تحت أشعة الشمس الحارقة، يستريح جنود سوريون وإلى جانبهم بنادقهم عند معبر نصيب الحدودي مع الأردن الذي غابوا عنه طوال ثلاث سنوات، وحولهم يتجول عناصر من الشرطة العسكرية الروسية.
بدا المعبر اليوم مهجورا تماما سوى من العسكريين السوريين والروس، في مشهد غريب نسبيا على طريق كان يشكل منفذا تجاريا حيويا بين سوريا والأردن قبل اندلاع النزاع في العام 2011 ثم سيطرة الفصائل المعارضة عليه في 2015.
عند مدخل المعبر لا يزال علم المعارضة ذو النجوم الحمراء الثلاث مرسوما على حواجز اسمنتية. وفي المقابل، رفع الجيش السوري حديثا على مبنى المعبر العلم الرسمي بنجمتيه الخضراوتين.
وأتت السيطرة على المعبر بموجب اتفاق أبرمته روسيا مع الفصائل المعارضة، وينص على وقف لاطلاق النار في محافظة درعا وإجلاء المقاتلين والمدنيين الرافضين للتسوية الى شمال غرب البلاد.
وأتى ذلك بعد عملية عسكرية بدأت في 19يونيو وتمكن خلالها الجيش السوري بدعم روسي من التقدم سريعا على حساب الفصائل المعارضة في المحافظة الجنوبية.
عند المعبر، يقف أحد الجنود، شاب نحيل لوحت الشمس الحارقة وجهه، بالقرب من دبابة كتب عليها “بنت الفرات”.
ويقول لفرانس برس “رافقتي هذه الدبابة في جميع المعارك التي خضتها (…) كنت أنا أول من دخل الطريق إلى المعبر، شعرت باعتزاز كبير”.
وفي مكان قريب، شاهدت مراسلة فرانس برس خلال جولة نظمتها وزارة الإعلام السورية للصحافيين عناصر من الشرطة العسكرية الروسية يقفون إلى جانب آلياتهم التي رفع عليها العلم الروسي، الأزرق والأحمر والأبيض.
ارتدى هؤلاء بزاتهم العسكرية الفاتحة اللون، وضعوا خوذهم على رأسهم، ارتدوا نظاراتهم الشمسية، حملوا أسلحتهم وكأنهم في حالة تأهب دائمة.
ومنذ أشهر، جعلت دمشق من استعادة المعبر المعروف باسم “جابر” من الجهة الأردنية أولوية لها.
وقال مصدر عسكري عند المعبر للصحافيين “أغلقنا المعابر الحدودية والطرق غير الشرعية، ووضعت الدولة يدها على منفذ اقتصادي مهم يصل سوريا بالأردن والخليج”، مضيفا “للمعبر أهمية اقتصادية كبيرة، لكن وجه الفرحة عنا بإعادة بقعة من الجمهورية العربية السورية إلى حضن الوطن”.
وتأمل السلطات السورية مع استعادة السيطرة على معبر نصيب أن تعيد تفعيل هذا الممر الاستراتيجي واعادة تنشيط الحركة التجارية، مع ما لذلك من فوائد اقتصادية ومالية.
وكان معبر نصيب يستخدم أيضا لنقل الصادرات من لبنان برا إلى الأسواق العربية من خضار وفواكه ومواد غذائية وغيرها.
كما اعتادت مئات الشاحنات المحملة بمختلف انواع السلع والبضائع المرور عبر هذا المعبر الى المنطقة الحرة الاردنية السورية المشتركة لتنزيل بضائعها المتجهة الى دول الخليج واوروبا الوسطى والشرقية عبر تركيا والبحر المتوسط.
وبعد استعادة نصيب، بات الجيش السوري يسيطر على حوالى نصف المعابر الحدودية الرسمية الرئيسية الـ19 بين سوريا والدول المجاورة، وبينها خمسة مع لبنان، واحد مع كل من الأردن والعراق، بالاضافة الى معبرين مع تركيا برغم إنها اقفلتهما من جهة حدودها.
