إضاءة:
الكتابة الشعرية، خطاب قلق ودينامية متحولة باستمرار، أصبح بحكم الحداثة الشعرية صوتا داخليا لقائله، بعدما كان خارجيا تفرضه القبيلة أوالإيديولوجيا. تتحقق لذة تداوله بفعل سيرورة انفتاحه،على دهشة الإمكان واللامتوقع واللايقين .ولأن الكتابة الشعرية تأسيس لوجود تمنحه معنى ،فإنها تشيد عوالمه الممكنة انطلاقا من رؤيا لا يتأتى تأويل سيرورة أنساقها وتعالقات تشكيلاتها الاستعارية الرحبة ،إلا بالإنصات إلى بنياتها التعبيرية ، والحفر في تخومها و الكشف عن كيمياء أنساغها وتحولات متغيراتها التي لاتركن لسكون ولا تقف عند حدود . فاللغة الشعرية لا تقدم حقائق بقدر ما تطرح تأويلات، ونجاح اختراق عوالمها رهين بأسئلة الكشف وإصابة الاحتمال؛ ولاتتحقق الغاية إلا بقوة التفاعل الجدلي بين الأفقين : أفق النص وأفق القارئ. ولكل من هذين القطبين حمولتُه الفكرية والجمالية المحكومة بالسياقات السوسيوثقافية والتاريخية. ووحدها الكتابة الشعرية الحداثية لايمكن القبض أثناء تلقيها، على شيفرة المسافة الجمالية التي يتقاطع خلالها الأفقان أثناء التأويل بسهولة، لأن لها أسرارالإعتام والإضاءة ، وأسرارالفراغ والامتلاء ، وأسرار الكائن والممكن المتوقع. وكلما اتسعت دائرة الفجوة في المسافة بين الأفقين، ضاقت العبارة بالتكثيف، وكان الاندماج الدلالي والجمالي مكتنزا بالرؤى ومخاتلا بشتى الاحتمالات.
من هذا المنطلق يصبح التأويل اختبارا لما يفعله النص بالقارئ ، ومايفعله القارئ بالنص ؛كما يشير إلى ذلك تيري انغلتون في كتابه نظرية الأدب1.
تأسيسا على هذا التصورالبنائي لأسرار الكتابة الشعرية الحداثية، تُسوّغ هذه القراءة لنفسها اختيار معابرلها، باعتبارها محدداتٍ لولوجِ مغامرة ِالاختراق.
-عتبات النص:
-1 اللوحة:
لعل الغلاف /اللوحة/ كصفحة من صفحات ديوان «يد لا ترسم الضباب» للشاعر والناقد عمر العسري، باعتباره دالا سيميائيا ذا وظيفة جمالية ودلالية وتداولية ؛يساهم في تشييد الفضاء المعماري الجمالي والدلالي للديوان ؛ فهو يشي بتشييد التأويلات وتبئيرها ؛ فعلاماته البصرية التشكيلية واللسانية، أيقونات وإشارات دالة ،لكونها مفاتيح بانية لأفق قراءة فاعلة وليست منفعلة، كاشفة وليست استكشافية، تفتح للمتلقي نوافذ سبر أغوار النص الشعري وانبثاق تأويلاته . فصفحة الغلاف أول الودق وبهاؤه، وهي المسبارالأول الذي يرتكز عليه المتلقي لارتياد سهوب وأغوار الديوان ، واقتحام سراديبه ، والغوص في أرخبيلاته؛ بشكل يجعل سياق التلقي وأفقه ، مدركا لطبيعة التأويل أو التأويلات المحتملة ، وقادرا على ارتياد ما تطفح به الاستعارة الكلية من مجاهيل.
ففي أعلى اللوحة يبدو اسم الشاعر عمر العسري بارزا بحروفه الكبيرة . أسفله تبرز عتبة الديوان /العنوان واضحة بشكل جلي: «يد لاترسم الضباب».
على خلفية اللوحة ضباب كثيف أسود إلى حد العتمة ،يحجب الرؤية. مباشرة في أسفل العنوان وفي الأفق، يشع ضوء يخترق العتمة ، تمتزج ألوانه بين القرمزي والأبيض والرمادي ؛وفي الأسفل وبالرغم من هذا الشعاع الضوئي ،تشتد ظلمة العتمة أكثر ، وبالكاد تظهر حيوية الشارع المكتظ بأطياف سيارات وأشجار وعمود نور و عمود هاتف…
اعتمادا على البؤرة الدلالية لتقاطع العلامات البصرية واللسانية للوحة ،نستشف المكونين الاساسيين التاليين:العتمة والضوء .
