الفقيه الذي يهمنا في هذا السياق،غير مقيد بإطار تاريخي معين، أو بمكان جغرافي معلوم ،لأنه رمزٌ لهوية مركبة تحيلنا على مواكب الفقهاء الذين تستمر الأزمنة في مراكمتهم ، منذ فجر الرسائل السماوية إلى الآن، بمختلف انتماءاتهم الجغرافية والعرقية .
من بين الثغرات الكثيرة المتوزعة على طول وعرض الخطابات الإصلاحية والتنويرية، القولُ باستحالة مغادرة العالم العربي لدهاليز التخلف، ما لم يتشبع بروح الحداثة وقيمها، وهو شرط لن يتحقق في نظرها، إلا بتخلصه النهائي من جُبَّة الفقيه، التي تشُلُّ بثقلها الدلالي والرمزي، حركية العقل و المشاعر،ما يجعل الذات عاجزة عن استيعاب الأسئلة الجديدة،التي تطرحها إكراهات الحياة اليومية. والجدير بالذكر أن جبة الفقيه هاته، قد تحولت إلى»قضاء وقدر» من طول التصاقها بالجلد والعظم ، حتى ليجوز اعتبارها من بين أهم العوامل المتحكمة في آلية تفسيرنا وفهمنا لعوالمنا الصغيرة والكبيرة ، لكونها لا تني تبرهن على كفاءتها العالية في صيانة نسيجها الرمزي، عبر استخلاصها للعبر والدروس، من صلب الهزات الاجتماعية والسياسية، المترددة تباعا على الفضاءات العربية ، والتي بالرغم من إطاحتها بالكثير من الطابوهات و الثوابت، إلا أنها نادرا ما تفلح في المّسِّ بقداسة الجبة، التي من فرط تحكمها في روح وجسد الإنسان العربي، تجعله مدعوا للتيمُّن ببركاتها، كلما انتبه إلى ظهور أعراض توحي باحتمال حدوث انقلاب ما، في وتيرة حياته ، لتكون بذلك ملاذه الرحيم الذي يحتمي به من المخاطر المتربصة بهويته ، سيما وأنه لا يملك ما يكفي من الوقت لإعمال عقله، كي يهتدي إلى معرفة عِلل الأعراض المريبة ومسبباتها، لأن هذا العقل غير متعود أصلا على الاستجابة العملية والمباشرة، لما تبثه هذه الأعراض من رسائل وإشارات ، نتيجة تغييبه الدائم عن المشهد ، وإعفائه التام من مسؤولياته الطبيعية التي أمست ، وعلى امتداد أزمنة طويلة ، من اختصاصات جبة فقيه يحظى بإجماع ذوي»الرأي ‹›و»المشورة»، بصفته «المنقذ الدائم من الضلال» والمصطفى من قِبل العناية السماوية.
وتجدر الإشارة إلى أن الفقيه الذي يهمنا في هذا السياق،غير مقيد بإطار تاريخي معين، أو بمكان جغرافي معلوم ،لأنه رمزٌ لهوية مركبة تحيلنا على مواكب الفقهاء الذين تستمر الأزمنة في مراكمتهم ، منذ فجر الرسائل السماوية إلى الآن، بمختلف انتماءاتهم الجغرافية والعرقية ، فحيث تعثر الشريعة على موطئ قدم ثابتٍ لها هنا أو هناك، توجد ثمة الجبة ذاتها، للفقيه ذاته ، بصرف النظر عن هويته اللغوية، أو الإثنية. ولعل هذا التراكم اللانهائي والمتنوع في مرجعيات الخيوط العقدية التي يتشكل منها نسيج الجبة «المباركة «هو أحد العوامل الفاعلة في تقوية لحمتها وسداها ،كما أنه إلى جانب ذلك، أحد أهم العوامل المساعدة على تواجدها في قلب مدارات ثابتة ، لا تنال من خطاباتها التحولاتُ والمتغيرات لتظل بذلك محتفظة بفاعليتها في إحباط كافة المخططات الهادفة بشكل أو بآخر، إلى تمزيق نسيجها أو تعريضه للبلى والزوال. إنها بهذا المعنى، حريصة على تدارك ما يطال مهامها التنظيمية من اختلالات، باحتوائها للمزيد من الخيوط الاحتياطية ، المنتمية للتوجهات العَقَدية المتواجدة في شمال الأرض وجنوبها، بما يحافظ على مناعة نسيجها، كي تتصدى لمختلف الأنواء التحديثية. و الكلام هنا، ليس بالضرورة توصيفا لجوهر العقيدة الإسلامية، بقدر ما هو توصيف عام وشامل لفائض الحماس العقدي، المعتلج في دواخل شعوب وقبائل الأرض المنضوية تحت لواء الجبة ذاتها، والذي يتبلور في صيغة خطابات وعادات وطقوس، تتفاعل وتتكامل في ما بينها، بالرغم مما يشوبها من تناقضات جذرية ، تنعكس آثارها بشكل مباشر، على فهم وتأويل النصوص الأصلية، ذلك أن الهويات المتعددة التي يتميز بها الوعي الجمْعي لهذه الشعوب والقبائل ،تتكامل في إنتاجها لتصورات تخييلية، تلقي بظلالها الكثيفة على منابع العقيدة الأصلية، مُحْدثة فيها سلسلة طويلة من التحويرات والتشويهات، هي خليط من سرديات خرافية وأسطورية، يتم تكريسها وتبنيها على امتداد