وعند معبر نصيب، انهار سقف إحدى البوابات وبدت لافتة زرقاء اللون مكسورة وقد كتب عليها “الجمارك”، كما سدت حافلتان صدئتان مقلوبتان أحد مداخله.
وأمام احد المباني الرئيسية، علقت لافتة كبيرة كتب عليها “الجمهورية العربية السورية – الجيش الحر – الجبهة الجنوبية”.
وقرب المدخل، اصطفت عدة ابنية صغيرة كانت تشكل سابقا السوق الحرة للمعبر، لكنها اليوم بدت خالية تماما وكتب على أحد جدرانها “جبهة انصار الاسلام”، في إشارة لإحدى الفصائل العاملة سابقا في المنطقة.
وبالقرب من العسكريين الروس، رفع جنود سوريون شارات النصر إلى جانب دبابة وضعت عليها صورة الرئيس السوري بشار الأسد، وحرق آخرون علم المعارضة الذي تطلق عليه “علم الثورة”.
وعلى بعد أمتار منهم يمزح أحد الجنود مع الصحافيين قائلا “لا تصوروا خفي هذا هو اليوم الاول الذي ارتديهما، فانا لم اخلع جزمتي العسكرية منذ عشرين يوما “.
محافظة درعا مهد حركة الاحتجاجات
تعتبر محافظة درعا في جنوب سوريا، حيث تم التوصل مساء الجمعة إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين النظام السوري والفصائل المعارضة، مهد حركة الاحتجاجات ضد نظام الرئيس بشار الأسد التي بدأت عام 2011.
وجاء رد فعل النظام قاسيا جدا: فقد اعتقلت السلطات الفتيان وقامت بتعذيبهم بحسب ناشطين، ما أثار الغضب وشكل شرارة انطلاق انتفاضة غير مسبوقة.
في درعا، ندد المتظاهرون بسياسة النظام الاقتصادية مهاجمين الشركات التي ترمز الى النظام مثل الشركة المشغلة للخليوي “سيرياتيل”، التي يملك القسم الأكبر منها أحد أقرباء الأسد. وانتشرت الشعارات ضد الفساد في المدن المجاورة.
وكانت هذه المدينة السنية (75 الف نسمة) تغرق في فقر فاقمه الجفاف الذي كان يضربها منذ سنوات عديدة، الأمر الذي سر ع عملية النزوح الريفي.
واتهم سكان هذه المنطقة الزراعية المحافظ السابق بتأجيل الحصول على سندات الملكية ومنع حفر آبار للر ي.
وتكتسب محافظة درعا خصوصيتها من موقعها الجغرافي على الحدود مع كل من الأردن ومرتفعات الجولان السورية التي تحتلها اسرائيل. وتعد أحد آخر معاقل الفصائل المعارضة في سوريا التي منيت بهزائم متتالية خلال السنوات الماضية، كان آخرها الغوطة الشرقية قرب دمشق.
واعتمدت قوات النظام في محافظة درعا الاستراتيجية ذاتها التي اتبعتها في الغوطة الشرقية وحلب قبلها، عبر القصف العنيف ثم التقدم ميدانيا وفصل مناطق الفصائل الى أقسام وتقليصها ثم إجبار مقاتلي المعارضة على التفاوض والرضوخ للتسويات. ويتواجد تنظيم الدولة الإسلامية في جيب صغير في جنوب غرب المحافظة.
وشهدت المحافظة بشكل منتظم معارك بين قوات النظام والفصائل المعارضة.
في بداية عام 2016، استعادت القوات الحكومية السورية مدعومة من سلاح الجو الروسي ومقاتلي حزب الله السيطرة على بلدة الشيخ مسكين (جنوب) قرب الحدود مع الاردن. وتشكل هذه البلدة تقاطع طرق استراتيجيا يؤدي شمالا الى دمشق وشرقا الى السويداء. كما أنها تمكنت من السيطرة على بلدة عتمان قرب درعا في الجنوب.
