يلملم الناقد أدواته، يتحسسها، ثم يباشر النص. يخال نفسه، جنديا روسيا مسلحا بأعتى الأسلحة من الجيل الخامس والقنابل لتفجير النص، فيستعصي عليه أخيرا، يحس بنوع من الإخصاء لأنه لم يستطع إيلاج منهجه في النص، فيحاول، المرة تلو الأخرى. النص ليس أنثى مغرية بالضرورة، والمنهج في المقابل، ليس ذكرا منتصبا دائما، وحتى والحالة هاته، فالانتصاب لا يعني الإيلاج ودخول النص عبر عتباته. عتبة العنوان أساسية، لكنها هنا «الحي الخطير»، لا تشي بشيء يُسهِّل عملية ولوج النص، بل يُصَعِّبُها أكثر. فالحي، يصير أحياءً متفرقة على هامش المدينة، والخطير ليس بالضرورة كذلك؛ إنه حي خطير بالنسبة لأولئك الذين يعيشون داخل نسقه من الحثالة. أما الهامشيون، فهم هامشيون دائما، حتى إن العصابات الإجرامية الخطيرة في الحي الخطير، تترفع عنهم، ولا تعيرهم اهتماما، لهذا فهم موغلون في التهميش؛ تهميش الدولة، تهميش الحي لأنه على هامش المدينة الليلية الصاخبة وتهميش العصابات، إذ لا يعترضون سبيلهم. إن عدم اعتراض سبيل المسالمين هو تهميش وإقصاء لهم من قبل العصابات. الحثالة، يتصارعون في ما بينهم، بينما الهامشيون، فهم على الهامش دوما. هذه هي القاعدة الأولى التي تحفظها وأنت بصدد قراءة واقع الحثالة في «الحي الخطير». ولأنه حي خطير، فالتمثلات ينبغي أن تكون خطيرة كذلك. فهذا الإرهابي، الذي يحصل على المتفجرات، فيستعد لتفجير الذات الأمَّارة بين حشود البشر، وإذا به يُقتل لوحده، إذ تتفوق إرادة الحياة والبشر معا، ولا يُلحق بهم الأذى. وللناقد والنص وعملية النقد عموما، شبه بهذا التعريف. فالناقد، وبالرغم من عدته المنهجية، فقد لا يتوفق دائما في اقتحام عنفوان النص حيث الدلالات الكثيفة، ما يعني نظريا، أن المنهج، قد يغدو والحالة هاته قاصرا في استيعاب النص في تجلياته المختلفة.
ما العمل؟. رحابة العنوان، الذي يتصدر الاستهلال يحيل على عنوان كتاب، من تلك التي ألهمت الثوريين والاشتراكيين العلميين والمنادين بالتغيير على أساس من هيمنة ديكتاتورية البروليتاريا، لكن أفق التوقع يخيب بعد ذلك، عندما تقر الشخصية الرئيسيّة (مراد الذي يتولى عملية السرد)، أن هذا العنوان مجرد إمضاء، غامض وسري، توقع به شخصية الخال رسائلها. لقد أخطأ ياوس وإيزر هذه المرة، في تلمس مقصدية الرواية من خط الاستهلال البدئي. إن الشخصية الرئيسيّة، وهي داخل الزنزانة المنفردة، تحاول أن تتذكر الرسائل التي كان يوقعها الخال الماركسي اللينيني بعبارة «ما العمل»، وهو يتراسل مع حبيبته ومع رفاقه في التنظيم السياسي السري. هذا الاستهلال الذي يحيل على الاعتقال وسياق السجن، وبشكل استباقي، حيث تنبني عملية السرد على نوع من التذكر للأحداث الماضوية، بنوع من الهروب المعنوي من السجن ولو على المستوى الذهني، مادام أن مراد قد فشل في الهروب بعد محاولات عدة.
