تقديم
تهدف هذه الدراسة إلى تتبع تجربة إبداعية للمبدع حامد البشير المكي بلخالفي، من خلال القصة الرابعة ضمن المجموعة القصصية «قبضة من الواقع في بركة من الخيال»، وقد اختار لها عنوان «أتحبها وهي مجنونة؟». ومن هذا المنطلق سنحاول البحث عن كيفية اشتغال المعنى من خلال هذا المُنْجَزِ الجمالي المتفرد، بوساطة مقاربة تيمة الحب التي عرفت اهتماما بالغا داخل الثقافة الإسلامية القديمة والحديثة، ومن منطلقات متباينة. فقد اهتم بها الفقهاء كما اهتم بها مؤلفو كتب النوادر والأخبار، فضلا عن الفلاسفة –وبالخصوص مسألة الحقيقة وعلاقتها بالعشق- كإخوان الصفا وابن سينا وغيرهم. فالحب ظاهرة ذات مراتب وعَتَبات متضاربة من حيث الدوافع والأهداف والخاصيات. وكل مرتبة ترجع إلى قيم ومعايير خاصة إما بنوعية الكائن أو الشخص المحب أو الشخص المحبوب، أو قد ترجع لنوعية العلاقة ذاتها – علاقة الحب – وإلى طبيعة الميول والرغبات التي تقوم عليها.
1 – تجليات الحب عند حامد البشير
إن التسلسل المنطقي لأحداث القصة عبر عشرة مشاهد، يوحي بتعالق جملة من التيمات وتداخل العديد من القيم، أهمها قيمة الحب التي يتجسد حضورها داخل المتن المدروس في ارتباطها بالجنون. حيث تتضح الرسالة التي يسعى الكاتب إلى ترسيخها في ذهن المتلقي، وهي كون الحب الصادق والوجد الطاهر العفيف يسهم إسهاما وافرا في علاج الإنسان المصاب بالمرض النفسي المزمن وإخراجه من غيهب الجنون. فبطل القصة الطالب أيوب ظل يبحث عن زوجة صالحة تتحلى بالقيم النبيلة والمبادئ السامية، إذ قالت له والدته كنزة قبل وفاتها: «لا ينقصك إلا زوجة صالحة تحفظ مالك وعرضك»1. غير أن البحث المتواصل عن شريكة الحياة جعله يصطدم بالواقع المر، هذا الواقع الذي يفصح عنه الحلاق الذي دأب على معالجة شعر أيوب وذقنه: «قدرك يا حبيبي أنك جئت إلى هذه الدنيا متأخرا، فأسواق الزواج أصبحت حامية الوطيس في بلدنا هذه الأيام، تعلو أسهمها على مدار الساعة، نظرا للمضاربات التي تهجم علينا من الشمال والشرق»2.
وأخيرا تحقق الهدف المنشود والغاية المتوخاة بمستشفى الأمراض النفسية والعقلية، حيث التقى الطالب أيوب بسحر المجنونة، فأصبح متيما بها إلى حد الجنون، بيد أن هذا الحب المرتبط بالجنون، حب سعيد، يخلق الراحة السَّرمدية مع حركات السمو والانطلاق الحر. وهذا ما أشار إليه الطالب في أعقاب حديثه عن قصته الغرامية الغريبة: «لقد تعرفت على فتاة يا أستاذي الكريم، في ظروف لا تخلو من غرابة، أحبتني حبا عنيفا قاهرا، وبادلتها نفس العاطفة بقوة، ما زالت تشدني إليها وتشد لبي ليل نهار، حتى أصبحت همي الأكبر»3. نستنتج أن خطاب القصة يمتح من معجم عاطفي وجداني، يضفي على الموضوع الذي يجمع بين المرسِل والمرسَل إليه حمولة عاطفية ودينية، بحيث نجد المعجم العاطفي يتشكل صحبة المعجم الديني، القائم على التعلق بالشريعة الإسلامية.
يعد الحب –عند بطل القصة- غاية يصبو إلى تحقيقها وهذا ما جعله يكابد لواعج الاغتراب والألم فلجأ إلى البكاء، لكونه يعاني من الافتقار الذي يستعيض عنه بزمن آخر هو زمن الحب والامتلاء، بوساطة آلية الرؤية الخاصة.
نستخلص الإفصاح عن الحب الصادق والمشاعر الفياضة والقلب النابض الذي تصطليه حرارة الهوى، فتبدأ المعاناة الروحية. تقول سحر المجنونة: «أيوب هو دوائي وشفائي، هو وعيي وضميري وهو مصباحي الذي ينير حياتي»4. ومع ذلك فلا شيء ألذ ولا أحلى ولا أغلى من أن يحترق العاشق بنار الحب الذي تتغذى منه نفسه وتمنح حياته ما هي له أهل من التوازن الروحي، الذي لا تكتمل لذة الحياة إلا به.
وتبعا لهذا كله نلفي القيم الواردة في «أتحبها وهي مجنونة؟» ترتبط بوشائج موضوعاتية، تشيد انسجامها وتوافقها، ليقدم العمل الإبداعي تجربة عميقة في امتزاج الروح بحركية الأشياء والمعاني داخل الإنسان. ومن ثمة تولد صور غير معيشة من قبل، وتدعو الآخر/ المتلقي ليعيشها لأول مرة، لأن الأمر يهم عيش غير المعيش، والانفتاح على رحم اللغة.
