هذه ستة نماذج قصصية تعكس راهن القصة القصيرة المغربية ، مُستلّة من وقتها وهموم لحظتها، وهي لستّة قاصّين من كل فجّ مغربي (من زاكورة إلى وجدة) يذرعون بنا جغرافية القصّ وجغرافية الوقت ، وهي على التوالي:
*»ثلاثة نصوص قصيرة جدا» لعبد الحميد الغرباوي
* «شغف» لسعيد كفايتي
* «دُمى الحرب « للْحسن آيت ياسين
* «الورد جميل» لعلي أزحاف
*» الرحيل « لليلى عبدلاوي
*» الخارج والداخل» لعادل التّكفاوي
ويتّضح من هذه الجرْدة ، أننا أمام جيلين قصصيين متقاطبين ، جيل الريادة والتجنيس القصصي ، ويمثّله عبد الحميد الغرباوي، المبدع المخضْرم العابر للأجيال .
وجيل القاصّين الجُدد الذين هلّ هلالهم مع طلائع الألفية الثالثة وينزعون عن قوس الحساسية القصصية الجديدة ، وفق الصفة الرائجة التي اقترحها ذات يوم القاص والروائي المصري إدوار الخرّاط .
ومعلوم أن الحساسيات الأدبية ، رمال متحركة على الدوام ومياه جارية تحت الجسر ، ولا يدوم على حال لها شان .
هذه الباقة القصصية تبدو كموزاييك قصصي ، تشترك في مصطلح (قصّة) وتختلف في طرائق القصّ ، وبنياته ، وتيماته ولغاته . يوحّد بينها القص وتختلف بينها سُبُل القص .
وتتراوح حجما وشكلا بين حدود القصة القصيرة ، والقصة القصيرة جدا ، والأقصوصة ، وهي في منزلة بين المنزلتين، القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا .
هذه المُراوحة الشكلية ، هي المظهر الأول لهذه الموزاييكية القصصية .
وسأقارب هذه هذه النصوص على التوالي ، وفي خطوط عريضة هي أقربُ إلى رؤوس أفكار وملاحظات . والإشارة أحيانا تغني عن العبارة ، سيما وأن ( القِصر) هي الصفة المهيمنة على هذه النصوص/ قصة قصيرة ، قصة قصيرةجدا، أقصوصة (وهي صيغة تصغير) .
سأقارب هذه النصوص من خلال مفاصل أساسية ومتفاعلة في ما بينها وهي :
البنية القصصية والدلالة القصصية واللغة القصصية.
وكل نص كما يقول جيرار جنيت ، أفق مفتوح للقراءة يتجدّد ويتعدّد بتجدد وتعدّد القراءات والقرّاء . وكل قراءة تبعا ، كما يقول جاك ديريدا ، إساءة قراءة .
وأرجو أن تكون قراءتي أقل إساءة .
والبراءة غير واردة في النص الإبداعي ، كما هي غير واردة في قراءته وتلقّيه .
وسأستعين في قراءتي ببعض آليات التأويل ، لتجْلية الدلالة الكامنة وراء ظواهر وسُطوح هذه النصوص . خالصا بذلك إلى المعنى الخفيّ وراء المعنى الجليّ .
«ثلاثة نصوص قصيرة جدا»
عبد الحميد الغرباوي
وخير ما نفتتح به ، وليّ القصة المغربية الصالح والمُشاغب عبد الحميد الغرباوي .
وقد اختار عبد الحميد قالب القصة القصيرة جدا لقصّه وحكيه ، وهو الناسك في محراب القص وفنونه وشجونه منذ الزمن الأول . وهذا اعتراف إبداعي جميل من قاص مخضْرم جميل ، ، بحضور وشرعية
هذاالجنس الأدبي الجديد – الوليد . علما بأن القاص اختار كلمة نصوص بدل قصص ، ليمارس شغبه القصصي على السجيّة .
في ثلاثة نصوص قصيرة جدا ، يقطّر لنا عبد الحميد ثلاث تيمات قصصية منتزعة من أحوال الوقت .
في النص الأول ، تهيمن تيمة المجازر الوحشية التي تسود العالم ، والتي جعلت السارد يتساءل دهِشا ( ألا يكون مصدر كل هذه البشاعات كائنات شرسة ، خارقة الذكاء ، قدمت من كوكب آخر ،،؟)
وفي النص الثاني ، تحضر العصافير بدل الناس الشرسين الأشقياء ،لتقدم
مثالا للتسامح والحنان والرّفق ، وكأن هذه الطهرانية – الحيوانية المجسّدة في العصافير ، جواب مُضاد للوحشية الآدمية التي تطحن الحياة والأحياء ، لا تُبقي ولا تذر لوّاحةً للبشر .