-2 العنوان:
ونحن نواجه العنوان:›يد لاترسم الضباب› و حين نتأمل أحد مكوناته اللفظية/ الضباب ، تتكشف لنا المرجعية اللغوية في لسان العرب الذي يشير إلى أن الضباب سحاب يغشى الأرض كالدخان، يصير كظلة تحجب الأبصار لشدتها التي تغطي الأفق .ولعل تعالق العنوان مع جميع علامات اللوحة البصرية التشكيلية من جهة ، وباقي جسد الديوان/النصوص، يتراءى لنا الضباب/العتمة وقد اخترقه ضوء، ينبلج من رحم العتمة . وإذا ما ربطنا بين رمزية اللوحة التي توحي بها أيقوناتها، وبين دلالة العنوان الذي يشي بأن اليد لاترسم الضباب . أمكننا فتح المزلاج الأول وفي يدنا سراج لإنارة المعنى الأقرب إلى صلب الكون الاستعاري الذي تتساوق خلاله اللوحة والعنوان وباقي مكونات النص الموازي والنصوص العشرة المبثوثة التي يتشكل منها الكون الشعري للديوان (دوائر مائية- رغبة تعترضها الطيور- ماء دافئ تحت جسر أحمر- صمت الاوركيد- غيمة تحرس الألوان- إبرة القمر- نافذة على قمر بارد- حريق بطعم الفراشات-عطر اللامنتهى-زهور تخشى الماء)2 .وغير بعيد من هذا ، ندرك بقليل من التأمل أن الصورة الشعرية في «يد لاترسم الضباب» مستوحاة أيضا من اللغة المحكية (فالضباب له معنى اللاشيء /السراب/ الفراغ /الخواء في المحكي الدارج…وبذلك يومئ توظيف اللغة المحكية إلى المعنى التالي «يد لاترسم الفراغ/اللاشيء»)فماذا ترسم إذن ؟
-3 جدل العتمة والانبثاق:
يتعالق التعبير التشكيلي باللغوي الفصيح ،بالمحكي، بالعنوان ، بالنصوص وعناوينها المؤثثة لجسد الديوان ، فتتقاطع البنيات التعبيرية الرامزة لتشكيل الرؤى وتحفيز السعي الدؤوب للانبثاق ، كفعل وكشف عن مجاهيل الكتابة والذات والوجود . ويأتي تبين أسرارالرؤيا في «يد لاترسم الضباب» تأسيسا على ماسبق ، من خلال حركتين شعريتين:
*حركة العتمة:
يتمثلها المعجم الدلالي المكون من الألفاظ التالية:
تتنكر/خراب/انخفاض/قواقع/فارغة/أنصاف/أهملها/حزين/غريب/أخفقها/منطفء/ يرى رغبته3.
ورد على لسان الذات قصيدة*رغبة تعترضها الطيور*
هكذا أراها
غيمة قريبة من الرماد،
ترتدي قميصا من صوف ابيض منطفئ
تذبل بتوغل العواصف
تجد الصمت وثيرا للبقاء.4
إن الذات تعيش لحظة تراجيديتها من خلال التضاد بين أحلام الرغبة في الانعتاق ،وبين عتمة الواقع وإكراهاته الضاغطة بفناء لا يخلص الذات منه إلا السفر في الآتي .فالأمل يجد نفسه قريبا من الرماد ،منطفئا يذبل ، يصمت ، في شقاء وجودي جارح:
هناك صمت
مثل ضباب
مثل لعبة موت 5
حركة الضوء:
ويعكسها الحقل الدلالي :يصاعد- فراشة- تجاور الضوء- النافذة- تصنع العالم- الرؤية- سليمة-.
إذا كان شعرالعتمة وعيا بالوجع ، فإن شعر حركة الضوء حلم بالانبثاق ،وطموح للتجاوز ، وحدس للمحتمل الغائب الهارب ..
الصوت تعدى الإطار
معلنا رغبات
استطالت على قماش قصير
مثل فوهة الجبل 6
وفي مقطع شعري آخر:
غيمة
تصنع مطرا
فنطمئن لانتظام الفصول 7
النافذة تصنع العالم
تخلق فتاة تسير بمحاذاة الريح
بعينين مفتوحتين
سليمة تصل الرؤية
تلوح وتفكر
ثم تذهب هادئة ..8
هكذا في اللغة الشعرية، يرتقي الصراع بين جدلية العتمة والضوء إلى وعي بالانبثاق ، فيتحول الانفعال السيكولوجي إلى مضمون انطولوجي ،ترتوي منه الذات وتتقوى تجربة التحرر للتجاوز.