الزمن، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الدينية، وأيضا باعتبارها سلطة، تُحكِم قبضتها على الوجدان الفردي والجماعي، وفي تصورنا أن هذا الخليط المتعدد من الخطابات التي يهيمن فيها المتخيل الجمعي، على التعاليم العملية الحاضرة في النص الديني، وبمساهمة تلك الكائنات الغامضة واللآمرئية المقيمة في أقبية اللاوعي، هو المحرك الرسمي للقناعات الدينية، والمتميز بقوته التأثيرية التي تتجاوز سلطة العقل والتفكير. وفي اعتقادنا أن السبب المباشر في ذلك يعود على اهتمام الكائن ومنذ القدم، بأسئلة الوجود، خاصة منها أسئلة الخالق والمخلوق، باعتبارها الأصل في اشتغال الملكة التخييلية، التي يتفرد بها الكائن دون غيره من المخلوقات، بما يضعه مباشرة في قلب دوامات البحث عن أسرار الغيب، حيث تتراجع فعالية العقل ، مفسحة المجال لفعالية المتخيل الديني، كي يقوم بمهمة وضع الفرضيات والاحتمالات، وبناء الوقائع ، والتكهن بما كان وما سيكون، و الحديث هنا عن التخييل في علاقته باستكناه أسرار الغيب، هو حديث عن مقارباتٍ لتصورات، وحقائق ، تشْكو من تشوش كبير في دلالاتها ، كما أنه حديث عن تساؤلات، تقع خارج مجال العقل التجريبي بفعل اندراجها ضمن اختصاصات متَخيلٍ ،تُسنَد إليه مهمةُ تفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية، بأسلوب مستقل عن غيره من الأساليب والمنهجيات، لأن القضايا المدرجة ضمن اختصاصات التخييل الديني- وفيمقدمتها قضايا الغيب- تظل منفلتة وهلامية، ما يساعدها على التنامي والتوالد العشوائي، إلى أن تأخذ شكل إخطبوط أسطوري ، يُحكم قبضته على مختلف أنماط الوعي، فرديةً كانت أو جماعية ، معززا بسلطة جبة الفقيه، التي لا تصمد أمامها أغلب التوجهات النقدية المضادة.
ومرد ذلك أن الأسلوب الذي يتعامل به التخييل الديني مع الرسائل السماوية، يقتصر على»الحد الأدنى» من مضامينها المتفرعة والمتشعبة ، بتركيزه على عناصرها الأكثر تأثيرا في العواطف والانفعالات البشرية، من قبيل الأحداث المتعلقة بالخوارق والمعجزات ، وبكل ما من شأنه استقطاب واستضافة أفواج متتالية من المؤمنين، الذين يتوافدون زرافات ووحدانا، وقد تزودوا باختياراتهم الخاصة لمفهوم «الحد الأدنى»، وبمنهجاياتهم المستقلة التي يوظفها مِخيالُ الجبة في تأطير مكوناتِ هذا الحد، انسجاما مع خصوصيتهم الثقافية والاجتماعية ،ما يعني حضور تعدد وتنوع ملموسين في استراتيجيات التخييل ،التي يتعرض بموازاتها النص الأصلي إلى تصدعات وتشظيات، تؤثر بشكل ملموس في تفكيك وحدته، وتماسك بنياته.
إن أهم ما تنبهنا إليه إشكالية» الحد الأدنى» في هذا السياق ،هو تعذر التعامل من النص الديني من منطلق اعتباره بنية متكاملة ومتناسقة ،أسوة بالنصوص المتمحورة عادة حول قضايا مادية وملموسة، تخص إشكاليات حقل معين من الحقول التجريبية،التي تستدعي مقاربتُها إعمالَ العقل والمنطق، عوض ملكة التخييل .أي أن»الحد الأدنى» المستنبطَ من النص الديني،يتميز بلغة اختراقية تتوجه مباشرة إلى مشاعر الإنسان وأحاسيسه الداخلية والحميمية ، مخاطبة فيه تلك الكائنات الغامضة، التي سبق للأزمنة القديمة أن راكمتها في لاوعيه ومخياله كلما وجد نفسه عرضة للتيه، وهو بصدد البحث عن تأويلات شافية لما يجِدُّ في حياته اليومية من قضايا، تخص الظواهر الطبيعية الغامضة ،وخاصة منها ظاهرة الموت والانبعاث. فقوة التأثير التي تحدثه هذه الظواهر في اللاوعي ، تصرف جبة الفقيه عن الاهتمام بغيرها من القضايا النصية، ذات البعد العقلاني، كما أنها تحفز مخيالها ليتولى مسؤولية فهم وتأويل المعطيات الحاضرة في ما سميناه بالحد الأدنى.
تأسيسا على ذلك ، يمكن القول إن القناعات الدينية لدى العامة، ونسبة غير قليلة من الخاصة، تنهض على قاعدة المقولات المستخلصة من المادة التي يوفرها «لحد الأدنى» بدعم من ملكة التخييل العقدي، والتي تتحول بفعل تغييب العقل، إلى قوة خفية تمارس هيمنتها على الوجدان، كي يظل حيثُ هو ، سجينَ دهاليز التخلف، بشكل يصعب معه التكهن بإمكانية اندماجه في رؤية مُخَلِّصَة، اسمها العلمانية .