركة، فهموا أن خصومهم داعش في الميدان كان يجعل من القوات الخاصة الذين التحقوا به قادة ميدانيون”.
مع دخول الولايات المتحدة إلى العراق وإسقاط نظام صدام حسين، أقدم الحاكم المدني الأميركي حينها بول بريمر على حل القوات الأمنية العراقية التي اعتبرها آنذاك أداة بيد النظام.
ويعتبر خلف أن “الولايات المتحدة هي من ساهم في إضعاف وتفكيك الجيش العراقي”، مشيرا الى أن نقطة التفوق للعراقيين في المعارك الأخيرة هي أن العدو لم يكن متكاملا.
كان القرار الأميركي أحد الأسباب الرئيسية في خسارة ضباط لمناصبهم العسكرية. ومع أن أبناء المؤسسة العسكرية في ذلك الوقت كانوا بعثيين اشتراكيين، وجدوا في الدين والتنظيمات الجهادية غطاء للثأر من الأميركيين، بدءا من تنظيم القاعدة وصولا إلى تنظيم الدولة الإسلامية.
يؤكد الباحث في معهد الشرق الأوسط بجامعة سنغافورة فنر حداد أن الخبرة العسكرية في عهد صدام كانت حاسمة في الموضوع الأمني بعد 2003 و”أساسية في نشوء التمرد”. ويلفت إلى أن “العديد من قيادات الصف الأول والمسؤولين في تنظيم الدولة الإسلامية هم من الاستخبارات أو العسكريين في أيام صدام”.
ورغم حديث خلف عن رتب غير عالية، إلا أن أحد هؤلاء كان العقيد السابق في مخابرات سلاح الجو العراقي في عهد النظام السابق، سمير عبد محمد الخليفاوي المعروف باسم “حجي بكر” وهو عضو سابق في المجلس العسكري لتنظيم الدولة الاسلامية وقتل بيد الجيش السوري الحر في تل رفعت بشمال سوريا العام 2014، بحسب ما ذكرت مجلة دير شبيغل الألمانية وقتذاك.
الخليفاوي، وفق المجلة وخبراء في الشؤون الجهادية، التقى أبو مصعب الزرقاوي وهو قائد سابق في تنظيم القاعدة وقتل في 2006، ثم تقاطعت طريقه مع طريق الإسلاميين. وفي العام 2010 خطط “الإستراتيجي المهم” كما وصفته دير شبيغل مع مجموعة من الضباط العراقيين السابقين لتعيين أبو بكر البغدادي على رأس تنظيم الدولة الاسلامية من اجل اعطاء بعد ديني للتنظيم.
وتؤكد مصادر عدة أن الخليفاوي كان واضعا لخطط تمدد التنظيم الذي سيطر في العام 2014 على مناطق واسعة من سوريا والعراق.
يشير الهاشمي إلى أن الخليفاوي لم يكن الاستثناء، بل التحق بالجهاديين أيضا عشرات من الضباط العراقيين السابقين، أبرزهم أبو مسلم التركماني واسمه فاضل أحمد الحيالي والذي كان نائب البغدادي وقتل في غارة جوية قرب الموصل في شمال العراق في أغسطس العام 2015.
وقالت الرئاسة الأميركية حينها أن الحيالي ويلقب أيضا بأبي معتز، كان أحد المنسقين الرئيسيين لعمليات نقل الأسلحة والمتفجرات والآليات والأفراد بين العراق وسوريا.
خلال الحرب الشرسة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وقف الضباط القدماء الجدد وجها لوجه ضد رفاق السلاح سابقا، فكانت “حرب أدمغة” بين القيادات العسكرية، وفق الهاشمي. ويضيف أن قليلين من هؤلاء كانت لديهم “الخبرة الجهادية”.
من قائد قيادة العمليات المشتركة الفريق الركن عبد الأمير يارالله الى رئيس جهاز مكافحة الإرهاب طالب شغاتي، وقائد قوات مكافحة الإرهاب الفريق عبد الغني الأسدي، كان هؤلاء فرسان الحرب الأخيرة وهم “خريجو المدرسة العسكرية الصدامية”.
يؤكد خلف أن “القوات العراقية تفهم طبيعة المعارك وجغرافية الأرض، فهمنا كيف يقاتل الخصم، وذلك عائد إلى عقلية الجيش الأساسية”.
وفي هذا الإطار، يوضح حداد لفرانس برس أن القوات العراقية استفادت أيضا من الخبرة في بلد شهد موجات عنف دامية أنتجها الفراغ الأمني بعيد غزو العام 2003.
