تحملنا الكاتبة والصحفية بديعة الراضي في حلقاتها الرمضانية إلى ربوع لبنان، ذلك البلد البعيد عنا جغرافيا لكن علاقات ممتدة في الفكر واللغة والتعدد الثقافي تربطنا به، بمشترك قوي عمَّقته عوامل تاريخية استطاعت أن تذوب الجغرافيا، بين مغرب يقع في نقطة هامة واستراتيجية في القارة الإفريقية، وبين لبنان يقع في غرب القارة الآسيوية، بتنوعه الثقافي والسياحي ونسيجه الاجتماعي المتنوع الذي يتبلور ليشكل كيانا متلاحما ومختلفا في نفس الآن…
مع بداية ظهور النتائج الأولى من الانتخابات التشريعية اللبنانية الحاسمة – بعد زمن قارب التسع سنوات، عمل فيها اللبنانيون على رسم خرائطهم باتفاق سُطر كقانون للانتخابات بإمكانه العمل على تمثيل كل التيارات في البرلمان، وهو القانون الذي لو كان عندنا في المغرب لسميناه «قانون الوزيعة» أو «جطي جطك»- التي أبانت عن تقدم في بعض الدوائر لصالح حزب لله، خرج بعض المحسوبين على نصر الله ونبيه بري إلى شوارع بيروت وتحديدا المعاقل المحسوبة على تيار المستقبل في مواكب استعملت فيها السيارات والدراجات النارية، وأطلقت فيها الشعارات، في حركات استفزازية تطاولت على رموز ومقرات تيار الحريري مما أحدث رعبا في أوساط الساكنة، وأثار تخوفات اللبنانيين من عودة الفوضى والانفلات الأمني إلى بلادهم. وهو الأمر الذي حول البلد في تلك الليلة إلى حالة طوارئ بعد تحرك الرئيس سعد الحريري، وإجراء اتصالاته بالأجهزة الأمنية- كما أعلنت عن ذلك مصادر رسمية- لمعالجة الفلتات الأمنية في بيروت واتخاذ التدابير اللازمة بأقصى سرعة ممكنة قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة، الشيء الذي كان متبوعا بإدانات من «حركة أمل «و»حزب الله»، تعبيرا على أن هذه الأمور غير مخطط لها، وأنها تدخل في إطار تداعيات عادية لزمن انتخابي ولردود أفعال شخصية، وهي الإدانات التي دونت في بيانات، أكدت لغتها «أشد عبارات الإدانة لكل المظاهر المقيتة التي حدثت في بعض شوارع العاصمة بيروت والتي أساء فيها بعض المحسوبين على حركة «أمل» و«حزب لله» لإنجازاتهما» و«أن هذه التصرفات اللامسؤولة، لا تعبر عن سلوكيات وأدبيات وأخلاق ومناقبية أبناء الإمام الصدر، و«حزب لله» وهي ممارسات مدانة بكل المقاييس الأدبية والأخلاقية والدينية، نضعها ومرتكبيها والقائمين عليها برسم الأجهزة الأمنية والقضائية لاتخاذ التدابير القانونية بحقهم، لردعهم وإحالتهم للقضاء المختص».
وهي البيانات التي لم تخف حجم التذمر، الذي عبر عنه بعض الذين استمعنا إلى آرائهم في مختلف الفضاءات التي ترددنا عليها، خاصة في المقاهي حيث يختار اللبنانيون موعدهم اليومي مع فنجان قهوة أو كأس مشروب من نوع آخر. ومن هؤلاء من يقاطعون الانتخابات لكنهم خائفون من زمن حرب لاتزال معالمها تلقي بالظلال، تنتصب خرابا وسط جمال رسمه اللبنانيون بكل تحد في كافة الواجهات التي يبدو أن أموالا كبيرة ضخت فيها باستثمارات كبرى يستحسنها الجميع، رغم كل الفوارق الطبقية التي عملت على توسيع المسافة بين لبناني الفوق ولبناني الهامش.
وسط هذا الكل بدا حسن نصر لله هادئا، أو هكذا أراد أن يبدو كتكتيك للدفاع عن لبنان الذي يريد، قال إن «إجراء الانتخابات بحد ذاته إنجاز وطني كبير يسجل للبنان ورئيس الجمهورية والحكومة، وأن القانون الانتخابي شكّل فرصة كبيرة للكثير من القوى والشخصيات السياسية للمشاركة والحصول على فرصتها».
لكن هذا الهدوء تخللته رسائل رد واضحة على خطاب سعد الحريري، عندما قال إن «الهجمة التي استهدفت المقاومة في الانتخابات جاءت نتائجها عكسية بدليل ارتفاع نسبة الاقتراع، وهم كانوا يحضّرون لعدم وصول ولو مقعد شيعي واحد إلى البيئة الحاضنة للمقاومة في بعلبك الهرمل وفي الجنوب لتوظيف الموضوع». وأن «استمرار الخطابات الحادة والتحريضية التي رافقت الحملات الانتخابية سيؤدي إلى مشكلة»، مشيراً إلى أن»من يريد الاستمرار بالتحريض هدفه إحداث فتنة في البلد».
وجدت نفسي مضطرة إلى التفتيش في ما دونته من توقعات في النتائج، تلك التي أطلعني عليها مصدري الموثوق فيه. كانت التوقعات قريبة جدا من واقع الأمر، فقلت متسائلة لماذا إذن يتوجه اللبنانيون إلى الانتخابات، مادامت الأمور محسومة، فاستدركت أن وضع البلد يستدعي ذلك والأهم من كل أشكال الاقتراع هو وحدة الصف اللبناني لمواجهة التحديات، في منطقة على صفيح ساخن. وهي القناعة التي جاءت متداخلة مع ما أكده رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في كلمة له عقب مائدة إفطار في القصر الجمهوري في بعبدا أن “الخطاب الحاد والعنف الكلامي يجب أن يتوقفا ولغة العقل يجب أن تعود، فالتحديات أمامنا كبيرة، داخليا وخارجيا، ولا يمكننا أن نواجهها إلا بوحدتنا وتضامننا وبإعطاء الأولوية للمصلحة الوطنية، علينا أن نُحكم إغلاق كل الثغرات الممكنة التي يمكن أن تنفذ منها رياح العنف والاضطرابات من الخارج إلينا، وعلى رأسها التشرذم، وتضارب المصالح والرؤى، تجاه ما نريده لوطننا وشعبنا، وأن الاستحقاق الأهم هو الوضع الاقتصادي المتردي بسبب التراكمات والأزمات المتواصلة لعشرات السنين، أضف إليها تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية وحروب الجوار…». انتهت كلمة الرئيس ميشال عون، ومازالت ستة أيام في لبنان تشغلنا بحرقة السؤال الذي شدنا من قفانا نحو هذا اللبنان الذي ترك بعضه فوهة البندقية متوجهة إلى صدر أطفاله ونسائه، ووجه منقاره إلى الحفر في رمالنا، صحرائنا حبات سقيت بدماء شهدائنا، ولهذا نقول بصوت مسموع: «ممفاكينش حتى نعرف الحقيقة كاملة، ونحن مستعدون لمواجهتها!».