وفي النص الثالث ، تحضر تيمة الطفولة البريئة ، من خلال الطفل الذي يقلد المؤذن فتهوي به المخدّات على ذقنه ويسيل دمه . وكأنه جزاء وِفاق لمن يتجرّأ على حرمة الدين وينتهك التابوهات .
هي أسئلة كبيرة اذن ، في قصص قصيرة جدا .
.لكن نلاحظ أن ثمّة جملة طويلة – عنقودية تخرق أهم شروط القصة القصيرة جدا ، وهو التكثيف والإيجاز . تقول الجملة /
(ألايكون مصدر كل هذه البشاعات ، كائنات شرسة، خارقة الذكاء ، قدمت من كوكب آخر، تسلّلت خفية إلى كوكبنا تقمّصت شكلنا ، وتغلغلت في أجهزتنا السياسية، صارت تتحكّم في مراكز قرارات جدّ حساسة ومصيرية ..)
وكأن العرباوي مشاغب دوما على قواعد اللعب القصصي . .ومنتهك للمقاييس الهندسية .
إن أهم سمة في نصوص الغرباوي أنه يجمع بين جمالية القصّ وجمالية الشعر . يقص شاعرا ويشعر قاصا .
وهو صنيع قريب من مُجايله أحمد بوزفور .
ومن ثمّ تبدو جمله السردية مغموسة في ماء الشعر ، ويوزّعها توزيعا شعريا عبر بياض الصفحة.
ثاني سمة في نصوصه ، هذا الجمع والتوليف بين الهموم الكبرى والصغرى . هذا الإنصات الإبداعي الدائم لمواجع العالم .
فلأنه مبدع سبعيني وفارس قديم، ظل مسكونا بالأسئلة الساخنة ، لا يغادر متردّمها.
عبد الحميد الغرباوي ، قاص ومبدع كبير، عن تلك الليالي الجميلة والجليلة يحكي دائما، ويسدّد رمية الحكي .
شغف / لسعيد كفايتي
وتبدو قصة (شغف) لسعيد كفايتي أطول نصوص هذه الباقة القصصية ، وتتحرك على النقيض من القصة القصيرة جدا . علما بأن حدث هذه القصة ، وهوالفراق من بعد وفاق ، قابل لأن يُختزل ويقطّرفي قالب
القصة القصيرة جدا . وهذا افتراض من عندي كقارئ يندسّ مع الكاتب في كيمياء النص . لكن القاص سعيد شاء عن سبق نية وإصرار فيما يبدو، أن يلتزم الحجم التقليدي للقصة القصيرة ، وذلك عبر خمس صفحات . وكانت لغته السردية ، ذات إيقاع تقليدي أيضا .
لغة بصرية مباشرة تُراوح بين الوصف والسر د ، كما تراوح رؤية ، بين الرؤية من خلف والرؤية مع ، حسب صُنافة جان بويون . أي بين السرد الخارجي والمنولوج الداخلي .
الشخصية الرئيسة في القصة هي (هاء) التي قررت في لحظة حسم مفاجئة أن تنسحب من حياة (فاء) وتغادره لا تلوي على شئ .. حسب العبارة الأخيرة في القصة .
لماذا ؟ وكيف؟ ذاك بياض مسكوت عنه في القصة .
بل إن (هاء) ذاتها كما نقرأ في آخر القصة (تريد أن تبحث عن تفسير معقول لكل ما حدث أو ما سيحدث ، لا يسعفها ذهنها في جمع الخيوط ، ولا في تثبيت أركان القصة ) .
وربما كانت هذه العبارة ناطقة بلسان حال القصة وكاشفة عن أمرها .
فعلى الرغم من أن القاص ينحو منحى تقليديا في قصته ، إلا أنه لم يجمع الخيوط ولم يثبّت أركان القصة المألوفة والمعروفة في القصص التقليدية، وهي البداية / العقدة/ التنوير .
ولعل هذا الغائب المسكوت عنه في القصة ، هو مكمن قصصيتها ومكمن دلالتها .
لعل دلالتها كامنة في أن الّلاتواصل هو الذي يحكم التواصل في حياتنا الراهنة . وأن الّلاكتمال هو الذي يحكم نصوصنا الإبداعية .