يقول حداد إن 15 عاما مرت على سقوط نظام صدام حسين “وهذه السنوات، للأسف، كانت تدريبا مكثفا متواصلا للعراقيين على التمرد ومكافحته”.
لذا يختصر الهاشمي الصورة كاملة بالقول إن “من انتصر على داعش هم عسكر صدام، ومن احتل العراق خلال ثلاث سنوات في داعش هم عسكر صدام”.
البعض ما زال يحن للماضي
يقول مصطفى الناجي، وهو من سكان بغداد، الذي كان في الثلاثين من عمره تقريبا عندما استولت القوات الأمريكية على العاصمة العراقية قبل 15 عاما، إن المجتمع كله يشتكي.
فقد غزت أمريكا العراق في 2003، وفي التاسع من أبريل نيسان 2003 تصايح حشد من العراقيين ابتهاجا وهم يحتفلون بإسقاط الجنود الأمريكيين لتمثال الرئيس صدام حسين في ساحة الفردوس في إشارة لاستيلائهم على المدينة.
وباستعادة الناجي ذكريات 15 عاما مضت يرى أن الحرب لم تكن في صالح الدولة أو الشعب العراقي.
وقال الناجي، وهو من سكان حي الكاظمية في بغداد، “أستطيع أن أقول بعد م ضي 15 عام على سقوط النظام وعلى الاحتلال أنه لم يكن بصالح الدولة، ولم يكن بصالح المجتمع. كثير من الأمور لم تكن متوقعة إطلاقا. احتراب طائفي، السلاح بيد الجميع، حرب طائفية بعد الـ 2006، فقدنا كثير من أحبائنا، من اخوتنا، من أصدقائنا”.
وكان من تداعيات الغزو حرب طائفية غيرت وجه بغداد والمجتمع الذي اعتاد على التعددية على نحو لا يمكن إصلاحه.
وشاعت عمليات الخطف والقتل والتهجير القسري للمدنيين من جانب مقاتلين من الس نة وفصائل شيعية. وتعرضت أقليات دينية لتهديدات كانت كافية لرحيل أفرادها جماعيا إما إلى الشمال أو إلى خارج البلاد.
وخفت حدة العنف بعد أن وصلت أعمال القتل الجماعي ذروتها في 2006-2007 لكن الهجمات استمرت حتى مغادرة آخر قوات أمريكية للعراق في ديسمبر كانون الأول 2011.
وقبيل بضعة أشهر من مغادرة آخر القوات الأمريكية للعراق قال مكتب الميزانية بالكونجرس الأمريكي إن تكلفة عمليات العراق بلغت نحو 752 مليار دولار منذ 2003.
ويرى العراقي محي الدين الجبوري، وهو من أهل الموصل، أن الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في 2003 جلب بعض الأمل. وقال “كنا نتأمل أنه يكون العراق بخير بعد أكثر ، فأصبحت هسا (الآن) مأساة الشعب العراقي”.
وأضاف الجبوري “حسينا أن الحالة ستتحسن إلى أحسن، لأنه أعلنوا الديمقراطية والخير راح ييجي للعراق فأصبحت أسوأ وأسوأ وأسوأ، ما كنا نتأمل ها الشكل، وبعدها جتنا ها الأسوأ لتدمير مدينة، مدينة بأكملها، ثاني مدينة بالعراق، ثاني مدينة بالعراق هي الموصل”.
وقال ناشط مدني كردي يدعى رحمن غريب “هناك نظام سياسي تستطيع مقارنته مع نظام الإعدامات، نظام الأسلحة الكيماوية، نظام السجون الرهيبة حقيقة. لا أريد أن أقارن هذا النظام السياسي الذي ننتقده جميعا مع نظام صدام حسين. نظام صدام حسين هو حقيقة لا تستطيع مقارنته مع أعتى ديكتاتورية في العالم”.
وكانت الموصل من بين أكثر المناطق تضررا على أيدي مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الذي استولى على المدينة في 2014.
وتعود مساجد وكنائس وأسواق الموصل تاريخيا إلى حقبة العصور الوسطى وربما ما قبلها. وفجر المتشددون العديد من معالمها التاريخية بما في ذلك جامع النوري الكبير الشهير بمنارته الحدباء، والذي أعلن منه أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم المتشدد “الخلافة”.
وأعقب ذلك فترة من الرعب أدت في نهاية المطاف إلى تهميش العديد من المسلمين الس نة الذين دعموا التنظيم المتشدد كحلفاء ضد الأغلبية الشيعية في العراق. ويهيمن الشيعة سياسيا في العراق منذ عام 2003.