فكيف يتمظهر التصدير باعتباره نصا موازيا لإيقاد شرارة الانبثاق وبأي شكل؟
-4 التصدير:
إلى أبي:
*…حتى وان كنت أمشي في العتمة ،فأحضاني ممدودة صوبك ..لتعانقك*. 9
استوقفني طويلا هذ الدال المكتنز بالإيحاءات ، حيث يتلاقى الشعور واللاشعور، السرد والتخييل ، الشعر واليوتوبيا، الذاكرة والتأويل ، الذات والتراجيديا.. وكل ماتمدني به الذاكرة من مخزون حول مسرحية «هاملت» لشكسبير.ففي المسرحية، يعود شبح الأب من عالم الموتى ،لتتحول حياة الابن جزءا متمما لحياة الأب الحي /الميت.الشيء الذي جعل سيجموند فرويد في التحليل النفسي للأدب يسلط الضوء على بناء المسرحية فيرى من خلالها أعماق النفس البشرية، حيث تستيقظ الطفولة فتطفو على السطح ، متحررة في الإبداع بشكل لاشعوري من العقال رامزة إلى العلاقة بين الآباء والأبناء و نشوء الحضارة.ولعل تصوره هذا المشار إليه في كتاب «الطوطم والطابو» سيعتمد عليه دريدا بتأكيد فكرة فرويد بكون الأب لم يقتل ولم يمت أصلا، لأن له امتدادا في الابن والحياة.
وفي التصدير نستشف أن توقد وعي الذات الشاعرة يتجه صوب الخلق والحياة ،بحدس ممتد في الزمان والمكان نحو الآتي فالابن وهو يمشي في العتمة ، فإنه يخترقها بامتداده من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل . وحين تومئ الذات أنها تولي وجهها نحو الأب في الأزل ، فتلك لعبة اللاشعور الجمعي الممتدة في الزمان ؛حيث تتجه بوصلة التحول من خلاله نحو الاستمرار والديمومة للخلق ، تستند في امتدادها على قوة الهدم والبناء . فالأب/الرمز بدء،والأنا/الحاضر /عتمة وخلق لحاضر بامتداده نحو البدء ، ورحابة الأفق بكل وهجه الانطولوجي.
وإذا كان العديد من الشعراء تتملكهم الرغبة في التخلص من عقدة الأب الشعري المتمثل في الشعراء الكبار الرواد السابقين والمتزامنين لهم، فهل يحق لنا أن نقول أن الذات الشاعرة وهي تنسج لاشعورها صورة ذات بناء استعاري للتصدير تمد يدها للأب الغائب الحاضر.
قد يكون التصدير إحساسا قريبا من المشاعر الاوديبية (قتل الأب) لكن مادامت الذات تمد يدها إلى الأب ،فإن رمزية مضمون التصدير تظل تطرح العديد من أسئلة التأويل:
-هل رمزيته بالمعنى الشعري ويكون الأب الذي تُمَدُّ اليد إليه ،هواقتفاء آثار قصيدة الرواد السابقين لزمنه (المتنبي- أبو تمام- السياب- درويش-ادونيس ) لتواجه الذات الشاعرة نفسها بسؤال قلق وهي تكتب الشعر ،حول معنى الشعر ومفهومه وحقيقة أصوله وامتداداته في القديم والحديث منه والمعاصر؟وبالتالي فهل الأب رمز لزمن شعري منفلت؟ونداء منها عميق للبحث عن الكمال الشعري؟
أم أن الأب رمز لكينونة مفتقدة في زمن انطولوجي منفلت ؟ أم أن الأب/رمز في اللاشعور الجمعي للقوى المخلصة من تراجيدية الواقع والمصير؟ أم هذا وذاك وأشياء أخرى في الوجود والحياة والكتابة والوعي واللاوعي؟
الهوامش:
-تيري ايغلتون /نظرية الادب ص 105
1-يد لاترسم الضباب/دار ارابيسك/2010
2 -نفس المرجع
3 -نفس المرجع ص
4 – ص18
5 – ص 43
6 – ص 42
7 – ص 49
8 – ص 56
-9 التصدير 7