تعتبر الحي الخطير، رواية انقلابية على الأنماط السردية وعلى الأفكار الجاهزة، فإذا كان الكاتب قد اختار لنفسه، نمطا سرديا تجريبيا جديدا، فالأفكار التي تتبناها الشخصيات الأساسية، خاصة شخصية مراد، هي أفكار انقلابية، جريئة، جذرية وغير نمطية. يتحدث مراد عن كون السجن قد منح له الحرية في الخلوة بنفسه، وهو داخل الزنزانة المنفردة، وكذا التخطيط باتزان وتعقل لعملية الهروب، الشيء الذي لم يكن متاحا له وهو يتمتع بالحرية خارج أسوار السجن، كما يتحدث عن الألم الذي يتلاشى عندما يُلحِق الأذى بالآخرين، والتدخين إكرامًا للنفس على تعنيف أحد الوشاة داخل العنبر، وكذا الإحساس بالأمان داخل السجن لأنه بمنآى عن العصابات والمجموعات التي تلاحقه وتتربص به. هاته الأفكار وغيرها، هي أفكار انقلابية تتخطى حدود المعقول المتفق عليه ضمنيا داخل المجموعات البشرية، لكنه منطق جديد بين أفراد من الحثالة داخل مجموعات مسلحة بالسكاكين والسواطير، حيث يصير القتل عنوانا للرجولة والكبرياء. من هذا المنطلق، يمكن القول بأن الكاتب قد تمرد على القوالب الجاهزة وتجاوزها، لكنه تجاوز لم يتأتَّ إلا عن طريق «التراكم والاستيعاب». طاقة غير مستنفدة في مجال السرد الرصين، والتي تتجاوز السطحية والإسفاف. ليبقى الابتذال الأدبي جريمة، كان بالإمكان أن تُتضمن عقوبتها في التشريعات الإلهية.
مَنْ يقتل من؟. إذا كان الموت، خاصة ذلك الذي يصاحبه عنف وقتل مبرر وغير مبرر في أحيان كثيرة، يعتبر ثيمة أساسية في الرواية، فإن الحياة كذلك تتجدد وباستمرار داخل الحي الخطير؛ فالاغتصاب وعالم القوادة والقحاب والهاربات يفرخ من جديد أطفالا بشكل مسترسل، وإن كان ذلك خارج العرف والقانون والدولة. وأي عرف وقانون ودولة تجيز حياة الحثالة هاته، كي يعترف الناس بالشرعية؟. القتل، هنا هو قتل بدافع السرقة أو الانتقام، لكنه قتل فردي وعشوائي بالدرجة الأولى، ولم يأخذ طابعا متسلسلا وساديا إلا في حالة العربي الفرناطشي، الذي كان محترفا في تصيد ضحاياه؛ يتعقب، يقتل بطريقة صامتة وهادئة، يستمتع بها ما تيسر من الوقت قبل أن يتخلص منها داخل لهيب نار فران الحومة. فمن يقتل من إذن؟. في مفهوم التبئير، نجد أن الخبر الواحد وقد تم تداوله عبر عدة أصوات سردية في النص، إذ إن اختفاء الناس وموتهم، مرده، الخرف والمشاكل الاجتماعية، من جهة أولى، والوحش الكبير الذي يلتهم الناس بالقرب من النهر من جهة ثانية، والعربي الفرناطشي، القاتل المتسلسل من جهة ثالثة، والمخزن من جهة رابعة بحسب رواية المْقدم. إن تعدد الأصوات بمفهوم ميخائيل باختين يجعل الحقيقة غير ذلك في آخر المطاف، إذ الرواية التي تقدمها الشخصية الأولى، لا تصمد أمام الروايات المتواترة حول الشيء نفسه. على امتداد مجموعة من الصفحات، يعالج السارد مفهوم الذات والجماعة من منظور سردي صرف، حيث تنقسم المادة الحكائية بين عالمين متناظرين ومختلفين، فالعربي الفرناطشي هو مجتمع بصيغة المفرد، والعكس بالنسبة لسكان الحي ككل. فالعربي يعيش حيوات متعددة داخل حياته الشخصية، يجمع بين المتناقضات، وقصصُه المختلفة، تختزل الحي، كما تختزل عالم الحثالة بشكل عام، كما يمكن أن يكون الأب البيولوجي لمعظم أبناء الدوار. وفِي المقابل فسكان الحي وإن تعددت شخوصه، فهم يعيشون على