«دُمى الحرب» للحسن
آيت ياسين
يندرج نص (دمى الحرب) لآيت ياسين في خانة الأقصوصة، ضمن الترتيب –الهيرارشي للقصة . وهي كما ألمحت في فاتحة هذه القراءة في منزلة وسطى بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا ، حيث لا يتجاوزالنص كمّا وحجما تسعة عشر سطرا . لكن هذه الاسطرالمعدودة تبدوملغومة بالدلالات والإيحاءات . ملغومة بويلات الحرب . وتلك بالضبط ، هي بلاغة الإيجاز القصصي .
والقاص آيت ياسين يوقّع على نفس الوتر الساخن – التراجيدي الذي وقّع عليه الغرباوي في نصه الأول (خيال علمي) ، المجازر الوحشية للبشر.
وأقصوصته لذلك ’ حربية بامتياز .
والحرب تيمة بِكر في القصة المغربية .
ومن ثمّ يثورعندي سؤال ، تُرى كيف انبثقت تيمة الحرب في رأس لحسن آيت ياسين ؟
سأجعل التأويل كما أسلفت ، إحدى آليات هذه القراءة القصصية ، ما دامت متراوحة بين أحوال القصة وأحوال الوقت .
وتجدر الإشارة إلى أن القاص آيت ياسين ابن زاكورة . وزاكورة على مقربة من المناطق الصحراوية التي كانت مسرحا لحرب رمال أخرى بين المغرب وجبهة البوليساريو خلال السبعينيات من القرن الفارط .
فهي اذن وشم في الذاكرة ، أحيته وأذكته هذه الحروب العربية الطاحنة. حروب داحس والغبراء في حلّتها الجديدة المزيدة .
هكذا نقرأ أحوال القصة في أحوال الوقت .
لكن القاص لحسن يكتب الحرب في أقصوصة (دمى الحرب) بلا جلبة اوضوضاء . يكتبها من خلال رمزية قصصية وارفة الدلالة . رمزية الدمية المقطّعة الأوصال ، التي تلوح عبر وحشية وفظاظة الحرب، ووحشية وفظاظة الجنرال .
يكتب الحرب بلمسات شعرية بالغة الرهافة والشفافية والدلالة .
إنها أقصوصة حرب شاعرية ، ذكّرتني بأقصوصة حرب شاعرية لإرنست همينجواي بعنوان (تحت بالجسر) ، عن الحرب الأهلية الإسبانية .
وكم من حروب تمرّ تحت الجسر، والإبداع شاهد لا يريم .
«الورد جميل» لعلي أزحاف
في سياق كوميدي – ساخر وماكر ، يكتب علي أزحاف نصه (الورد جميل) .
عنوان جميل لنصّ مفخّخ ، يشبه الذمّ بما يشبه المدح أو المدح بما يشبه الذمّ ، كما يقول البلاغيون .
والمفارقة القصصية في نص (الورد جميل)، هي الثنائية الضدّية بين الحمار والورد الجميل الذي يلتهمه بأناة وشهية ، غير آبه بما حوله .
وكأني بالقاص / الشاعرعلي أزحاف يسْتحمر العالم ، أو يضحك على العالم ومخلوقاته العجيبة ، من خلال هذه القصة الساخرة – الماكرة .
والسخرية والمكر ، من أروع أسرار القصة القصيرة ، وأنطون تشيكوف شاهد على ذلك .
في قصة (الورد جميل) يبدو الحمار بامتياز ، هو الشخصية الرئيسة protagoniste
وإن كان السارد في كثير من الحالات وحسب وجهة نظر جيرالد برنس ، هو البطل الحقيقي أكثر من أيّ شخصياته .
وحمار علي أزحاف شرِه جرئ خلافا لحمار بوريدان الكسول المتردّد .
والسؤال الذي يبادهنا ونحن نقرأ هذه القصة عودا على قراءتنا التأويلية /
ما هي الرسالة تُرى ، التي يريد القاص أن يمرّرها عبر هذه القصة؟
هل هي سخرية من الورد الجميل ، ذي الرمزية الرومانسية في الذاكرة، أم سخرية من الحمار ذي الرمزية الواقعية – الغبائية في الذاكرة ، أم من كليهما معا ؟
أم هي سخرية مُرّة من واقعنا المرّ ؟
أستحضر هنا قولة مأثورة لفيلسوف الساخرين برنارد شو يقول فيها عن الديمقراطية التي يلوكها العالم ( إن الديمقراطية لا تصلح لمجتمع جاهل ، لأن أغلبية من الحمير ستحدّد مصيرك ) .
يذكّرنا النص بسلالة عريقة من الحُمُر الإبداعية – الحكيمة ، كان الحمار
فيها ضيف شرف بامتياز. /
الحمار الذهبي / للوكيوس أبوليوس الأمازيغي
حمار بوريدان
حمارخوان رامون خيمينيث / بلاتيرو وأنا
حمار الحكيم / لتوفيق الحكيم
حمار حسن أوريد / سيرة حمار
وأخيرا وليس آخرا ، حمار عبد الكريم برشيد ، حمار الليل .