وشهد الجنوب السوري الذي يضم محافظات درعا والقنيطرة والسويداء، وقفا لإطلاق النار توصلت إليه روسيا والأردن والولايات المتحدة اثر مفاوضات في يوليو 2017. كما أنه إحدى مناطق خفض التصعيد الأربع في سوريا التي اتفقت موسكو وطهران وأنقرة على انشائها.
لكن بعد سقوط الغوطة الشرقية في ابريل 2018، أصبحت درعا هدف النظام الجديد.
وفر بين 270 ألف و330 ألف سوري من هذه المنطقة في ضوء تصعيد القصف المدفعي والغارات الجوية لقوات النظام.
وقبل انتهاء المفاوضات الجمعة، كان النظام قد تمكن بفضل اتفاقات برعاية موسكو، من السيطرة على عدد كبير من المدن خصوصا بصرى الشام التي كانت تخضع لسيطرة الفصائل المعارضة منذ مارس 2015.
وتشتهر بصرى الشام، التي كانت محطة مهمة على طريق القوافل القديمة المتوجهة الى مدينة مكة، بمسرحها الروماني وآثارها المسيحية القديمة جدا.
وهذه المدينة مدرجة على لائحة التراث العالمي لمنظمة الامم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو).
نازحون يعودون إلى منازلهم
بدأ آلاف النازحين بالعودة إلى منازلهم في محافظة درعا إثر التوصل الى اتفاق برعاية روسية يوقف القتال ويتيح لدمشق استعادة المحافظة الجنوبية بكاملها، مهد الاحتجاجات التي اندلعت ضد النظام في العام 2011 قبل تحولها نزاعا داميا .
وإثر ضغط عسكري كبير ثم مفاوضات قادتها روسيا، توصلت قوات النظام والفصائل المعارضة في محافظة درعا الجمعة إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، يتضمن إجلاء المقاتلين والمدنيين الرافضين للتسوية إلى شمال غرب البلاد.
وحققت قوات النظام السوري بذلك انتصارا جديدا على الفصائل المعارضة التي منيت بهزائم متتالية في البلاد خلال السنوات الثلاث الماضية.
ودفعت العملية العسكرية لقوات النظام بدعم روسي في درعا منذ 19 يونيو أكثر من 320 ألف مدني للنزوح من منازلهم، وفق الأمم المتحدة، وتوجه عدد كبير منهم إلى الحدود مع الأردن أو الى مخيمات موقتة في محافظة القنيطرة قرب هضبة الجولان المحتلة.
وقال مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن لوكالة فرانس برس السبت “عاد منذ عصر الجمعة أكثر من 28 ألف نازح إلى بلداتهم وقراهم في ريف درعا الجنوبي الشرقي”، مشيرا إلى أن حركة العودة مستمرة باتجاه المناطق التي يشملها الاتفاق.
وبالإضافة إلى عملية إجلاء غير الراغبين بالتسوية التي لم يحدد موعدها حتى الآن، يتضمن الاتفاق وفق وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) عودة النازحين الى بلداتهم ومؤسسات الدولة الى ممارسة عملها.
وشاهد مراسل فرانس برس عشرات العائلات في سيارات وشاحنات وآليات زراعية يمرون من مدينة درعا في طريقهم إلى قراهم في ريف درعا الشرقي.
وقال مصدر عسكري اردني لفرانس برس “عادت أعداد كبيرة (من النازحين) الى الداخل السوري خلال الساعات الـ24 الماضية بعد الاتفاق بين اطراف النزاع”، مقدرا بقاء نحو عشرة آلاف فقط عند المنطقة الحدودية.
وكان الأردن رفض فتح حدوده أمام النازحين قائلا أنه لم يعد قادرا على استيعاب المزيد.
ويخشى نازحون في المقابل، وفق عبد الرحمن، “العودة إلى مناطق دخلتها قوات النظام خوفا من الاعتقالات”.
وأعرب النازح أسامة الحمصي (26 عاما ) لفرانس برس عن تأييده للاتفاق ولكن أيضا خشيته من الاعتقالات.
وقال “أؤيد الاتفاق لوقف القتال والدم، يكفينا قتلا وتهجيرا، اطفالنا ونساؤنا تشردوا عند الحدود (…) لكن الروس والنظام السوري ليس لهم أمان”.