وفي يوليو استعادت القوات العراقية الموصل من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية بعد حملة عسكرية مرهقة استمرت تسعة أشهر بدعم من تحالف تقوده الولايات المتحدة د مرت خلالها معظم المدينة التي تقع في شمال العراق.
وقالت الحكومة العراقية إنها ستحتاج إلى ما يصل 100 مليار دولار لإعادة بناء المدن التي دمرتها الحرب. ودعت مستثمرين أجانب في يناير كانون الثاني للمساعدة في عملية إعادة الاعمار بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية.
وأعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي النصر النهائي على تنظيم الدولة الإسلامية في ديسمبر كانون الأول بعد أن طردت القوات العراقية آخر بقاياه من البلاد.
لكن، في بغداد، لا يشعر الناجي بكثير من التفاؤل. وعندما يتعلق الأمر بالوضع الأمني في البلاد يقول إنه يشعر بهدوء مشوب بالحذر.
غير أن المدينة أصبحت الآن صورة باهتة لما كانت عليه في يوم من الأيام. فالحواجز الأمنية تعرقل الحركة في شوارع كانت من قبل مفتوحة وأصبحت كتل الخرسانة المسلحة تغطي فنون العمارة الشهيرة التي مزجت بين بيوت الطابوق (الطوب) التقليدية والمباني العصرية من تصميمات لو كوربوزييه ورفعت شادرجي.
وأصبح انقطاع التيار الكهربائي أمرا شائعا وانتشرت مولدات الكهرباء التي تنفث أدخنتها السوداء لتزيد تلوث الهواء الذي يمثل مشكلة من أسوأ هذه المشاكل في المنطقة.
ولا تزال مياه الصرف الصحي غير المعالجة تتدفق في نهر دجلة وأصبحت الأماكن المتاحة على ضفتي النهر والمساحات المفتوحة للعب الأطفال قليلة.
وأوجز الناجي وضع العراقيين حاليا فقال “لن تجد فئة من المجتمع لا تشتكي. بعد 2003 ونحن في عام 2018 العمال يشتكون، الطلاب يشتكون، العاطلون يشتكون، العسكريون يشتكون، الكل يشتكي من الوضع البائس. لا خدمات، الأمن أنا أستطيع بأن أصفه بأنه هدوء مشوب بالحذر، يعني هذا الوضع العام يعني. وضع تشاؤمي نعم. وهذا الواقع اللي عايشينه إحنا”.
محطات لا تنسى
في ما يأتي ابرز المحطات والتحولات التي شهدها العراق منذ الهجوم الاميركي في 20 مارس 2003:
وغزا تحالف بقيادة واشنطن العراق في 20 مارس 2003 بحجة تدمير أسلحة دمار شامل لم يتم العثور عليها بتاتا.
ولا يزال مشهد إقدام آلية أميركية بمساندة حوالى مئة عراقي على إسقاط تمثال صدام حسين في الاذهان. كانت صورة رمزية لسقوط العاصمة العراقية والنظام، رغم استمرار المعارك في أمكنة أخرى.
واعطى الدستور العراقي الجديد الصادر في 2005 وضعا قانونيا للحكم الذاتي الذي يتمتع به إقليم كردستان العراق منذ 1991.
في الاول من يناير 2009، تسلمت السلطات العراقية السيطرة على “المنطقة الخضراء” الفائقة التحصين في بغداد ورمز الاحتلال الاميركي.
وغادر آخر الجنود البريطانيين العراق في 22 مايو 2011، وآخر الجنود الاميركيين في 18 ديسمبر من العام ذاته.
بين 2003 و2011، قتل أكثر من مئة الف مدني، بحسب منظمة “ايراك بادي كاونت”. وقتل نحو 4500 اميركي و179 بريطانيا.
وأعلن انشاء تنظيم الدولة الاسلامية في العراق وبلاد الشام بقيادة ابو بكر البغدادي في 8ابريل 2013. وفي بداية 2014، احتل التنظيم الفلوجة الواقعة على بعد أقل من مئة كلم من بغداد.
وكلف حيدر العبادي تشكيل حكومة جديدة بعد حكومة المالكي الذي اتهم بالانحياز الطائفي.
وبات تنظيم الدولة الاسلامية يسيطر على أكثر من ثلث أراضي العراق.
في 2015، استعادت القوات العراقية مدينة تكريت، بدعم من التحالف ووحدات عسكرية تم تشكيلها بعد نداء من المرجعية الشيعية الدينية في البلاد.
وتمت استعادة الفلوجة والرمادي في 2016.
في منتصف اكتوبر، أرسلت بغداد قواتها لاستعادة المناطق الواقعة خارج كردستان والتي كان سيطر عليها الاكراد منذ 2003 وبينها كركوك الغنية.