كل هؤلاء امتطوا ظهر الحمار الصبور الحكيم ، لتمرير رسائلهم المشفّرة
الملغومة . والحمار غيرآبه ، لأنه منشغل بالتهام الورد الجميل في ضيافة
علي أزحاف .
هذه السخرية الإبداعية المشاغبة من بعد ، سمة أساسية لعلي أزحاف سواء أكتب قصة أم قصيدة أم تغريدة فليسبوكية .
«الرحيل « لليلى عبدلاوي
حضور كاتبة في هذه الباقة القصصية ، مؤشّر رمزي على الحضور النسوي في الكتابة القصصية وفي الكتابة عامة .
وقصة (الرحيل) لليلى عبدلاوي ، مثال على ذلك .
تُقارب القصة ، بلغة مشهدية تتراوح بين السرد والمنولوج ، تيمة
قصصية أخرى بكرا في غاية الشفافية والحساسية ، وهي رصد الوجه الإنساني الآخر للشخصية اليهودية ، انطلاقا من العلاقة الاجتماعية بين
المغاربة واليهود المغاربة ، علاقة التساكن والجوار .
وتقتنص الكاتبة لحظة قصصية مفصلية لكشف العمق الإنساني العفوي
لهذه العلاقة . وهي لحظة الوداع بين مُنى وصديقتها اليهودية أستر، الراحلة رفقة عائلتها إلى باريس . وبين الصديقتين وعائلتيهما علاقة
حميمة في ذلك الحي الشعبي بوجدة ، حسب سياق القصة .
هي قصة جميلة، مفعمة بالأحاسيس والتفاصيل القصصية الدالة والجمل
الفلاشية – الاسترجاعية ، التي تعمّق لحظة الرحيل .
وهنا يُثار من خلف سطور القصة شجن تاريخي دفين . ذلك أن هجرات
اليهود المغاربة إلى فرنسا ، كانت معبرا لهجرات أخرى إلى اسرائيل .
كما يُثار تبعا سؤال / ما هي الرسالة الثاوية في أطواء القصة ؟
لا أريد أن أقوم بقراءة تأويلية تعسفية للقصة وأحمّلها أكثر مما تحتمل .
لكني على علم بان النص الإبداعي ليس بريئا ، كما أن فعل القراءة أيضا
ليس بريئا .
وليبق السرّ كتيما بين الصديقتين الوجْديتين ، مُنى وأستر.
«الخارج والداخل» لعادل التكفاوي
هذه قصة تجريبية وعجائبية بامتياز، شكلا ومضمونا ، لغة وبناء .
يتكوّن برنامجها السردي ، من مقاطع سردية ثلاثة مُعنْونة ، متصلة ومنفصلة في آن . وهي /
1 / حياة الأكسجين القصيرة
2 / الحياة المجهولة لثنائي أكسيد الكربون
3 / حوار الداخل والخارج
ولعل هذه العناوين كافية في حدّ ذاتها للدلالة على المناخ السوريالي – العجائبي الذي يكتنف النص .
والمقاطع الثلاثة أشبه ما تكون بقصص قصيرة جدا ، يلحمها خيط سريري ناظم . لكن خيوط الحبكة وخيوط المعنى ، تظل باستمرارمنفلتة
وهاربة . وكأن النص يتحرك في متاهة كافكاوية .
وفي انفلاته بلا شك ، دلالته ومغزاه .
إن مناخ هذا النص الكافكاوي أشبه ما يكون بمناخ الكوابيس وأضغاث الأحلام .
ولعل لجوء القاص عادل التكفاوي، ومعه كثير من القاصّين، إلى مثل هذه المناخات الكابوسية – السوريالية، ضرب من التفاعل والتماهي مع كابوسية وسوريالية العالم.
وقديما قيل ، الواقع أغرب من الخيا .
وبعد /
لقد أشرتُ في بداية هذه القراءة/ الورقة ، إلى أن أحوال القصة ليست
بعيدة عن أحوال الوقت .
هذا إن لم أقل إن القصة في نهاية المطاف ، هي قصة وقتها .
ومع كل الاختلاف في طرائق الحكي ، ولغات الحكي ، وتيمات الحكي في هذه النصوص ، لا نعدم بينها قاسما أوقواسم مشتركة ، خاضعة للباراديغم القصصي المتحوّل .
خاضعة لإيقاع وأحوال الوقت