إيقاع رتيب وانقسامي نابع عن فكرة وحيدة؛ فكرة البدوي الذي باع أرضه فاستوطن المدينة غصبا عنه، ليعيش على هامشها، غير عابئ بمتغيرات جماعة الحثالة نحو الاندحار الأبدي والبدايات الأولى. صيرورة الحياة متوقفة، منذ زمن الله الأول. ولأن المدينة تتجه إلى الأمام، تبدو حياة الحثالة وبالضرورة، ونظرًا للتنافر الحاصل بينها وبين نمط المدينة، أنها عائدة أدراجها إلى الأسفل اللامتناهي. لا يستطيع القارئ تلمس أحداث النص، خاصة الاستهلال البدئي الذي يتحدث عن الخال الماركسي اللينيني، إلا بعد مرور مائة وعشرين صفحة تقريبا، إذ ستعرف الرواية منعطفا واضحا في مجرى الأحداث، حيث سيتحدث المقدم وسط الجامع بعد صلاة العصر، عن جماعة من السياسيين الملحدين بالحي الصفيحي. وبما أن السلطة قد باشرت عملية التصفية الجسدية بحقهم، إذن فالخالُ ضحية بالضرورة. وراء كل هذه الأحداث المتشعبة والعميقة، تكمن لغة مكتنزة، استطاعت أن تغطي على الأحداث في الكثير من المقاطع السردية، حيث إن الكاتب محمد بنميلود، وإن راهن منذ البدء على عمق الفكرة، وقوة التفاصيل، والاتجاه المأسوي الذي ينحوه البطل، وكذا البعد الفلسفي في تناول القضايا، غير أنه استطاع أن يثير القارئ من خلال الأسلوب السردي الكثيف الذي يصل إلى ذروته في العديد من المقاطع الطويلة. إن الرهان على الموضوع لوحده، لا يكفي، إذ لابد من نقله وتعزيزه بلغة سلسة متميزة تثويرية. لقد أفلح الكاتب في تعزيز أسلوبه بالكثير من المفردات التي استقاها من اللغة المغربية اليومية، مع محاولة وضعها في قوالب صرفية تنضبط للتصريف اللغوي العربي، ما جعل لغة النص تتماهى فيها اللغة المغربية التي تأتي على لسان إحدى الشخصيات، أو السارد في حالات أخرى، مع اللغة المعيارية، ما جعل الرواية عموما، رواية تجريبية تنحو منحى النموذج. ورد في الصفحتين 123 و124 «كل ما كان يقوم به بعد أن يضع الكيس داخل الحفرة، هو قذف مزيد من الأغصان الجافة داخل بيت النار. تستعر النار سريعا لتصل أمام عينه الزجاجية وروحه السوداء وقلبه الميت إلى أقصاها بتدرج ألوانها من الأحمر الداكن إلى البرتقالي المتوهّج إلى الفاتح المهدئ للأعصاب إلى الأبيض الثلجي الصاهر إلى الأزرق الصافي، في تدرجات متواترة، تريح قلبه وخاطره، يصل صهدها إلى وجهه وكيانه ووجدانه فيتحمس أكثر ويسرع الدم في عروقه أكثر وتتلبسه سعادة باطنية عجيبة غامرة». إن المشهد وإن كان بشعا، من حيث محتواه، إذ يتعلق بقذف العربي الفرناطشي ضحاياه في قلب لهيب نار الفران، غير أن اللغة قد لطفته، فجعلت المتلقي يريح أعصابه المشدودة، كما أراحت النار في تقلب ألوانها روح العربي المنذرة بالشؤم والخراب. إن ما ينقذ القارئ من قتامة الواقع الذي تسرده الرواية، هي اللغة الشاعرة التي تُصَيِّر البشاعة جمالا، والواقعية الموغلة في التفاصيل التي تتلون بأناقة الألفاظ التي استقاها الكاتب من أسلوبه الشاعري والقصصي. يتضافر في هذه التحفة الفنية الموضوع والأسلوب ليخلقان فسيفساء من الانسجام والتناغم الذي يستعيد للنص توازنه ووسطيته ما بين قتامة الواقع وجمالية اللغة الرصينة والمعالجة السردية المحكمة والشمولية للعمل الروائي.
«الحي الخطير» أو عندما ينفلت النص من عقال النقد
الكاتب : زهير دادي
بتاريخ : 18/05/2018