وأضاف “حين نتأكد من صحة وقف اطلاق النار، وإذا ضمنا أن أحدا لن يلاحقنا وحصلنا على ضمان حتى لو بسيط، نريد ان نعود الى بيوتنا بدلا من ان نبقى مشردين في المزارع”.
وخلال العامين الأخيرين، شهدت مناطق سورية عدة اتفاقات مماثلة تسميها دمشق “مصالحات”، آخرها في الغوطة الشرقية قرب دمشق، وتم بموجبها اجلاء عشرات آلاف المقاتلين والمدنيين الى شمال البلاد.
ويتضمن اتفاق درعا، وفق سانا، “استلام الدولة السورية كل نقاط المراقبة على طول الحدود السورية الأردنية”.
وتزامنا مع جلسة التفاوض الأخيرة الجمعة، استكملت قوات النظام سيطرتها على كامل الشريط الحدودي مع الأردن ووصلت الى معبر نصيب الحدودي الذي سيطرت الفصائل عليه في أبريل 2015.
واعتبر المصدر الأردني أن “عودة الجيش السوري تخفف بالتأكيد الأعباء الأمنية بالنسبة للجيش الاردني على الحدود”، موضحا “نحن نتعامل الآن مع جيش نظامي، مع كيان قائم بذاته، جيش الى جيش وليس مجموعات”.
ومن المقرر أن يتم تنفيذ الاتفاق في درعا على ثلاث مراحل بدءا بريف المحافظة الشرقي إلى مدينة درعا وصولا إلى ريفها الغربي، وفق ما قال حسين أبازيد مدير المكتب الاعلامي في “غرفة العمليات المركزية في الجنوب” التابعة للفصائل لفرانس برس.
وأوضح المسؤول أن “العمل بدأ في المرحلة الأولى مع دخول الجيش السوري الى معبر نصيب وبدء تسليم (الفصائل) الدبابات الى القوات الروسية”، مشيرا إلى أن المرحلة الثانية ستتضمن إجلاء رافضي الاتفاق من دون أن يحدد موعد تنفيذها.
وقال الباحث في المعهد الأميركي للأمن نيك هاريس لفرانس برس “حصل الأسد على ما يريده من الاتفاق وهو السيطرة على المنطقة الحدودية بين سوريا والأردن في درعا، ونزع السلاح الثقيل تدريجيا من الفصائل، وإعادة نفوذ حكومته في الجنوب السوري”.
وتكتسب درعا خصوصية من ناحية موقعها الجغرافي على الحدود مع كل من الأردن ومرتفعات الجولان السورية التي تحتل اسرائيل قسما منها.
ومنذ بدء التدخل الروسي في سوريا في العام 2015، حققت قوات النظام السوري انتصارات متلاحقة على حساب الفصائل المعارضة.
وقال الباحث في مجموعة الأزمات الدولية سام هيلر لفرانس برس إنها “هزيمة جديدة كبيرة” للفصائل المعارضة، التي بات ينحصر وجودها بشكل أساسي في محافظة القنيطرة المجاورة وفي ريف حلب (شمال) الشمالي وادلب (شمال غرب) حيث هيئة تحرير الشام.
وعن وجهة قوات النظام المقبلة، أوضح هيلر “يبدو أن الحكومة السورية ستتجه لاحقا إلى القنيطرة (…) وهو أمر معقد اذ عليها أن تجد طريقة للتقدم من دون إثارة الإسرائيليين والتسبب بتحرك اسرائيلي عسكري مدمر”.
واكدت اسرائيل مرارا ان اكثر ما يثير خشيتها هو وجود مقاتلين إيرانيين او من حزب الله اللبناني قرب حدودها.
كما يتوقع أن يخوض الجيش السوري عملية عسكرية ضد الجيب الصغير الذي يسيطر عليه تنظيم الدولة الإسلامية في جنوب غرب درعا. وكان الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله قال الأسبوع الماضي إن مصير هذا الجيب “واضح و محسوم”.