رأيتُه، أولَ ما رأيتُه، خطيبا، كان يخطب فينا نحن تلاميذَ الثانوية، ويحرضنا على الإضراب، شدني إليه صوتُه الجهوري، ثم فصاحتُه التلقائية، ثم أفكارُه المنظمة، وجدتُ أن كثيرا من المستمعين يعرفونه: إنه (المزكَلدي زعيم الطلبة). ثم التقيت به في بيت صديق مشترك، وناقشته وعرفتُ اتجاهه السياسي الكامن خلف المطالب القطاعية التي يطرحها أمام الطلبة، وأقنعني بالانضمام إلى اللجنة المدبرة للإضراب، وكتابة بلاغاتها ومنشوراتها، والتواصل مع الصحف لنشرها.
ومنذ ذلك اليوم البعيد في بداية ستينيات القرن الماضي ونحن رفاق وأصدقاء، بالرغم من اختلاف اتجاهاتنا في ما بعد.
عشتُ معه لياليَ بيضاء، قضيناها في النقاش مع الطلبة، وعرفتُ فيه خلالها حنكةَ السياسي الذي لا تُتعبه مقارعةُ خصومه بقدر ما تتعبه مناقشةُ أنصاره، ولا سيما حين تدفعه الظروف إلى التراجع خطوةً أو التنازل درجة.
وعشتُ معه لياليَ بيضاءَ قضيناها في الكوميسارية، وهو معزول عنا في (الكاشو)، مكبَّلَ اليدين معصوبَ العينين، ونحن محشورون في زاوية ضيقة من الساحة الداخلية للكوميسارية، نرفع أصواتنا ــ رغم الضرب والسب ــ بالغناء والأناشيد والآيات لنخفف عنه من جهة، ولنُسمع المارةَ في الشارع القريب من جهة أخرى.
وعشتُ معه النفيَ إلى معسكرات الجيش في الجنوب، وهو يناقش الرفاقَ ليصمدوا، ويناقش الضباطَ ليقنعهم بقضيتنا.
وعشت معه محاولات العلاج من الضرب الوحشي الذي تلقاه، وسبَّبَ له نعاسا مستمرا نتندَّرُ به أمامه ويتندَّرُ معنا دون حَرَج.
ثم فرقتنا ظروفُ العمل والعائلة واستمرارُه الصامد في النضال السياسي والنقابي، وانصرافي إلى القراءة والكتابة.
ولكنه ظل وفيا للصداقات القديمة دائما، وكان يزورني في بيتي بين الحين والحين، ويزودني بأخبار رفاقنا وأصدقائنا الذين كان يزورهم خلال رحلاته النضالية في أصقاع المغرب المختلفة.
آخر مرة زارني لم يستطع صعود درج العمارة إلى الطابق الرابع حيث أسكن، اتصل بي هاتفيا، وقال لي:
أنا في باب عمارتك.
عمارتي؟ بشرك الله بخير، اصعد!
انزل أنت!
ونزلت فوجدتُه جالسا بباب العمارة على كرسي أعطاه له مشكورا صاحبُ المصبغة المجاورة الطيّب، ورأيت في يده عصا يتوكأ عليها، يتكلم بصعوبة، ويتحرك بصعوبة، ويشكو من السكّر أساسا، جلسنا طويلا في المقهى القريب، وحين كنا نتذكر أيام الستينيات القديمة، كان يُصحح لي ما أرويه عنها، ذاكرتُه أقوى من ذاكرتي، ومعرفتُه بالجديد من أخبار أصدقائنا أحدث من معرفتي، والجلسةُ معه في هذا الجو الشَّجيّ لا تُقدَّرُ بثمن.
لن أتحدث عن صموده وثباته على مبادئه ولا عن نزاهته وبذله لوطنه وشعبه كل ما يستطيع، دون أن يأخذ لنفسه شيئا، فذلك يعرفه الناس.
أنا أتحدث فقط عن حزني.. وعن ألمي.. وعن دهشتي: (الملاقات) مات؟
كيف تستطيع كلمة صغيرة كهذه (مات) أن تستوعب كوكبا بهذا الحجم، وبهذا الغنى، وبهذا الإشعاع، وبهذا الحب الغامر للناس.. ثم تغيب به في حيث لا أدري من الكون كثقب أسود؟؟ كيف؟
رحمك الله صديقي العزيز، وجازاك بقدر ما أعطيتَ وأجزل.
نلتقي هناك قريبا ياصديقي، ونستعيد معا ذكرياتنا العزيزة:
وإنَّ امْرَأً قد سار سبعين حِجَّةً = إلى منهلٍ، من وِردِهِ لقريبُ