2 -جمالية الرمز الأنثوي
تعد المرأة خمرة الإبداع ورحيقه، يرتشفه المبدع فتأخذه نشوة، بل خطفة عقلية وما ينتبه منها إلا وفي فمه لحن سماوي، يتذوقه القارئ. وقلّ أن ترى أدبا رفيعا مجردا عن ذكرها، ففيه من روحها حلاوة، ومن دلالها نغمة، ومن غنجها رقة، ومن فتور عينها هيمنة. وعلى هذا الأساس اتخذ الكاتب حامد البشير من الأنثى رمزا موحيا إلى الحق والجمال. ومن أجل استمالة المتلقي ودفعه إلى الاستئناس بتجربة الحب، لجأ الكاتب إلى رمز الغزل العذري، لأنه يقوم على أسمى المشاعر الروحية وهي الحب الذي يصبح غاية في ذاته. وهذا ما يتضح بجلاء من خلال هذه الصورة التي عبر بها بطل القصة عن قصته الغرامية للسارد الأستاذ عيسى: «سحر هي تلك المجنونة التي أحببتها حتى الجنون»5.
نستشف تلازم المعيش بالجنون في الحب حسب هذه التجربة الإبداعية التي يطبعها العنصر العجائبي والغرائبي، وقد كان ابن عربي أشد وعيا بهذا التلازم حينما اعتبر أن المحب يتميز بلسان لا يتكلم به إلا المجنون. قال أيوب للدكتور عدنان: «وقعت في حب سحر حبا حتى الجنون، ولا أريد عنها بديلا، لأن حدسي لم يخطئ هذه المرة»6. ومن هنا نجد الكاتب يتوسل في إبداعه المتميز بقوالب أسلوبية موروثة عن الغزل العفيف. ومن هذه الأساليب خاصية الجنون التي وسمت شخصية بعض العذريين، وخلخلت قواهم الشعورية نتيجة الصراع بين مبدأ العشق ومبدأ الواقع، مثل شخصية قيس بن الملوح الملقب بمجنون ليلى.
يعد الرمز تعبيرا غير مباشر عن فكرة بواسطة استعارة أو حكاية بينها وبين الفكرة مناسبة، وهكذا يكمن الرمز في التشبيهات والاستعارات. ومن ثمة فالرمز مظهر يخفي حقيقة جوهرية يكتشفها المبدع فيه. وهذا ما توضحه الصورة التالية: «رفع أيوب رأسه إلى السماء فطار بصره ليحلق بعيدا وكأنه يريد أن يلمس تلك القبة السوداء المرصعة بأعداد لا تحصى من الآلئ البلورية التي تبدو وكأنها ترقص»7. تفصح الذات عن نفسها من خلال لغتها ومن خلال الوجه البلاغي الذي تحكي به علاقتها بالعالم والأشياء والقيم.
يستلزم الرمز الخبرة بما تكنه المحسوسات الخارجية من جمال وعلاقات ترسم مدلولا معينا وتؤدي إلى مزيد من التفاعل بين الخيال والواقع، ويكون الرمز حينها لمحة من لمحات الوجود الحقيقي، يدل عند ذوي الإحساس الواعي على شيء من المستحيل ترجمته بلغة عقلية. ومن هنا، فإن اللغة الرمزية تتميز بالروعة والقدرة على تمثيل الأشياء وتصويرها تصويرا خياليا عن طريق التمازج بين التجربة الداخلية وبين التجارب الخارجية للإنسان عامة. الأمر الذي جعل لغة القصة توحي بعوالم خيالية تتألف من عناصر مستخلصة من تجربتنا للعالم الحقيقي.
على سبيل الختم
نستخلص، مما سبق ذكره، أن لغة الكاتب المهندس حامد البشير المكي بلخالفي تعبر تعبيرا صادقا عن تجربة الحب الطاهر، ولذلك نجدها تتجاوز الإدراكين الحِسِّي والعقلي إلى إدراك الحلم الروحي الذوقي القائم على ملكة الخيال والباعث للانفعال والمولد للذة الشعور عند المرسِل والمتلقي. لذة الأول كامنة في بلوغه مقام السمو الروحي، ولذة الثاني تتجسد في ما يمكن أن يشعره من بِشْر وحبور وهو يدخل عالم الصفاء والنقاء المقدس. ومن ثم نستطيع القول إن هذا المنجز السردي الجمالي مكون إبداعي/ تخييلي غير محدود، وزمانه أيضا لا نهائي، تنتفي فيه كل الأبعاد، وتتجسد فيه الرؤية الممتدة إلى ما لا نهاية.
هوامش:
(Endnotes)
1 المشهد الثاني، ص.52.
2 المشهد الثالث، ص. ص. 71- 72.
3 المشهد الأول، ص. 32.
4 المشهد الخامس، ص. 106
5 المشهد الثاني، ص. 73.
6 المشهد الخامس، ص. 109.
7 المشهد الخامس، ص. 103